دراساتدراسات كتابية

المحبة في المسيحية

الهدى 1223                                                                                                                                 سبتمبر 2020

«أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضًا لأن المحبة هى من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله، ومن لايحب لم يعرف الله لأن الله محبة» «ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله، الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه» (1يوحنا 4: 7-8، 16) .

هل نحن اليوم في حاجة لأن نتكلم عن المحبة؟ فهل المحبة موضوع جديد يتوق الناس لسماعه؟ من منا لم يسمع عن المحبة في الكنيسة أو حتى في المجتمع خارج الكنيسة، وهل نحتاج كمؤمنين أن نحث من حين لآخر أن نحب الله وأن نحب الآخرين؟
ما نراه اليوم –في معظم الأوقات وفي بعض الكنائس- من انتشار المذمة والبغضة وعدم الصفح وعدم الغفران بين الإخوة إنما يعطي صورة سيئة عن الأحوال الروحية في الكنائس في ضعف المحبة وفتورها بين الإخوة. ويحذرالرسول يوحنا من فتور المحبة قائلًا: «ولكن عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى فاذكر من أين سقطت وتب وأعمل الأعمال الأولى وإلإ فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب» (رؤيا 2: 4-5).
إن الكلام عن المحبة هو المحك الخطير الذي يكشف ضمائرنا على حقيقتها أمام الله وأمام أنفسنا، ماهي محبتنا نحو الله ونحو الغير؟ إن المحبة في المسيحية هي تلخيص شامل وكامل وكاف لكل الكتاب المقدس، ولكل معاني الإيمان المسيحي وهي التطبيق العملي لها سواء من جانب الله نحو خليقته أو من جانب الإنسان نحو الله ونحو أخيه الإنسان وحتى نحو نفسه، يقول الوحي: «….تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك» (لوقا 10: 27). ونتأمل في الموضوع في النقاط التالية:-

أولاً- المحبة هي صفة أساسية في الله بل هى الله ذاته لأن «الله محبة»
تتكرر عبارة «الله محبة» مرتين في (1يوحنا4: 8،16). لا يوجد دين ولا فلسفة تصف الله بالمحبة سوى الكتاب المقدس. وعلى أساس هذه الصفة نجد صفات الله الأخرى تنسجم وتنبع منها، مثل صفاته: غفور، رحيم، رحيم، حنان، رؤوف ….الخ حتى وإن بدا أحيانًا الله غاضبًا ومؤدبًا، إنما بسبب حبه وحنانه لأنه يريد خلاصنا، كما يقول الوحي: «لأن الذى يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله» (عبرانيين 12: 6، أمثال 3: 12) ويقول أيضا: «يعود يرحمنا، يدوس آثامنا وتطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم» (ميخا 7: 19).
هذه المحبة الإلهية للخطاة –بالرغم من شرهم– لكنها عملت توازنًا عجيبًا مع صفة العدل الإلهي على الإنسان المحكوم عليه بالموت الأبدي إذ في الصليب تلاقت الرحمة (المحبة) مع العدل (البر) وحققت الفداء لأجل خلاص كل إنسان يؤمن بالمسيح ربًا وفاديًا ومخلصًا «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16) وبذلك تحققت النبوة العظيمة القائلة «الرحمة والحق التقيا، البر والسلام تلاثما» (مزمور 85: 10).
ثانيًا المحبة هى أساس الوجود وكل موجود حسن وجميل
الله موجود وهو أول الوجود بل وقبل كل وجود في الكون، ولولا هذه المحبة الإلهية ما خلق هذا الكون بكل ما فيه، فالله يحب خليقته وعلى رأسها الإنسان، ولهذا خلق كل شىء في أجمل صورة، يقول الوحي: «وقد رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا» (تكوين1: 31).
المحبة مبدعة وخلاقة: الله محبة. وسبحان الله وما أبدعه عقله وما أبدعت يداه!!! فالمحبة أينما وجدت فهي خلاقة ومبدعة، وهذا ما أوجده الله في مخلوقاته وخاصة الإنسان كمخلوق خلاق ومبدع ومخترع.
• العالم في معمله يخترع لأجل خير البشرية ورفاهيتها
• «القضاء على الأمراض والأوبئة.
• الأب والأم يذللان الصعاب ويبدعان في التفكير والتدبير من أجل إسعاد كل فرد في الأسرة .
• الأعمال الإبداعية لتنمية مهارات البشر والمعوقين من أجل إسعادهم في الحياة.
• اختراع وسائل النقل الحديثة التي قربت المسافات للإنسان.
• اختراع الكومبيوتر ومختلف تكنولوجيا الإتصالات التي جعلت الكون قرية صغيرة.
ثالثًا: المحبة هي أساس الحياة
الله في حبه أوجد نسمة حياة في الإنسان، وأعطى حياة للنباتات والحيوانات وغيرها من الكائنات الحية والدقيقة، والكثير من هذه الكائنات تتكاثر بغريزة الحب التي أودعها الله فيها، وينمو النسل برعاية الوالدين. وعلى رأس هذه الكائنات الإنسان الذي ينمو برعاية وحب أفراد الأسرة، وتنمو علاقاته مع أفراد المجتمع بالحب المتبادل.
الله يشملنا من البداية برعايته وحبه وحنانه، والمؤمن الحقيقي بالمسيح يستطيع أن يتمتع بمحبة الله الفائقة، وأن يجد فى صدره الحنون أعظم ملجأ. لا يمكن لأي إنسان أن يعيش حياة سوية طبيعية سعيدة بدون اختبار محبة الله، وبدون أن تكون له (ومنه أيضًا) علاقات محبة ومودة بين أفراد الأسرة، وبين إخوته فى الكنيسة «وادين بعضكم بعضًا بالمحبة الأخوية» (رومية 2: 10) والمسيحي الحقيقي مطالب أيضًا أن يحب الآخرين من أفراد المجتمع، فالإنسان في حاجة نفسية على الدوام أن يحب وأن يُحَب.
رابعًا: المحبة عكس البغضة والكراهية
المحبة هى عاطفة مقدسة متأججة في أعماق النفس تجاه الآخر «لهيبها لهيب نار لظى الرب. مياه كثيرة لاتستطيع أن تطفىء المحبة والسيول لا تغمرها. إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارًا» (نشيد 8: 6-7) وهذه صفة الله المحب.
أما البغضة فهى مشاعر كراهية مرة في أعماق النفس تجاه الآخر وهى ليست صفة الله القدوس . وعندما يقول الله: « أحببت يعقوب وأبغضت عيسو» (رومية 9: 13، ملاخي 1: 2-3) فإنه يقصد أن الله يبغض أعمال عيسو وليس عيسو في ذاته، لأن أعماله كانت شريرة، ولأن الله قدوس وبار يكره الشر والخطية ولايكره الإنسان.
فالمحبة هى اذًا أساس الحياة والأمن والأمان والسلام للإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين إلهه وبينه وبين الآخرين أيضًا. ولأن الإنسان مولود بالخطية فهو لايستطيع أن يتحرر من مرارة البغضة والكراهية حتى يختبر محبة الله المخلصة بقبول المسيح ربًًا وفاديًا ومخلصًا بالإيمان.
البغضة كسلوك عنيف: المشكلة الأخطر أن البغضة والكراهية لدى إنسان أو جماعة أو شعب لا تقف عند حد وجودها في قلوبهم وعقولهم فقط ولكن تأخذ سلوكًا وتصرفات عنيفة ضد الآخرين، فعندما يتربى الإنسان على البغضة والكراهية ويعيشها في حياته فكرًا مسمومًا وسلوكًا عنيفًا فإن هذا يعني الدمار التام لحياته ولحياة الآخرين معه. وكم من دماء أريقت لملايين البشر عبر التاريخ البشرى بسبب البغضة والكراهية تجاه الآخرين، وكم من مذابح ومجازر مرعبة ارتكبت باسم الله والله برىء من كل ذلك.
خامسًا: الله محبة، يسكب محبته بالروح القدس في قلوب المؤمنين
يقول الرسول: «…لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا» (رومية 5: 5) والروح القدس هو روح الله المحبة، أى أن الله يسكب محبة فائقة في قلوب المؤمنين بقوة الروح القدس لنستطيع أن نحب الله من كل القلب (لوقا 10: 27)،
ولكى نستطيع أن نحب الإخوة كما علمنا المسيح بقوله: «وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض» (يوحنا 13: 34-35).
ولكى نستطيع أن نحب الآخرين حتى الأعداء منهم: «وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى 5 : 44) .
محبة بمعونة الروح القدس لنستطيع أن نغفر إساءات الآخرين : «اغفروا يغفر لكم» (لوقا 6: 37) «وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم السماوى زلاتكم» (متى 6: 15)، لنستطيع أن نحتمل إساءات ومضايقات وجروح من الآخرين لأن « المحبة تحتمل كل شىء، وتصبر على كل شىء»(1كورنثوس 13: 7).
محبة بقوة الروح القدس لنستطيع أن نعطى وأن نبذل من أجل ذاك الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا، ولأجل مجده وامتداد ملكوته . ولكى نستطيع أن نعطي وأن نبذل من أجل الآخرين.
المحبة التي لنا من الله المحبة هى محبة عجيبة وفعّالة تنزع كل خوف أوشك في علاقتنا بالله وأيضًا في علاقتنا بالإخوة «لاخوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لأن الخوف له عذاب ومن خاف فلم يتكمل في المحبة» (1يوحنا 4: 18).
سادسًا: محبة الله وقياساتها العليا
محبة الله لا تقاس بمحبة البشر الناقصة بل بمحبة الله نفسه للبشرك ما يقول السيد المسيح لتلاميذه: «….كما أحببتكم أنا …»
محبة الله للبشر بدون شروط مسبقة: «هكذا أحب الله العالم (الخطاة) حتى بذل ابنه الوحيد لكي لايهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16) ويقول الرسول بولس: «ولكن الله بين محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 5: 8) . محبة الله غير محدودة وهى بدون حد أدنى أو أقصى فى عطائها , وهى موجهة للإنسان عموما من أجل خلاصه ومن أجل نواله حياة أبدية.
سابعًا: المحبة هي دليل عملى وقاطع على أننا أولاد الله
تقول كلمة الله: «وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله» (1يوحنا4: 7) ويقول الرسول يوحنا أيضًا : «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة، من لا يحب أخاه يبقى في الموت» (1يوحنا3: 14) .
• هذه هي المحبة العظيمة في المسيحية، والتي يجب أن تكون فينا بقوة كمؤمنين، هذه المحبة الإلهية برهنت عن نفسها بكل وضوح وتوجت في تجسد ابن الله القدوس وموته على الصليب فداء وكفارة لكل البشرية. يقول الرسول يوحنا: «بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكى نحيا به، في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل إنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يوحنا4: 9-10).

 

القس رأفت مهني

الراعي السابق للكنيسة الإنجيلية في إدفو، واستمر في الخدمة لمدة أكثر من أربعين عامًا منها ثمتنية وثلاثون عامًا في إدفو. وهو الآن متقاعد ويخدم في بعض المناطق الجديدة في القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى