زيارة مريم لأليصابات
الهدى 1217 يناير 2020
هذه زيارة هامة في قصّة الميلاد، وواحدة من فصولها الهامة، وهي ليست زيارة استثنائية أو عارضة، ولكنها أساسيّة لا يمكن تجاهلها لما فيها من بعد إنسانيّ وإيمانيّ، وهي على نفس الأهمية من قصّص الميلاد مثل: زيارة المجوس للمسيح (متى 2: 1 – 12)، وزيارة الرعاة أيضًا (لوقا 2: 8-20).
ترجع أهمية هذه الزيارة لأنَّها تمت بعد بشارة الملاك لمريم مباشرة (لوقا 1: 26 – 38)، والتي جاء فيها هذا النبأ العظيم: «وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (لوقا 1: 36 – 37).
والسؤال هنا: لماذا ذكر الملاك أليصابات بالذات؟ والإجابة على هذا السؤال تحمل عدة معاني منها: قد يكون هناك علاقة قوية بين مريم وأليصابات، وهذا وارد من فاعليات وتفاعلات الزيارة. وقد يكون أيضًا تدليلاً على قدرة الله وعمله المعجزيّ، حيث ذكر عن أليصابات أنها في حالة الشيخوخة، علاوة على ذالك كونها عاقرًا. ولكن الله يمنحها نسلاً، حيث ذُيّلَ الخبر «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (لوقا 1: 37). وقد يؤكّد هذا على نوعيّة الأصدقاء والمشيرين الذين نلجأ لهم في وقت الأزمة أو الصدمة. وقد تكون كل الاحتمالات مجتمعة معًا جعلت الملاك يذكر حصريًا اسم أليصابات في حدث البشارة والميلاد.
والسؤال الثاني: لماذا ذهبت بسرعة إلى إليصابات؟ تذكر القصة حال الذهاب «بسرعة»، وتتلخص الإجابة في الآتي: لتبارك وتفرح مع إليصابات بالخبر السعيد غير المتوقع من خلال كلام الملاك لها، وفي نفس الوقت تقصّ عليها حكايتها، وبشارة الملاك لها بما فيه من تحديات وصعوبات. ولهذا السبب ذهبت مريم بسرعة محتملة عناء السفر ومشقته من الناصرة إلى مدينة يهوذا حيث بيت زكريا، وقد كلفها عناء السفر أربعة أيام على الأقل، فالمسافة بين الناصرة واليهودية تزيد عن مائة كيلو متر.
تبين هذه الزيارة مجموعة من الأبعاد الهامة في العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة بين البشر، ولا سيما في أهمية الافتقاد والزيارة والسؤال بين الأهل والأحباب، كما تؤكِّد على فكر المشاركة، واختيار نوعية الأصدقاء.
ونحن نعيد قراءة هذه القصة اليوم نخرج منها بمجموعة من المبادئ والأفكار قد تساعدنا في حياتنا، وهي:
1) مشاركة الأخر.
2) الثقة المتبادلة.
3) الامتلاء بالروح والوعي.
4) ردود الفعل الإيجابيّة: التواضع، الفرح.
أولاً: مشاركة الأخر (المساندة والتعضيد)
ذهبت مريم إلى أليصابات نسيبتها لأنها سمعت من الملاك خبرًا سعيدًا ومفرحًا، حبلى في شيخوختها لتلك المدعوة عاقرًا. ذهبت لتشارك اليصابات فرحتها، ليس هذا فحسب ولكن أيضًا تحكي لها عن ما حدث من بشارة الملاك لها، وعن هذا الحدث الذي أدهشها، ولكنها قبلته بالإيمان والطاعة، قائلة: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِك» (لوقا 1: 38).
فكرة المشاركة تظهر بوضوح في هذه الزيارة مشاركة بالفرح ومشاركة بالحدث. رغم فارق السن بين مريم وأليصابات، ولكن العلاقات طيبة وقوية ليس هناك ما يُسمى بفجوة بين الأجيال ولكن بالتواصل والتلاحم. ورغم البعد المكانيّ يبدو من الزيارة أنهما كانتا قريبين من بعضهما البعض.
لجأت مريم العذارء إلى أليصابات المسنة لكي تشاركها فرحتها وتحكي لها عن حياتها وما جرى لها في الوضع الجديد، كلاهما لدية اختبار، وكل واحدة لديها حكاية مختلفة وما حدث في هذا التلاقي هو الذي حدث مع تلميذي عمواس حين ذهبا إلى أورشليم ليخبرا بما حدث لهما مع يسوع المسيح عند كسر الخبز وكيف انفتحت أعينهما وعرفاه (لوقا 24: 13 – 35). وتعتبر أليصابات مثالا يحتذى به في المساندة والقبول غير المشروط وسط رفض مجتمع بالكامل، وخوف عذراء من حكم مجتمع قاسي، كانت أليصابات الملجأ للاحتماء.
والسؤال الذي يتحدانا جميعًا تطبيقًا على هذا الأمر هو: عندما يكون لدينا أسرارًا لمن نحكي؟ ولمن نشارك؟ لمن نبوح بما بين الضلوع من خبايا وأسرار؟ لمن نشكو همومنا؟ لمن نشارك أحلامنا وطوحاتنا؟ حتى ألامنا وانكساراتنا؟
كيف أتعامل مع الأحداث المفرح منها وغير المفرح؟ وهل نفرح مع فرح الأخرين ونحزن لآلامهم؟ قد يكون الفرح لأجل أفراح الأخرين أصعب من الحزن مع أحزانهم؟ ويكون لديَّ نفس شوق مريم للذهاب بسرعة إلى أليصابات؟
مريم وأليصابات نوعيات خاصة من البشر، قال الملاك لمريم: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ» (لوقا 1: 35)، ونقرا أيضًا عن أليصابات «وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (لوقا 1: 41). هذا يعني أن هناك قاسم مشترك، عمل الروح القدس الذي يوحد ويفهّم، ويعطي سندة ومعونة خاصة.
موقف مريم وأليصابات يبين لنا نضج العلاقة بين البشر، وانفتاح الحب على الأقرباء والمعارف والمؤمنين في إطار علاقة متميزة من النضوج والروحانيّة والاستمرارية في العلاقة فقد مكثت مريم عند أليصابات ثلاثة شهور كاملة (لوقا 1: 56)
ثانيًا: الثقة المتبادلة
يتطلب نجاح العلاقات بين البشر وجود الثقة المتبادلة، والشركة والعلاقات الطيبة في الأسرة والكنيسة تنمو في جو من الثقة. ومن المعروف أنَّ الثقة تنهار بسرعة وتُبنى بصعوبة. ذهبت مريم إلى أليصابات بكل ثقة وتحدثت أليصابات إلى مريم بكل ثقة. مناخ الثقة يخلق الاحترام المتبادل ولغة الحوار الراقية، ويبدد كم كبير من المخاوف.
قد يكون لدى مريم مخاوف، وهذا أمر مشروع عبَّرت عنه من قبل: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟ (لوقا 1: 34). كيف يتقبل المجتمع وضعها؟ كيف سيتعامل الأقرباء والغرباء معها؟ جو الثقة ينفي النفاق والمجاملات الكاذبة، ويدفع إلى التقدم والنجاح، وما أروع الكلمات التي استمعت إليها مريم من أليصابات: «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ» (لوقا 1: 45).
أزمة العلاقات الموجودة حاليًا في المجتمع هي أزمة ثقة أولًا وأخيرًا، عدم اهتمام الشعب بما تقوم به الحكومة هو أزمة ثقة. في أسبوع واحد قرأت عن تطور غريب مريب في المجتمع المصريّ حيث ثلاث جرائم يقوم الزوج فيها بذبح زوجته، وهذا مردود لعدم الثقة.
جو الثقة جعل أليصابات تصدق مريم وتحضتنها، وتسمع لها، وتقتنع بها؛ فالقدير الذي صنع معها معجزة، هو هو الذي يفعل نفس الأمر بصورة أخرى مع مريم. علمت أليصابات أن مريم فتاة متميزة، قال لها: فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ (لوقا 1: 43). وهو نفس الموقف الذي عرفة توما بعد رحلة إيمانيّة عميقة من الشك لليقين: «ربي وإلهي» (يوحنا 20: 24). الإيمان هو الثقة في الله، وفي الأخرين أيضًا. ما أحوجنا إلى أن يشع نور الثقة في قلوبنا وبيوتنا وكنائسنا، ولنكن في حياتنا بناة ثقة.
ثالثًا: الامتلاء بالروح والوعي
امتلأت أليصابات من الروح القدس، وقالت كلامًا في غاية الأهمية عن مريم والمسيح ويوحنا. فعن مريم قالت: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ» (لوقا 1: 42)، وعن المسيح قالت: فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ (لوقا 1: 43)، وعن يوحنا قالت: «فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي» (لوقا: 1: 44).
الامتلاء من الروح القدس لم يفقدها الوعي، ولم تقل كلامًا غريبًا أو غير مفهوم، ولم تقل هذيانًا في غير محله. ولكن امتلائها بالروح القدس جعلها تفسر الأحداث تفسيرًا صحيحًا، فهي ربطت بين مريم والمسيح ويوحنا الجنين بطريقة رائعة.
الامتلاء بالروح القدس لا يجعنا نفقد الوعي، ولكن يساعدنا في فهم ذواتنا وواقعنا، في تواضع وخضوع واستيعاب للمواقف الصعبة في الحياة. ولعلّ موقف أليصابات الواعي والناضج والفاهم يوضع لنا دور الروح القدس في الحياة، حيث يخلق الوعي فينا في زمن قلّ وأندثر فيه الوعي فراح معه الإدراك وولى.
رابعًا: ردود الفعل الإيجابية
رأينا في هذه الزيارة مجموعة من الأفكار التي ميزت هذه الزيارة وعرفنا فكر المشاركة المبني على الثقة المتبادلة في وجود الملء بالروح القدس. كل هذه العوامل تخلق ردود فعل إيجابية طيبة، فالكلام الإيجابيّ يخلق فكرًا واتجاها إيجابيًا عكس الكلام السلبيّ الذي يدمر الفكر والحياة. نرى في هذه الزيارة ردود فعل إيجابية، نجملها في أمرين هما: التواضع، والفرح.
- من ناحية التواضع: أعلنت مريم من قبل: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا 1: 38)، وأعلنت أليصابات «فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ» (لوقا 1: 43)، خضعت مريم وعبرت عن نفسها بأنها أمة الرب، ورأت أليصابات نفسها في حجمها الطبيعي حين امتلأت بالروح القدس، الذي ساعدها أن ترى دورها وحجمها الطبيعي. التواضع هو أن يرى الإنسان ذاته كما هي دون تضخيم أو تصغير، دون كبرياء أو احتقار لذاته.
- الفرح: يركز البشير لوقا عن علامات الفرح في قصة الميلاد حيث يذكر عن الجنين أنه أرتكض بابتهاج (لوقا 1: 44)، والكلمة ارتكض في اللغة اليونانيّة يعني يقفز أو يطفر، ويكون المعنى أنه قفز أو طفر بابتهاج أي بفرح، وهي من الحالات النادرة في الكتاب المقدس التي تدعو للاندهاش والتعجب. فرح الجنين بالمسيح قبل بشارة الرعاة للملائكة: قَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11). وفي الزيارة أيضًا أنشدت مريم أفضل الأناشيد في الكتاب المقدس: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» (لوقا 1: 46- 47). الفرح صورة خيمت على معظم قصة الميلاد رأينا بعدين لها في هذه الزيارة فرح يوحنا قبل الميلاد وهو تعبير دلالي يبن دلالة وقيمة الحدث ثم نشيد مريم الذي تعبر فيه عن فرحها بالله مخلصها. الكلام الإيجابي والواقعي يخلق ويحفز ويفجر عند الناس طاقات الحب والفرح والإبداع.
في قصة الميلاد، وفي أحد مشاهدها الأوليّة والأساسيّة في زيارة مريم لأليصابات، وقفنا عند أهمية الزيارة، والمبادئ التي خرجنا منها، وهي: مشاركة الآخر، والثقة المتبادلة، والامتلاء والوعي، ثم ردود الفعل الإيجابيّة من تواضع وفرح. هي دعوة لنا أنَّه كل ما طبقنا هذه الأفكار في حياتنا حينئذ نحن نحيا فكر الميلاد.