الهدى 1226 ديسمبر 2020
الغفران علامة أساسية جدًا في حياة المؤمنين والكنيسة، حتى يمكننا القول إنَّ الكنيسة هي (مجتمع الغفران). أي الجماعة التي نالت الغفران الأبوي من الله بواسطة الإيمان بالمسيح يسوع، ويتبادلون الغفران الأخوي معًا، ويمنحونه للمسيئين إليهم. ويجب أن نعترف بداية أن منح الغفران أمر صعب جدًا على الطبع البشري.
في داخلك كلب!
عنوان غريب!! فمن الثابت علميًا أنَّ الكثير من الأمراض الجسديّة تحدث نتيجة صراعات وانفعالات نفسية وعصبية. والمريض في هذه الحالة، لا يستعيد صحته إلا إذا نال الشفاء من صراعه النفسي وانفعالاته. ونبدأ بالعالم الروسي (بافلوف) الذي قدَّم للعالم هذه الدراسة المفيدة، في ذلك المجال. لم يستطع أن يُجري أبحاثه على الإنسان، فأجراها على الكلاب، وخرج بنتيجة شهيرة. أما موضوع بحثه فكان: كيف يستطيع منبه لا ضرر منه، ولا يؤدي لاستجابة معينة، أن يجعل الجسم يسلك سلوكًا لا يقصده بالمرة؟ عندما وضع اللحم أمام الكلب الجائع، سال لعابه فورًا عندما شمَّ رائحة اللحم. هذه الرائحة أرسلت إشارة عاجلة من المخ إلى الغدد اللعابية تقول لها: (افرزي، افرزي، فالطعام قادم)، فسال لعاب الكلب. هذا أمر طبيعي، فهذه الإشارات متعلقة بحاستي البصر والشم. فهل يمكن لمنبه أو مثير آخر، لا علاقة له بالطعام، أن يجعل اللعاب يسيل بنفس الدرجة؟ فاستخدم (بافلوف) طريقة ذكية وبسيطة جدًا، فكان يدق جرسًا قبل تقديم الطعام للكلاب. ومع تكرار التجربة كان يسيل لعابها من مجرد سماع صوت الجرس، دون أن ترى اللحم أو تشم رائحته.
هذا ما يحدث معنا أيضًا، فعندما تكون جائعًا وتشم رائحة الطعام أو تراه، يسيل لعابك، لأنَّ هذه الرؤية أو تلك الرائحة تثير {الكلب الذي في داخلك}!! وعندما تدخل المطعم وتقرأ قائمة الطعام، يحدث لك الشيء نفسه، دون رؤية الطعام أو شم رائحته، فهذه القائمة تعمل عمل الجرس لكلاب (بافلوف). إذًا هناك وظيفة لا إرادية يقوم بها جسمك، هذه الوظيفة تستثار بواسطة أشياء مصطنعة. مثل قراءة فاتورة الهاتف أو الكهرباء، أو رؤية شخص غير مريح، أو لنا معه خبرات مريرة، أو التواجد في مكان له ذكريات سيئة، أو سماع سيرة شخص غير مرغوب فيه… الخ، مما يثير {الكلب الذي بداخلك}، فتتقلص معدتك وأمعاؤك وقلبك وتنفسك، ويحدث لك ارتعاش في الركبتين، وحرارة في العينين، وجفاف في الفم، وسرعة في ضربات القلب. هذه كلها تخضع للجهاز العصبي عندما يحدث ذلك التنبيه، كما أحدثه الجرس في كلاب بافلوف.
فماذا تفعل مع شخص اعتدى عليك أو أساء إليك، أو حطم آمالك وتوقعاتك؟ ماذا تفعل مع شخص كنت تظنه صديقًا، وثبت لك أنه خائن وطعنك من الخلف؟ هل تقدر أن تغفر له؟ كيف تتمكن من ذلك؟ وهل الغفران واجب إنساني، أم حاجة إنسانية؟ إن معظمنا يتساءل في مثل هذه المواقف: أليس هناك طريق آخر غير طريق الغفران؟ لماذا لا يُعاقب ذلك المخطئ على ما ارتكب؟ لماذا لا يدفع ثمن أخطائه وإساءاته، أليست هذه هي العدالة؟ لماذا لا أثأر أنا لنفسي وأنتقم منه لأشفي غليلي؟ وأحيانًا نفكر بهذه الطريقة: لا أستطيع أن أطالب بتعويض .. من المستحيل تصحيح الأمور بعد أن وصلت إلى طريق مسدود .. لا يمكن رد اعتباري بعد كل ما جرى لي .. إذًا فلا مكان للغفران.
نعود للسؤال: ماذا تفعل عندما يُساء إليك، أو يُعتدى على أملاكك أو كرامتك أو جسمك؟ في الأغلب ستكون أمامك هذه البدائل الأربعة: الانتقام، الانسحاب، التجاهل، الغفران السريع. أما الانتقام فهو الأمر الطبيعي، لأن الطبيعة البشرية تقول لنا: «انتقم لنفسك لأقصى درجة، لتشفي غليلك». لذلك جاء ناموس موسى منظمًا لهذه النزعة المبالغة في الانتقام، وقال: «العين بالعين، والسن بالسن، والرجل بالرجل… الخ». وكان ذلك تشريعًا للقضاء وليس لعلاقات الناس مع بعضهم بعضًا. فجاء الناموس للحد من نزعة الانتقام وتنظيمها قانونيًا. لكن المسيح، لم يأت بناموس طبيعي، ولا بقانون تشريعي، بل وضع أساسًا راسخًا للارتقاء بالعلاقات، بفكر يزرع بذور المحبة والسلام، ويقتلع بذور الحقد والانتقام من جذورها. وعندما قال: «من لطمك على خدك الأيمن حول له الآخر» (متى 38:5) كان يقول: {واجه المعتدي عليك}. وفي (متى 15:18-17) تحدث عن استراتيجية هذه المواجهة {انفراد، ثم احتكام، ثم انعزال}.
في هذا يبين المسيح:
(1) يتحدث المسيح هنا عن العلاقات الشخصية الفردية، وليس عن علاقة دول أو جماعات.
(2) المسيحي الحقيقي عندما يساء إليه، أو يعتدى عليه، يكون مسؤولًا عن ذلك الُمسيء المعتدي. فالغفران السريع نوع من التهرب من المسؤولية. فالمؤمن مسؤول أمام الله عمن أساء إليه، مسؤول عن فهمه وإصلاحه والاصطلاح معه، ومصالحته مع نفسه ومع الله. هذه مسؤولية المسيحي المعتدى عليه.
(3) أسلوب المواجهة هو الأسلوب الأمثل والأنجع، رغم صعوباته الكثيرة. فإذا غفرت له وانصرفت، فلن تنتهي المشكلة، ولن ينصلح حال المعتدي عليك، كما أنك لن تنسى هذه الإساءة، وسوف تعود وتتذكر ما حدث منه، وتشعر من جديد بالمرارة.
(4) الهدف من المواجهة هو العتاب، حوار بين طرفين أو أكثر، مختلفين، ليس بقصد تحديد من هو المخطئ، بقدر ما هو تحديد الخطأ الذي حدث، ودور كل منهما فيه، لتجنب ذلك الخطأ، وضمان عدم تكراره. فالهدف الأساس من ذلك العتاب هو تجديد عهد الصداقة والمودة والمحبة.
(5) أسلوب المواجهة بهدف العتاب يحتاج إلى شجاعة أدبية وروحيّة ونفسيّة عالية. لا شجاعة التهور والتسرع والاندفاع، بل شجاعة: {ضبط النفس، دفع الظلم عن المظلوم، تحدي المواقف والأفكار الخاطئة، القدرة على الخروج عن الإجماع الخاطئ، بكشف ما هو خطأ من العادات والتقاليد والأفكار، القدرة على الإبانة، أي التعبير عن أفكارك وأهدافك بوضوح وعدم التباس، المثابرة حتى تلقى أفكارك الفهم والقبول والترحيب من الآخرين، والقدرة على قبول واستقبال النقد الموجه إليك}. هذه هي الشجاعة المطلوبة عند المواجهة.
في الغفران شفاء
الغفران هو الذي يحررك من الماضي حتى تعيش للمستقبل. أي غفراني للذين سببوا لي آلامًا وجراحًا، وغفراني لنفسي لما سببته لنفسي من آلام وجراح، باندفاعي وضعفي وجهلي وعنادي. وتبرئة الله من الاتهامات الباطلة التي وجهتها إليه باعتباره مصدر كل آلامي والمسؤول الوحيد عنها. هذه خطوة عملية للتحرر من كل القيود بواسطة الغفران. فلن تتحرر من قيود ماضيك دون الغفران، للآخرين ولنفسك، وتبرئة الله مما نسبته إليه خطأ.
الله هو مصدر الغفران الحقيقي، فهو يغفر بأن: ينسى، ويمحو كل الذنوب، ولا يعود يذكرها بعد. إنه ينبوع دائم ومفتوح، يغفر للجميع، متى آمنوا واعترفوا وتابوا. وهو يغفر لنا لنغفر لأنفسنا وللآخرين. لذلك يقول بولس: «كَمَا غَفَرَ لَكُم المسِيْحُ، هَكَذا أنْتُمْ أيْضَاً» (كولوسي 13:3). فعندما يغفر الله لي، فإنه يدعوني أن أغفر لنفسي، وأغفر أيضا للآخرين «كما» غفر لي الله. وكلمة «كما» هنا لا تعني بالقدر، بل بالطريقة والكيفية التي نلت بها الغفران. فامنحه لنفسك ولغيرك، لأنك لن تتمتع بغفران الله الأبوي وتعرف عمقه ومداه، ما لم تمنح أنت الغفران الأخوي لمن أساء إليك.
دائرة الإساءة:
هذا ما يحدث فيك عندما يساء إليك وترد الإساءة بمثلها:
عندما يساء إليك، فإنك إما أن: تنسحب، لأنك غير قادر على عمل شيء، فتحقد وتحزن وتكتم غيظك وتحترق داخليًا. وإما أن تنتقم وترد الإساءة بمثلها أو أكثر، فتدخل في دائرة الإساءة (كما في الرسم أعلاه). وإما أن تغفر لكي تشفى وتصح.
الغفران هو البديل الأفضل والأمثل لصيانة حياتك وشفاء نفسك. أنت تغفر لأجل مصلحتك أنت، ومصلحة من تغفر له أيضًا. فإذا لم تغفر، فإنك تضر صحتك النفسيّة والروحيّة والجسديّة، وتضر بغيرك أيضًا. أما إذا غفرت فإنك تتمتع بصحة جيدة، روحيًا ونفسيًا وجسديًا، وتتمتع بغفران الله لك، وتقطع دائرة الإساءة وتوقفها وتمنعها من الاستمرار. يجب أن تعرف أين تقطع استمرار هذه الدائرة، لأنك إذا غفرت مبكرا، سوف تتجنب الكثير من الآلام والجراح الناتجة من الاسترسال في دائرة الإساءة، أما إذا تأخرت في غفرانك فسوف تطول فترة آلامك وجراحك. فكلما غفرت مبكرًا شفيت مبكرًا، والعكس صحيح أيضًا.
هذا هو الدواء الشافي. ليست كل الأدوية ذات طعم حلو، فهناك أدوية مرة لكنها ضرورية للشفاء. والغفران دواء مر أحيانًا، إذ يجد البعض صعوبة نفسيّة في منحه للآخرين. لكن كلما نظرنا إلى نتائج عدم الغفران، الانسحاب أو الانتقام أو الدخول في دائرة الإساءة، وجدنا أن الغفران هو البديل الأمثل الشافي. فلا تسجن نفسك في سجن عدم الغفران، وتقيد حياتك بقيود الانتقام ورد الإساءة. التمس العذر لمن أساء إليك، انظر إليه باعتباره ضحية وليس مجرما، فهذا يساعدك كثيرا أن تمنحه غفرانك. ولا تنس أنك تغفر لمصلحتك أنت، الروحية والنفسية والجسدية.
فعندما يساء إليك شخصيًا، هل تتبع ما علمه المسيح، أم ما تعلمه الثقافات العالمية التي تبرر العنف والغضب والانتقام؟ إن هدفنا من هذه التأمل هو تعميق المعنى المسيحي للغفران، وتدعيم خطوات المصالحة والإصلاح بيننا، وتحرير الغافر والمغفور له من الضغوط والصراعات الداخلية.
مدينة الحفاة أم مجتمع الغفران؟
كان قد وصل إلى المدينة في يوم شديد البرودة. لكنه اندهش جدًا عندما رأى الناس يمشون في المدينة حفاة!! وعندما وصل إلى الفندق واستقبله المدير سأله: لماذا لا تلبسون أحذية؟ فأجابه نعم ولِمَ لا.. إننا نؤمن بضرورة لبس الأحذية واستخدامها خاصة في طقس كهذا. وعندنا في المدينة مصنعًا كبيرًا لصناعة الأحذية بمختلف مقاساتها. ولدينا في ذلك المصنع أمهر الصناع وأفضلهم. وإننا نجتمع كل أسبوع في ذلك المصنع، حيث نستمع إلى الحديث الأسبوعي للمدير عن ضرورة وأهمية ارتداء الأحذية. وقد كنا في المصنع بالأمس، وتحدث إلينا المدير بطريقة حماسية شديدة ومؤثرة للغاية. حتى أننا كنا نبكي من شدة التأثر ونحن نسمعه. فعاد وسأله الضيف ثانية: «إذا لماذا لا تلبسون الأحذية رغم كل ذلك؟». فأجابه: نعم، ولم لا!!.
هذا ما يحدث في الكنائس وبين الكنائس، حيث نعلِّم ونتعلَّم كثيرًا عن الغفران والتسامح، وأحيانًا نستمع إلى العظات والترانيم الخاصة بالغفران والتسامح بحماسة شديدة، حتى نكاد نبكي، كما كان يفعل أهل تلك المدينة، لكننا مثلهم، لا نستخدم هذا الشيء الذي نتحدث عنه، فنكون بذلك أشبه بسكان مدينة الحفاة. الكنيسة ليست مدينة للحفاة، بل هي مجتمع الغفران، الذين نالوا الغفران الأبوي، ويمارسون الغفران الأخوي، وينادون بالاثنين. فلنأت إليه معترفين بضعفنا وتقصيرنا، قائلين:
عبارات هامة:
* الغفران السريع: نوع من التهرب من المسؤولية.
* الغفران: ليس فقدانًا للذاكرة، ولا إلغاء لذلك الماضي الأليم، بل استحضار للمستقبل لصياغته على نحو أفضل.
* الغفران: ليس أن تنسى الإساءة التي وقعت بك، بل عندما تتذكرها لا تشعر بالمرارة.
* الغفران: ليس التساهل والتغاضي عن الإهانات والإساءات، بل هو أعمق من ذلك بكثير جدًا. هو موقف عملي قوي وواع، يسعى لإصلاح المسيء أكثر من التصالح معه، وإلى فتح صفحة جديدة أكثر من تصفية حسابات قديمة، وإلى الالتزام بمبادئ المسيح، التي تعلم التسامح والسلام، أكثر من العمل بقيم الثقافات العالمية، التي تبرر العنف والغضب والانتقام.
* الغفران: يرفض الأخذ بالثأر، ويرفض الأساليب المهذبة في تذكر الإهانات والإساءات، لأنه عملية نسيان مقصود بعد منح الغفران، لتطهير القلب وشفاء النفس، وتصحيح العلاقة مع الآخر بتبادل الغفران الأخوي، لمد الجسر إلى نيل الغفران الأبوي من الله. إن الغفران يختار تحمل المعاناة وحمل الصليب، التي ربما كان يستحقها ذلك المسيئ.
* الكراهية: هي أن تتعاطى سمومًا، أملًا في أن يموت شخص آخر.