هدية السماء للأرض
الهدى 1205-1206 يناير وفبراير 2019
عندما تبدأ احتفالات عيد الميلاد يبدأ الأهل في تحضير الهدايا لأبنائهم، ويتفنَّن كلّ منهم في ابتكار طرق تقديم هديته حتى تُصبِح من أبهج المفاجآت لأولادهم. وعادةً يقول الأهل لأولادهم إنَّ هذه هدايا من بابا نويل، يُحضرها لهم ليلاً بسبب رضاه عنهم.
لذلك ارتبطت مناسبة عيد الميلاد بتقديم الهدايا. ومنذ طفولتنا تعلَّمنا أمرَيْن هامَيْن: الأول، أنْ نقدِّم هدايا ليسوع في عيد ميلاده، لا أنْ نبحث ونطالب بها. والثاني، أنْ نقول نشكر مَن يقدِّم لنا هدية. بهذَيْن المعنييْن يجب أنْ نحتفل بعيد الميلاد. إنَّها مناسبة غنية بالمعاني، نتناول منها اليوم فِكرة الهدية. فطفل المذود هو هدية السماء للأرض، فكيف استقبلته الأرض؟ وكيف نستقبله اليوم؟
عندما ظهر الله بجبروته مرَّة في جبل سيناء، أرعد سيناء وارتعدت الأرض ودخَّنت الجبال واشتعلت ناراً، واستعفى الشعب من سماع صوت القدير لأنَّه أرعبهم. لكنه في ميلاد المسيح ظهر وديعاً بصوت خافت من فم رضيع، فاهتزَّت له أساسات السماء، وجاءت ملائكة السماء على الأرض تُسبِّح الله من فرط تأثيرها، لأن اتضاع الله أرهبهم. إنَّ البشر الخطاة لم يحتملوا جبروت الله وقوته، فارتعبوا. بينما الملائكة الأطهار اندهشوا جداً من تنازل الله واتضاعه، فهتفوا ورنَّموا. إنَّ سِرّ الميلاد لا يهزّ إلا القلوب التقية.
ومنذ أخطأ آدم وطُرد مِن محضر الله لم يسمع الإنسان صوتاً مُعزياً من السماء يدعوه للسرور والسلام. أما بميلاد المسيح فقد سمعت البشرية لأول مرَّة من السماء صوت العزاء.
هدية السماء:
ميلاد المسيح هو أعظم احتفال على وجه الأرض، كان على نفقة السماء. هدية عظيمة فاجأت بها السماء الأرض، أجمل تعبير عن اهتمام السماء بالأرض. وقد جمعت بين السماء والأرض.
حَمَلَ في صميم طبيعته وكيانه معنى الله ومعنى الإنسان، ففيه يُرى الله، في يديه الحانيتَيْن شافياً مُعافياً، وفي فمه مُعزِّياً مُفرِّحاً، وفي عينيه باكياً مُتألِّماً. وفيه أيضاً يُرى الإنسان، في طفل صغير يتعلَّم كلّ يوم ويتهذَّب في مدرسة الله. فلم يعُد الله، في المسيح، بعيداً عن الإنسان مُتجاهلاً أتعابه وأعوازه. ولم يعُد الإنسان، في المسيح، بعيداً عن الله مُتجاهلاً حبَّه ومراحمه. إذاً ففي المسيح يلتقي الله والإنسان، فهنيئاً للأرض بهدية السماء.
إنَّه كلمة السماء إلى الأرض، وقد جاءت في شكل هدية، بل هي هدية الهدايا. تكلَّمت السماء للأرض أيام نوح بلُغة السيول المُهلِكة، وتكلَّمت أيام إبراهيم بلُغة النار المُحرِقة، وتكلَّمت في أيام موسى بلُغة الشريعة الضَيِّقة. لكن يوم ميلاد المسيح تكلَّمت السماء للأرض بلُغة السرور والسلام والأنغام، فسمعت الأرض من السماء أنشودة الأناشيد، وتلقَّت هدية هادئة هادية
أنشودة الملائكة:
عندما نرى المسيح طفلاً مقمَّطاً مُضجعاً في مذود قد نُجرَّب ونتعجَّب ونقول: هل من المعقول أن يكون هذا ابن الله؟ لكننا عندما نرفع أعيننا ونرى اقتران ميلاده بتسبيح جيش من الجند السماوي نقول: يقيناً إنَّ هذا لا يمكن أنْ يكون إلا ابن الله. عندما بشَّر ملاك الرب الرعاة بهدية السماء المُفرِحة المُبهِجة للأرض وأكمل رسالته، كان ذلك بمثابة إشارة لأكبر وأروع فرقة ترنيم، فظهرت بغتة جوقة عظيمة من الملائكة مُسبِّحين الله. هُم «جمهور مِن الملائكة». كان الله يرسل ملاكاً واحداً عندما يخاطب أحد أنبيائه في العهد القديم، لكننا نرى هنا «جمهور من الملائكة» يسبحون الله لأجل هدية السماء للأرض. إنَّ فرحة السماء في لحظة ميلاد المسيح، وظهور الملائكة وهم يسبِّحون بأمجاد الله، دليل واضح على أنَّ سِرّ التجسُّد يتجاوز حدود الخليقة المنظورة.
كانت هدية السماء للأرض موضوع أنشودة الملائكة، وكان لهم في ميلاد المسيح ثلاثة أسباب تدعو للفرح العظيم الذي يُبشِّرون به. وما أكثر الأناشيد التي خلقها ميلاد المسيح. ولما كان لكلِّ أنشودة قرار، فقد ظهر جمهور من الجند السماوي يردِّدون هذا القرار «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة».
(1) المجد لله في الأعالي:
هذا المقطع يبيِّن صلة التجسُّد بالله. في هذه الأنشودة أعطَت الملائكة مجداً لله في الأعالي لحظة ميلاد المسيح على الأرض، الأمر الذي يؤكِّد أنَّ تنازُل الله بتجسُّد كلمته في طبيعة بشرية، لا يُنقِص أبداً مِن مجده. بل هو إعلان جديد لقُدرته الفائقة في إخلاء ذاته.
(2) على الأرض السلام:
وهذا المقطع يبيِّن صِلَة التجسُّد بالأرض. ففي لحظة الميلاد دخلَت البشرية بالفِعل في عهد مُصالَحة وسلام مع الله، إذْ وُلِدَ يسوع الطفل ابناً لله وابناً للبشرية. فإنَّ فيه يبلُغ الصُّلْح والسلام بين السماء والأرض أقصى مفهومه العملي. إنَّ مَسرَّة الله في إرسال ابنه من الأعالي إلى العالم السُّفلي، قد جاءت بالسلام، وقتَلَت العداوة التي أقامتها الخطية بين الله والإنسان، فعادت الصِّلة بينهما.
(3) وبالناس المَسَرَّة:
أما هذا المقطع فإنَّه يبيِّن صلة التجسُّد بنوعية مُعيَّنة مِن الناس. إنَّ السلام الذي سيكون على الأرض، سيكون للناس الذين يُسرُّ الله بهم، الذين يجدون سرورهم في الله وبه، ويريدون المُصالحة معه. هذا السرور قد صار لنا بميلاد المسيح. أنْ يأتي الله إلينا يعني أنَّه رضي بأنْ نذهب إليه. هذه المودَّة هي منتهى الرجاء ومنتهى السرور.
هدية السماء للأرض:
في قصة الميلاد نرى قديسين مِن مُختلفي الأعمار يلتَفُّون ويلتَقون حول هذه الهدية: الكاهن مثل زكريا، النجَّار مثل يوسف، عالِم اللاهوت مثل سمعان الشيخ، عالِم الفَلَك مثل المجوس، ربَّة البيت العاقر مثل أليصابات، والعذراء المُتعبِّدة مثل مريم. فنرى رجالاً ونساءً، ملائكة وبشَراً، أغنياء وفقراء… الخ، وقد اجتمعوا كلُّهم في الفرحة بهدية السماء للأرض.
وبتجسُّد المسيح قدَّس الله الجسَد، وقدَّس مراحل العُمر كلِّها، وقدس الزواج، وقدَّس الفَقر والغِنى والمال، وقدَّس الأرض والبحر والجبل، وقدَّس الحياة البشرية. كلّ ذلك لأنَّ المسيح دخل في صميم هذه الحياة بتجسُّده. فهنيئاً للأرض بهدية السماء.
هذه الهدية رَفَعَت قيمة ومعنويات الأطفال الذين كان يَنظُر إليهم الكبار في احتقار. قبل ميلاد المسيح كَم تاقَ الأطفال أنْ يكونوا رجالاً، لكن بعد تجسُّده، كم يتوق الرجال أنْ يصيروا أطفالاً؟ كان يُحبّهم ويحتضِنهم ويُباركهم ويدعوهم إليه ويدافع عنهم. كما رَفَعَت هذه الهدية أيضاً من قيمة ومعنويات المرأة التي كان يَنظُر إليها المجتمع اليهودي كشيء يُمْتلَك، لا كشخص يُحتَرَم ويُعتمَد عليه، وله الحقّ في القيادة والكرازة. فحيث بارك النساء بتجسُّده في بطن مريم العذراء، وبارك المرأة وقَبِلَ خدمتها معه، وأظهر لسمعان الفريسي أنَّها أفضل مِنْه) لوقا 44:7-46). ودافع عنها وطالب بحقوقها.
حتى العشارين والخطاة، رفع معنوياتهم، عندما قبِلَهم ودخل بيوتهم وقَبِل أنْ يأكل ويشرب معهم. فكمْ مِن خطاة ومنبوذين ومُهمَّشين رفع معنوياتهم إذْ قَبِلهم وخلَّصهم مِن خطاياهم؟ وكمْ كان حانياً على الخطاة والضُّعفاء والصِّغار؟ لقد كان رجاءً لكلِّ مَن فقد الرجاء، وصديقاً لكلّ من لا صديق له. كان قلبه مفتوحاً للجميع إذْ كان يجول يصنع خيراً ويشفي الجميع.
حتى الذين وقفوا ضدَّه وانتقدوه، أظهر لهم حبَّه ولُطفه. حتى الجندي الذي طَعَنه بالحَربة في جنبه، صار له نصيب فيه حتى شهد عنه: «حقاً كان هذا ابن الله» (متى 54:27). فكلّ إنسان مهما كانت نوعيته أو جِنْسه أو لُغَته، صار له نصيب في المسيح، هدية السماء للأرض كلِّها. فهنيئاً لنا بهذه الهدية الهادية الشافية الحانية.
هدية للهدية:
لَمْ تستَطِع مريم أمّه أنْ تزوِّده بالثَّروة. فكلّ ما استطاعت تقديمه للهيكل كذبيحة، زوج يمام، وهو تقدمة الفقراء. ولم تستطِع أنْ تُطْلِعه على ثقافة العصر، لكونها فقيرة، ولم تحصل إلا على القليل من التعليم مُقارَنةً بلوقا الطبيب. لكنِّها أعطته عطايا أسمى وأثمن بما لا يُقاس مِن المزايا الدنيوية المادية. لقد أعطَتْه حياةً، فقد كان عَظْماً من عظمها، ولَحْماً مِن لحمها. وحتى وقت فطامه، كان لبنها الدافئ يُغذِّيه. كما أعطته مع يوسف البيت، الذي على الرغم من تواضُعه الشديد، لفقرهما، إلا أنَّه كان المنزل الوحيد الذي كان يعرفه يسوع أيام تجسُّده. أما الكتاب الوحيد الذي كان في ذلك البيت فهو العهد القديم. كانت عقلية مريم مُشبَّعة بنبوَّات ومواعيد الله، الأمر الثابت مِن ترنيمتها، كذلك كان فِكر يسوع مُنذ طفولته، يعرف الكتب المقدسة، مُدرِكاً دوره المسياني من خلال ما طالعه في ذلك الكتاب.
هذه كانت هدايا مريم ليسوع، فماذا تكون الهدايا التي نقدِّمها نحن في ذكرى ميلاده؟ إنَّ كلّ ما نُقدِّمه للآخرين لأجله وباسمه، هو هدية مُقدَّمَة له ولحسابه هو، بناء على قوله «كلّ ما فعلتُم بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتُم».
جئتَ دُنيانا سلاماً صوتُ إرشادٍ ونور
شمعةٌ تُلقي ضياها تملأ الدنيا سرور
لو أطاعوك لذاقوا نعمة الله الغفور
لكن الناس بجهلٍ أطفأوك بالشرور