الصوم في الكتاب المقدس
الهدى 1221 مايو 2020
“لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرًا، وأما تلاميذك فلا يصومون”.
هذا سؤالٌ قدمه تلاميذ يوحنا إلى المسيح على الأرض وفيه أمران:
* أن تلاميذ يوحنا والفريسيون يصومون كثيرًا.
* أن تلاميذ المسيح لا يصومون.
الأمر الأول يوجه فكرنا إلى الصوم عند العبرانيين، الأمر الثاني يكشف لنا عن الصوم في تعليم المسيح.
الصوم عند العبرانيين يرجع إلى الأمر الوارد في سفر اللاويين حيث قيل: “يكون لكم فريضةً دهريةً، أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تذللون نفوسكم وكل عملٍ لا تعملون الوطنيُّ والغريبُ النازل في وسطكم، لأنه في هذا اليوم يكفِّر (الرب) عنكم لتطهيركم. من جميع خطاياكم أمام الرب تطهرون. سبتُ عطلةٍ هو لكم وتذللون نفوسكم” (لاويين 16 : 29 إقرأ 29 – 31).
كذلك في الأصحاح الثالث والعشرين: “وكلم الرب موسى قائلًا أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة، محفلًا مقدسًا يكون لكم تذللون نفوسكم وتقربون وقودًا للرب. عملًا ما لا تعملوا في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارةٍ للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم…. وكل نفسٍ تعمل عملًا ما في هذا اليوم عينه أُبيد تلك النفس من شعبها، عملًا ما لا تعملوا فريضةً دهريةً في أجيالكم في جميع مساكنكم، إنه سبت عطلةٍ لكم فتذللون نفوسكم. في تاسع الشهر عند المساء من المساء إلى المساء تسبتون سبتكم” (لاويين 23 : 26 – 32)، وتأكد هذا الأمر في سفر العدد: “وفي عاشر هذا الشهر السابع يكون لكم محفلٌ مقدسٌ وتذلَّلون أنفسكم عملًا ما لا تعملوا” (عدد 29 : 7).
فنرى أن يوم الكفارة العظيم يبدأ من تاسع الشهر السابع عند المساء إلى المساء، في العاشر منه، وأنه عطلةً محفلًا مقدسًا للرب، وهو يوم صومٍ إذ هو يوم تذللٍ لأن التذلل والصوم قرينان كما يقول المرنم: “أذللتُ بالصوم نفسي” (مزمور 35 : 13)، كما أنه يوم الصوم العام الوحيد الذي سُنّ في الشريعة الإلهية والذي لم يُسن سواه في الأقوال الحية، وهو الصوم الذي ُأشير إليه في سفر الأعمال: “ولما مضى زمانٌ طويلٌ وصار السفر في البحر خطرًا إذ كان الصوم أيضًا قد مضى” (أعمال 27 : 9).
هذا هو يوم صوم الكفارة “لأنه إن اعترفنا بخطايانا فهو أمينٌ وعادلٌ حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم”، ولا شك أن المسيح شارك التلاميذ والشعب في صوم هذا اليوم، ليس اعترافًا بخطيةٍ شخصيةٍ، بل كما قال ليوحنا المعمدان عند معمودية التوبة: “لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برٍّ”.
ولكن ألا نذكر أن العبرانيين شعبًا وأفرادًا قدسوا أيام صومٍ وتذللٍ للرب لقيام حاجةٍ، ولو أنهم لم يحفظوها فريضةً دهريةً، قدسوها لمناسبة وقوع كارثةٍ أو اعترافًا بخطيةٍ قوميةٍ، ومن ذلك ما ورد في سفر القضاة حيث صعد جميع بنو إسرائيل وجاءوا إلى بيت إيل وبكوا وجلسوا هناك أمام الرب، وصاموا إلى المساء في ذلك اليوم وأصعدوا محرقاتٍ وذبائح سلامةٍ أمام الرب، انظر أيضًا (1صموئيل 7 : 6 ، عز 8 : 21 – 32) هذا الأمر فعله أيضًا داود (مزمور 35 : 13، 69 : 10)، ودانيال (دانيال 10 : 2 و 3)، وكرنيليوس (أعمال 10 : 30)، وغيرهم.
هذه مناسباتٌ اختيارية كانت للصوم والصلاة والانقطاع عن العمل، تكريسًا يتمشى مع روح العهد القديم ويطابق مشيئة الله، وما داموا في صومهم لا يوجدون مسرةً، وبكل أشغالهم لا يسخرون، وماداموا يصومون لتسميع صوتهم في العلاء، فإن صومهم يكون مقبولًا أمام الله “فمتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمُرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق الحق أقول لكم إنهم استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صُمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً”.
في هذه المناسبات الاختيارية تظهر حقيقةً في الصوم هي الإمساك التام عن الطعام والشراب، إلا في أمر دانيال حيث طالت المدة (مدة نوحه) إلى ثلاثة أسابيع فقال: “لم آكل طعامًا ما شهيًا ولم يدخل في فمي لحمٌ ولا خمرٌ ولم أدَّهن حتى ثلاثة أسابيع أيامٍ”، فإذا اعتبرنا هذا صومًا مع أن الكتاب لا يسميه ولا يدعوه كذلك، يكون هذا مظهرًا يدل على القصد في ضبط الحياة الدنيا والامتناع عن ملذاتها لتقوية السمو في شركة الحياة العليا حيث يعيش الإنسان تحت ضابطٍ وبمقتضى ناموس: “روض نفسك للتقوى”.
على أن هناك مناسباتٍ اضطرارية تستلزمها دائرة خدمة ملكوت الله مباشرةً حيث يكون الصوم اضطراريًا كصوم موسى استعدادًا لقبول الشريعة، حيث كان فوق الجبل عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلةً لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً، وكصوم إيليا استعدادًا لملاقاة الرب في ذات الجبل ليأخذ منه مأمورية مسح ملكين ونبي، “أذ أكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلةً”، والأنبياء والمعلمون في كنيسة أنطاكية في فرز برنابا وشاول للعمل صاموا وصلوا، وهكذا فعل بولس وبرنابا في انتخاب قسوس في كل كنيسة.
هذه كلها أصوامٌ لمناسباتٍ دينية تخرج عن صوم بولس والمسافرين معه في السفينة، وأيضًا أصوامه المذكورة في الشدائد التي أصابته، فإن هذه كلها أصوامٌ لا دينية، مجرد امتناع عن الطعام لا لضميرٍ نحو الله بل بسبب سوء الحال والارتياك والأتعاب التي ينشأ عنها نسيان الطعام أو عدم تناوله لأسباب طبيعية.
توجد أصوامٌ دينية أخرى فرضها اليهود على أنفسهم، منها أربعة حفظوها مدة السبعين سنة في سبي بابل وقد ذُكرت في نبوة زكريا (زكريا 7 : 4 – 6 ، 8 : 18 و 19) وهي:
– صوم الشهر الرابع يوم 9 تموز (يوليو) تذكارًا لأخذ أورشليم (إرميا 52 : 6).
– صوم الشهر الخامس يوم 10 آب (أغسطس) تذكارًا لخراب الهيكل (إرميا 52 : 12 – 19).
– صوم الشهر السابع يوم 2 تشرين الأول (أكتوبر) تذكارًا لقتل جدليا ورفقاؤه في المصفاة (إرميا 41 : 1 – 3).
– صوم الشهر العاشر يوم 10 طبت (يناير) تذكار حصار أورشليم (إرميا 52 : 3 و 4) قابل (إشعيا 4 : 16 مع ص 9).
ومن (لوقا 18 : 12) تظهر عادة صوم يومين في الأسبوع هما يومي الأثنين والخميس، حيث يذكر التقليد أنها ذكرى صعود موسى إلى الجبل في المرة الثانية لقبول لوحي الشهادة في يوم الخميس ونزوله في يوم الأثنين.
هذه الفروض الدينية يمكننا أن نسميها أصوامًا تقليدية، فيكون ما ذُكر من الأصوام ثلاثة أنواع:
أولًا: الصوم الرمزي الشرعي: وهو صوم يوم الكفارة الذي سنته الشريعة الإلهية، وهذا قد أُبطل ولا بد من إبطال الكهنوت اللاوي بتقديم المسيح نفسه كفارةً عن خطايانا.
ثانيًا: الصوم التقليدي: وهو ما أوجبه اليهود على أنفسهم وهذا يتبدد أمام قول الرسول: “انظروا أن لا يكون أحدٌ يسبيكم بالفلسفة وبغرورٍ باطلٍ حسب تقليد الناس، حسب أركان العالم وليس حسب المسيح …. فلا يحكم عليكم في أكلٍ أوشربٍ … إذ إن كنتم قد متم مع المسيح عن أركان العالم، فلماذا كأنكم عائشون في العالم تُفرض عليكم فرائض لاتمس ولا تذق ولا تجس، التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعاليم الناس، التي لها حكاية حكمةٍ بعبادةٍ نافلةٍ وتواضعٍ وقهر الجسد، ليس بقيمةٍ ما من جهة إشباع البشرية”.
ثالثًا: صوم المناسبات: وهذا يكفينا فيه نور المسيح الذي أضاء في جوابه على سؤال تلاميذ يوحنا في قوله: “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا (يصوموا) مادام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيامٌ حين يُرفع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون”.
تمثيلٌ ما أجمله، فيه يتجلى العريس وحوله بنو العُرس حول الوليمة، العريس والهواء المحيط بهم يهتز طربًا تحت تأثير هزات ورنات أجراس العُرس فأين الصوم؟ إنه بالنسبة لمنظرٍ كهذا غريبٌ لا يلائم هذا الجو، لأنه لا يقدر أن يتكلم بلغة أهل المكان، ولا أن يتفاهم معهم حتى ولو كان الوقت وقت كل الأصوام التقليدية مجتمعةً معًا.
فلا مكان للحزن يملأ النفس، ولا للمسوح تتمنطق بها الأحقاء، ولا للرماد يذرّى فوق الرؤوس، ولا الوجوه تسقط أمام الخزي، لأنه وقت “جمالٍ عوضًا عن الرماد ودهن فرحٍ عوضًا عن النَوح، ورداء تسبيحٍ عوضًا عن الروح اليائسة”.
هنا قمة نغمة الفرح الفائق وقد وصل يسوع بتلاميذه إليها، ولكنه لم يلبث حتى عاد بهم إلى مستوى الحياة الاعتيادي فقال: “ولكن ستأتي أيامٌ حين يُرفع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون”، لا صوم الطقوس التقليدية، ولا التقاويم الكنسية، بل صوم القلب الدامي والنفس المرة التي لا تحتاج إلي فرضٍ كنسيٍّ لأن “القلب يعرف مرارة نفسه وبفرحه لا يشاركه غريبٌ”.
هل العريس معك؟ “فاذهب وكل السمين واشرب الحلو وابعث أنصبةً (إيفتين) لمن لم يعد له، لأن اليوم إنما هو مقدسٌ لسيدك ولا تحزن لأن فرح الرب قوتك”.
هل رُفع العريس عنك؟ هل خلا قلبك من كرسيه؟ هل انطفأ فرحه من داخلك؟ فهل تحتاج لمن يرشدك إلى ما تفعل في هذه الحالة؟ وهل تنتظر ما يقوله لك التقليد؟ ألا ينسكب القلب بطبيعة حاله بالبكاء والصوم والصلاة قائلًا: “طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيض أكثر من الثلج، أسمعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامٌ سحقتها، استر وجهك عن خطاياي وامح كل آثامي”.
أما إذا كنت فوق الجبل مع الله، أو في البرية مع المسيح في شركةٍ إلهيةٍ ساميةٍ، أو استعدادًا لخدمةٍ مقدسةٍ سماويةٍ، مرتفعًا فوق جبل التجلي، منشغلًا عن الأكل والشرب وسائر الجسديات، فما هذا إلا صوم أهل السماء الذين لا يأكلون ولا يشربون، صوم الذين اختطفوا إلى السماء الثالثة، أفي الجسد أم خارج الجسد، الله يعلم الذين اختطفوا إلى الفردوس وأتوا إلى مناظر الرب وإعلاناته.