المُصلِح جون نوكس .. نموذج رجل الصلاة
الهدى 1210 يونيو 2019
أحد أهم النماذج المذهلة عن قوة الصلاة، تتجسد في المصلح الانجيلي الاسكتلندي جون نوكس. ويعتقد بعض المؤرّخين، أن تحوّل اسكتلندا إلى الإيمان الإنجيلي المصلح، يعود إلى قوّة صلاة نوكس. فصلواته اخترقت قلوب الكثيرين، وهزّت عرش السياسيين.
ومن الألقاب التي أُطلقت على المصلح جون نوكس، لقب «لاهوتي الصلاة». وذلك لشدة تركيزه على أهمية وفعالية الصلاة في حياة المؤمنين والمؤمنات في الكنيسة. كتب في العام 1533، أطروحة عن الصلاة أعلن فيها مفهومه عن للصلاة الصحيحة، أسماها، «الصلاة الكاملة». قال: «الصلاة هي الغصن الذي ينمو من الإيمان الحقيقي. فالذين يهملون الصلاة لا يفهمون معنى الإيمان الحقيقي، لأنه لا يمكن أن تلهب نارًا دون أن ينبعث منها حرارة. وهكذا، من غير الممكن أن يكون هناك إيمانًا حقيقيًا دون صلاة». قام نوكس في أطروحته بطرح تساؤلات المؤمنين عن الصلاة، وأجاب عليها، مبتدءًا بالسؤال الأول:
ما هي الصلاة الكاملة؟
الصلاة هي التكلّم بشغف مع الله الذي نخبره عن مآسينا واضطراباتنا ونلتمس منه العون أوقات صعوباتنا كيما يقف إلى جانبنا. ونقدّم له الشكر والحمد من أجل بركاته علينا. فعندما ندرك شخص الذي نقف أمامه ونتكلّم معه ونطلب منه، فهذا يحثّنا على تقديم الوقار الأعظم له وأن نطلب كل شيء بوقار وخشوع، ذلك لأننا نقف في محضر خالق السماء والأرض وكل ما فيها والقادر على كل شيء، الذي تخدمه وتطيع عظمته الأبدية آلاف من الملائكة. يجب أن ندرك أننا نتكلّم لمن يعرف أسرار قلوبنا ويكره الكذب. لهذا، يجب أن نطلب الأشياء التي تؤول إلى مجده وإلى إراحة ضمائرنا. يجب أن نحرص بكل ما أُعطينا من قوة على إزالة كل الأمور والأفكار التي قد تسيء إلى حضوره الإلهي والتي تمثل اهتماماتنا الأرضية وتفكيرنا الجسدي الذي يمنعنا من التأمّل في عظمة شخصه، وذلك كيما نتمكّن من الصلاة إليه بدون تقطّع وبجديّة. لكن كم هو من الصعب أن نقوم بذلك. فلا نسأل في صلواتنا من أجل شهوات قلوبنا الغبية وإنما كل تلك الأمور التي ترضي الله وتسره. فإبليس عدوّنا. أكثر وقت يكون مشغولاً فيه عندما نكون نصلّي إلى الله لكي يمنعنا من التركيز على صلواتنا، ويتسلّل خفية إلى قلوبنا وأفكارنا محاولاً إعاقة صلواتنا وأن ينسينا ما يجب أن نصلّي لأجله. فنرى، دون أن ننتبه، أننا نتكلّم عن أباطيل هذا العالم أو تصوّراتنا النفسية.
قد يعترض البعض ويقول، بالرغم من أننا لا نعرف ماذا نصلّي لأجله، لكن الله يعرف أسرار قلوبنا وحاجاتنا. وبالتالي، لماذا أصلاً نصلّي له؟ يجيب نوكس، هؤلاء الناس يكشفون عن نفسهم بأنهم لم يفهموا يومًا معنى الصلاة الكاملة، ولا لأية غاية أوصانا الله بالصلاة. فالغاية من رفع صلواتنا إلى الله هي ما يلي:
أولاً: أن تلتهب قلوبنا باستمرار بمخافة ومحبّة الله الذي نركض إليه كيما يعيننا في أي وقت نطلبه. لا سيّما في أوقات صعوباتنا. فإننا عندما نتعلّم أن نكشف له عن رغبات قلوبنا، فإنه يعلمنا ما يجب أو لا يجب أن نصلّي لأجله.
ثانيًا: أن ندرك أن الله وحده هو الذي سمع لطلباتنا وصلاحه ووجوده غير المحدود ثابت في أذهاننا. فإدراكنا لهذا يجعلنا نصلّي إليه بحرارة والتهاب قلب.
لماذا يجب احترام شريعة الله المقدسة؟ وكيف يتشفّع الروح القدس فينا؟
يقول جون نوكس، أن الشيء الثاني الذي يجب أن نحافظ عليه كيما تكون صلاتنا كاملة، هو:
- احترام شريعة الله المقدسة، عندما نقف أمام محضر الله، يحثّنا على الاعتراف بآثامنا الماضية والتوبة عنها وعيش حياة جديدة. وإلاّ ستكون كل صلواتنا باطلة لا نفع منها. يقول كاتب سفر الأمثال: «مَنْ يُحَوِّلُ أُذْنَهُ عَنْ سَمَاعِ الشَّرِيعَةِ فَصَلاَتُهُ أَيْضاً مَكْرَهَةٌ.» (أمثال 28: 9). وإشعياء يقول: « فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَماً.» (أشعياء1: 15). وبالتالي، التوبة الحقيقية والإقلاع عن حياة الإثم والخطية يجب أن تسبق صلواتنا.
- التواضع في محضر الله: علينا أن نحرص أن نتواضع في محضر الله. أن نضع نفوسنا ونرفض برّنا الذاتي وآراءنا الباطلة. فلا نظنّ أن الله سيسمعنا إذا كنّا نطلب ما هو لذواتنا ومصالحنا الشخصية. فكل ما ينبع من برّنا الذاتي يرفضه الله في محضر رحمته. يخبرنا الكتاب المقدس أن أكثر الناس قداسة كانوا أكثر الناس تواضعًا. فالمرنّم يصلّي إلى الله، قائلاً: «لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ الأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعاً لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدّاً. أَعِنَّا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا مِنْ أَجْلِ مَجْدِ اسْمِكَ وَنَجِّنَا وَاغْفِرْ خَطَايَانَا مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ.» (مزمور79: 8-9). والنبي إرميا يصلّي: «وَإِنْ تَكُنْ آثَامُنَا تَشْهَدُ عَلَيْنَا يَا رَبُّ فَاعْمَلْ لأَجْلِ اسْمِكَ. لأَنَّ مَعَاصِيَنَا كَثُرَتْ. إِلَيْكَ أَخْطَأْنَا.». والنبي أشعياء صلّى: «هَا أَنْتَ سَخَطْتَ إِذْ أَخْطَأْنَا … وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا وَقَدْ ذَبُلْنَا كَوَرَقَةٍ وَآثَامُنَا كَرِيحٍ تَحْمِلُنَا. لاَ تَسْخَطْ كُلَّ السَّخَطِ يَا رَبُّ. وَلاَ تَذْكُرِ الإِثْمَ إِلَى الأَبَدِ. هَا انْظُرْ.» (أشعياء64: 5-6، 9). والنبي دانيال صلّى: «أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ. يَا سَيِّدُ اسْمَعْ. يَا سَيِّدُ اغْفِرْ. يَا سَيِّدُ أَصْغِ وَاصْنَعْ.» (دانيال9: 5و19). يقول نوكس، لاحظ أنه في كل تلك الصلوات، لم يكن هناك أي ذكر لأي برّ ذاتي أو استحقاق شخصي. لكنّها اعترافات إيمان نابعة من قلوب متواضعة. لم يكن لديهم شيئًا يعتمدوا عليه. اعتمدوا فقط على رحمة الله المجانية. إذ وعدهم أن يكون ربّهم كما فعل لنا بابنه يسوع المسيح في أوقات اضطراباتنا. لهذا، فإنه بعد اعترافهم بخطاياهم حصلوا على رحمته.
كيف يتشفّع الروح القدس فينا؟
يقول جون نوكس، «بدون إعانة الروح القدس لضعفاتنا وتشفّعه بقوّة لأجلنا بأناتٍ لا ينطق بها اللسان، فإنه لن يكون لنا رجاء أننا نستطيع أن نصلّي من أجل تحقّق الأشياء وفقًا لإرادة الله». أقصد بذلك، أن الروح القدس يحرّك أذهاننا ويمنحنا الرغبة والجرأة كيما نصلّي ويجعلنا ننزعج ولا نرتاح عندما يتمكّن إبليس من تسبّب الشرود لنا، فلا نركّز عندما نصلّي. وبالتالي، نصبح غير عارفين لما نصلّي لأجله. ولا تُعلن حقيقة رغبات قلوبنا وتتداخل الأفكار الباطلة في أذهاننا. وبالتالي، لا نستفيد شيئًا من الصلاة. فننسى لماذا يجب أن نصلّي ونفهم ما نصلّي لأجله.
ما الذي يتوافق مع صلواتنا؟
- الصوم وأعمال الرحمة: يقول نوكس، إلى جانب صلواتنا الحارّة، يجب أن نرفقها بالصوم وأعمال الرحمة ومساعدة الفقراء. يقول، مع أن الله لا يقبل صلواتنا على أساس أي من هذه الأمور الثلاثة، إلاّ أن أهميتها تبقى أنها محفّزات لنا تمنعنا من الاتجاه نحو الباطل وتجعلنا قادرين على الاستمرار في الصلاة التي يقبلها الله في رحمته. كما يذكر نوكس، أنه عندما يكون هناك صلوات لقديسين من الكتاب المقدس، يبدو وكأنها تشير إلى برّ ذاتي مثل صلاة النبي داود: «احْفَظْ (يا الله) نَفْسِي لأَنِّي تَقِيٌّ. يَا إِلَهِي خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ الْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ.». يوضح نوكس أن تلك الصلوات لا تتحدّث عن ثقة داود ببرّه الذاتي، لكنها تشير إلى أنه يعتبر نفسه من أولاد الله من خلال الإيمان به. إذ وعدهم أن يكون رحومًا معهم ويسمع لصلواتهم. فكلماته هذه خرجت من إيمان ثابت وحار في رحمة الله اللامتناهية، إذ دعاهم إلى معرفته وعدم السير في شرورهم. بل يكيّفوا حياتهم بحسب شريعته المقدسة وذلك كيما لا يتركهم دون تعزية ورأفة وحنو في أوقات الضرورة الكبرى لكي لا يضعون ثقتهم في أنفسهم. فصلواتهم تلك كانت كيما تقوّيهم وتثبّتهم في محضر الله. فصلواتهم كانت شهادة صادقة في ضمائرهم الصالحة بحسب مواعيد الله.
- يقين سماع الله لصلواتنا واستجابتها: يقول جون نوكس، «لا نظن أن الله لا يسمعنا». لكنَّ الله يقول في سفر إشعياء: «وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ.» (إشعياء65: 24). ثم يعلّق نوكس على هذه الآية قائلًا، «هذه المواعيد لم تعطَ لإسرائيل في الجسد (أي شعب الله في القديم)، وإنما أعطيت لإسرائيل الروحية. التي هي الكنيسة، جماعة الإيمان الذين يؤمنون بالمسيح ربا ومخلصا، ويتمسّكون بخلاص الله. قال الله: «لحيظة تركتك. وبمراحم عظيمة سأجمعك» وبالتالي، يقول نوكس، «يجب أن نتذكّر، أن رجاء الحصول على استجابة الله لصلواتنا، تعتمد على مواعيده. فعدم استحقاقنا، لا يقف عائقًا أمام استجابة الله لنا». وقد أضاف نوكس، «لا يعتقد أحد أنه لا يستطيع أن يصلّي إلى الله، لأنه قد أساء إلى عظمته في الزمن الماضي. لكن ليأتي إلى الله بقلب ثابت وبتواضع، قائلاً له: « أَنَا قُلْتُ: يَا رَبُّ ارْحَمْنِي. اشْفِ نَفْسِي لأَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ.» (مزمور 41: 4). فمع أننا، لا يمكن أن نقارن برجالات الله القدّيسين العظماء الذين سبقونا في القداسة وطهارة الحياة، إلاّ أننا جميعًا متساوون في مواعيد الله لنا، كوننا اعطينا نفس الوصية، دعوة الله لنا، للتوجه بالصلاة اليه.
يقول نوكس، لا شيء يسيء الى الله أكثر من أن نشكّ أن الله سيستجيب لصلواتنا. فموقفنا هذا هو شك في قوّة الله ووجوده. إن الاضطرابات والمخاوف التي تجتازنا، وخوفنا من تدهور أوضاعنا، قد تضعنا في وضع صعب. لكن الشك يجعل من صلواتنا بلا فائدة. فلنأخذ مثال داود، الذي عندما كان في خوف واضطراب بسبب ملاحقة شاول له لقتله، فإنه صلّى قائلاً: «يَا رَبُّ إِلَهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. خَلِّصْنِي مِنْ كُلِّ الَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي وَنَجِّنِي. لِئَلاَّ يَفْتَرِسَ (شاول) كَأَسَدٍ نَفْسِي هَاشِماً إِيَّاهَا وَلاَ مُنْقِذَ.» (مزمور7: 1-2). فقد حفظ الله داود وسط الصعوبات والتهديدات التي تعرّض لها وطمأنته مواعيد الله إلى أن زالت مخاوفه. نرى في المزمور 7، أن صلوات داود لله قد غيّرت واقعه. إذ بعد كل تلك التهديدات، قال عن شاول: «يَرْجِعُ تَعَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَى هَامَتِهِ يَهْبِطُ ظُلْمُهُ. أَحْمَدُ الرَّبَّ حَسَبَ بِرِّهِ. وَأُرَنِّمُ لاِسْمِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ» (مزمور7: 16- 17)، قال نوكس، إنَّ هذا المزمور لم يكتب فقط لداود، ولكن لكل الذين يمرّون في صعوبات ويتألّمون منها حتى نهاية العالم.
خاتمة
يقول نوكس، «عندما نصلّي يجب أن نحذر أن نشتهي أن يحقّق الله لنا الطلبات نفسها التي رفعناها بصدق إلى الله لأنه ليس هناك شيء أكثر مكرهة أمام الله من الرياء، مما يعني أن نطلب شيئًا ونتوقّع شيئًا آخر. فقد قال: «كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين، تنالونه». أو نطلب من الله أشياء لا حاجة لنا إليها. أو أن نعتقد أننا نستطيع الحصول عليها من أحد آخر غير الله. متى فعلنا ذلك، فإنّ الله لن يستجيب لصلواتنا. يجب أن نطلب في صلواتنا ما نحتاج إليه كما علّمنا المسيح أن نصلّي في الصلاة الربانية: «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم».