آية في قرينتهادراساتدراسات كتابية

ملكوت السماوات يغصب والغاصبون يختطفونه

الهدى 1237                                                                                                                               نوفمبر 2021

قول صادم على الأسماع التي نطق به المسيح، عندما قال: «وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ» (متى11: 12). فهل يغصب ملكوت السموات؟ أو هل يقدر الغاصبون على اختطافه؟ نحن نعلم أن ملكوت الله ذو طبيعة روحيّة، اذ يصفه الرسول بولس قائلًا: « لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْباً بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ.» (رومية 14: 17). وبالتالي، كيف يمكن أن يغصب ملكوت السموات؟ وما علاقة الغاصبون بالملكوت؟
حاول مفسرون، تفسير قول المسيح هذا، من خلال أفكار غريبة ظهرت في زمن المسيح، ربطت الملكوت بالقوّة والعنف. إحدى الفئات اليهوديّة السياسيّة التي تواجدت آنذاك، كانت تُدعى «الغيوريين»، أي الذين لهم غيرة من أجل الله. آمن الغيوريون، أن الله وحده هو الحاكم، ولا يمكن أن يكون غيره حاكمًا عليهم. لهذا حاولوا إحلال ملكوت الله باستخدام قوة السلاح، عبر القيام بأعمال اغتيالات: لجنود رومان، ويهود يتعاملون مع السلطات الرومانيّة السياسيّة. والفئة الأكثر تطرّفًا منهم كانت تُدعى، «سيكاري» أي الذين استخدموا خنجرا صغيرا في تلك الاغتيالات. آمن أولئك، أنهم يستطيعون غصب ملكوت الله، واختطافه بالقوة. مفسّرون آخرون، رأوا في قول المسيح هذا، اشارة إلى محاولة البعض احضار ملكوت السموات، قبل أوانه بطريقة لا تنسجم مع طبيعته من خلال خلق ملكوت سياسي. هذا النوع من التفكير، ظهر عند البعض الذين شاهدوا معجزة اشباع المسيح لخمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة خبز وسمكتين، وأكلوا من تلك الوجبة. يقول البشير يوحنا، انه بعد انتهاء المعجزة، أراد البعض أن يختطفوا المسيح وينصّبوه ملكًا عليهم رغما عنه، لكن المسيح رفض تلك الطريقة التي لا تنسجم مع مفهومه لملكوت السموات. يذكر النص قائلًا: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ.» (يوحنا 6: 15).
إذن ماذا يا ترى قد يعني قول المسيح، «وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ». قبل أن ينطق المسيح بتلك الكلمات الصادمة، فانه كان يتحدّث عن خدمة يوحنا المعمدان، إذ كان آنذاك مسجونًا بسبب مواجهته لهيرودس، وقوله له: بأنه لا يحقّ له، أن يأخذ زوجة أخيه، زوجةً له. ثمّ أخبر يسوع سامعيه، عن عظمة خدمة يوحنا المعمدان، وعن فرادة شخصه. قال عنه: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ» (متى 11: 11)، ثم أنهى حديثه بالقول: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ.» (متى 11: 15). إن طلب يسوع من الناس، أن يحضّروا آذانهم للسمع، هو اشارة واضحة، أنه يريد أن يوصل لهم أمرًا روحيًا عميقًا، يتطلّب منهم الإصغاء العميق والجيّد لما سيقوله.
يورد البشيرون الأربعة عدة نصوص، تتحدّث عن الإقبال الشديد لليهود للعماد بمعموديّة المعمدان. يتحدّث البشير مرقس عن قدوم أعداد كبيرة جدا إلى المعمدان، اذ يقول: «وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.» (مرقس1: 5). تضمّنت الجموع كل فئات المجتمع، من فئة العشّارين المحتقرة من الناس التي كانت تجمع الضرائب للرومان، إلى فئة الجنود الذين يعملون مع السلطة الحاكمة. يخبرنا البشير لوقا عن تلك الفئات بقوله، «وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضاً لِيَعْتَمِدُوا وَسَأَلُوهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَاذَا نَفْعَلُ؟». فَأَجَابَ: «لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ». وَسَأَلَهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضاً: «وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَأجَابَ: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ». (لوقا 3: 12-14) ان تلك الجموع التي قدمت إلى المعمدان واحتشدت بكثرة لسماع كرازته، استمرّت بقدومها بأعداد كبيرة إلى يسوع لسماع كلمات النعمة التي كانت تخرج من فمه، ولمعاينة العجائب الكثيرة، التي صنعها أثناء شفائه للناس. وصف لوقا كثرة الجموع القادمة إلى يسوع، قائلًا: «وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ إِذِ اجْتَمَعَ رَبَوَاتُ الشَّعْبِ حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضاً ابْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلاَمِيذِهِ: «أَوَّلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ.» (لوقا 2: 1). أيضا يخبرنا لوقا، أنه عندما أتى بعض الأصدقاء بصديق لهم مفلوج كي يقدّموه للمسيح ليشفيه عندما كان في أحد البيوت، فإنهم لم يستطيعوا الدخول إليه بسبب الحشد. يقول لوقا: «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الأَجُرِّ إِلَى الْوَسَطِ قُدَّامَ يَسُوعَ.» (لوقا 5: 19). لقد تضمنت تلك الجموع كل فئات الناس، كما تضمنت جموع المعمدان. قال متى: « وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ.» (متى 9: 9-10). كما أن المسيح قال لبعض اليهود الذين يدّعون التقوى: «لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ». (متى21: 31). وبالتالي، من خلال السياق الذي ورد فيه قول المسيح: «وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ» (متى 11: 12)، نفهم أن تعبير «ملكوت الله يغصب»، إنما هو إشارة إلى تلك الحشود الكثيرة التي تهافتت وأسرعت واحتشدت لسماع يوحنا المعمدان، ومن ثم سماع كرازة يسوع. استخدم يسوع تلك الكلمات القويّة «ملكوت الله يغصب والغاصبون يختطفونه»، للإشارة إلى قوة وعظمة الحدث. شبّه المسيح تلك الجموع بشكل رمزي، بجيش يحيط بمدينة، ويقتحمها، ويهدم أبوابها، ويدخلها عنوة ويغصبها. من التعابير التي تنسجم مع الصورة التي وصف فيها يسوع، حول اقتحام وغصب الملكوت، صورة «أخذ الغنيمة». استخدم النبي إرميا، تلك الصورة، عندما شبّه ربح الإنسان لنفسه بالإيمان كغنيمة، بقوله، «وَتَصِيرُ نَفْسُهُ لَهُ غَنِيمَةً.» (إرميا 21: 9). وأيضًا بقوله: «وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهَا» (إرميا 45: 5). ان ذلك الازدحام على المعمدان والمسيح، كان غير مسبوق. لا سيما، من قبل أولئك الذين، بحسب آراء وتصورات الناس، لا يمكنهم أن يدخلوا ملكوت السموات، لكونهم غير جديرين به. اعتقد الشعب أن: العشّارين المتواطئين مع السلطة، والجنود العملاء، والزواني، والأشرار، لن يدخلوا ملكوت السموات. اعتقدوا أنهم دخلاء على الملكوت، لا لقب لهم، ولا حقّ لهم، في دخوله. لكن يا للمفارقة. يا للغرابة. ها هم يأتون بأعداد هائلة، يقتحمون ملكوت السموات، بشوق كبير وحماس لا مثيل له، ليسمعوا رسالة التوبة والخلاص ومغفرة الخطايا.
ان حقيقة الأمر أن ذلك الشعب الكثير، لا سيما في فئاته التي تعتبر اجتماعيا الأدنى، كان جائعا للحقيقة وعطشانا لإرواء أنفسهم، من نبع الماء الحيّ. لهذا لم يكن هناك شيء، كان يمكنه أن يقف عائقًا، أمام هذا الفيضان من الشعب الذي قصد المعمدان، والمسيح. إن معرفتنا أن المسيّا قد جاء من أجلنا ليمنحنا الخلاص بموته على الصليب وقيامته من الموت، يجب أن يخلق فينا شوقًا كبيرًا واندفاعًا وحماسًا اليه، لنغصب ملكوت السموات، بحسب تعبير المسيح. فلا نستطيع أن نكون غير مبالين أمام هذا الحدث الكبير.
طبعًا، ملكوت السموات لا يغصب، ولا يختطف، ولا يؤخذ عنوة. إنه ملكوت النعمة. ملكوت الإنجيل، المتجسّد في قوة عمل النعمة في حياة الناس.

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى