أجراس الميلاد
الهدى 1227 يناير 2021
كم يحتاج العالم اليوم إلى بشرى الميلاد تدوي مجددًا ببشائر الفرح والرجاء، خاصة في ظل بؤسه وشيخوخته التي غطت كل ملامحه، وبالأخص في ظل جائحة الوباء التي طالت معظم أجزائه، فأنهكت قواه، وأضعفت ركائزه.:
فكم تحتاج عيناه التي كلّت من الانتظارات الكثيرة، وضعفت من كثرة الدموع أن يُضيء أمامها مجددًا مجد الله كما أضاء حول الرعاة المتبدّين قديمًا، عندما كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم.
وكم تحتاج آذانه التي أصابها الصمم من كثرة الضجيج، والضوضاء، والأصوات الصاخبة المزعجة أن تنفتح وتسمع مجددًا كما سمع الرعاة قديمًا أصوات الملائكة المبشرين بميلاد المخلص مترنمين ومسبحين قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لوقا 2: 8 ـ 14).
وفي الحقيقة كم كانت بشارة الميلاد تحمل في طيّاتها الأمل والرجاء والفرح للعالم البائس، ولا زالت اليوم تدوّي أصداء تلك البشارة بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، نعم لجميع الناس في كل مكان وزمان بمختلف فئاتهم، ومذاهبهم، وأطيافهم، توجد بشرى بفرح عظيم لهم، وهكذا يكون احتفال الميلاد ليس كأي احتفال، إنه احتفال ميلاد المخلص الذي هو المسيح الكلمة المتجسد «الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقًا» (يوحنا 1: 14).
وأيضًا كم كان هذا الحدث الجلل أمرًا عجيبًا ورهيبًا بقدر ما كان مُفرّحًا وباعثًا للرجاء والأمل، فقد كانت أحداث الميلاد تصحبها الرهبة والجلال، حيث كانت البشارة من أعلى إلى أسفل، من السماء إلى الأرض، فجاءت الملائكة من السماء لتبشر البشر على الأرض ببشرى الميلاد العجيب، وأيضًا كانت تصحبها الدهشة والعجب، حيث أن هذا الميلاد لم يكن ميلادًا عاديًّا لكنه ميلادًا عذراويّا، حيث أن الملاك أُرسل إلى «عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم» (لوقا 1: 27).
وكم كان اختيار السماء لهذه العذراء القديسة المطوّبة مريم اختيارًا صائبًا حيث كانت «ممتلئة نعمة»، «والرب معها»، «ومباركة في النساء» (لوقا 1: 28)
لذلك فبشرها الملاك قائلًا: «ها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى» (لوقا 1: 31).
وهكذا حدث ذلك الميلاد العذراوي المعجزي حسب قصد الله ومشورته الأزلية، وبالرغم من أنه حدثًا عجيبًا ومدهشًا إلا أنه ليس مستحيلًا على الله طالما كان في قصده وخطته ومشيئته «لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله» (لوقا 1: 37).
لذلك فالعالم الآن أيضًا في ظل كل التحديّات التي تواجهه، وأمام وباء كورونا الذي يهدد حياة البشر يحتاج إلى أن يتجاوب مع بشارة الميلاد، ويلتفت إلى المُخَلّص، فإذا كان وباء كورونا اليوم يهدد بالموت والحزن، فالمسيح المخلّص الواهب حياة للجميع يَعِد بالحياة والخلاص والفرح.
ومن ناحية أخرى يليق بكل من تجاوب مع تلك البشارة المُفَرّحة، وتمتع ببركات الميلاد العجيب أن يفرح به فرحًا عظيمًا، وأن يتّحد به اتحادًا قويًا، وأن يسجد له سجودًا حقيقيًا.
1) أن نفرح به فرحًا عظيمًا:
ترتبط البشارة ارتباطًا وثيقًا بالفرح حيث قال الملاك: «هاأنذا أُبشّركم بفرح عظيم» وهكذا قبول المخلّص، والإيمان به، والعلاقة معه ترتبط بالفرح والسرور، ويدعونا الرب أن نفرح به في كل حين (فيلبي 4: 4)، وإذا تسرب الفتور والضعف للحياة فعلينا ألا نستسلم للفشل، بل ننهض ونرجع للتمتع بفرح وبهجة الخلاص «رُدّ لي بهجة خلاصك» (مزمور 51: 12)
وأيضًا عندما نواجه تحديات الحياة وصعوباتها وآلامها فإننا أيضًا عندما نلجأ إلى الله، ونحتمي به، ونطلب معونته فإنه يعطينا القوة، والمعونة، والرجاء، والفرح رغم الظروف «فمع أنه… فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي، الرب السيد قوتي ويجعل قدميّ كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي» (حبقوق 3: 17 – 19).
2) أن نتّحد به اتحادًا قويّا:
تُخبرنا قصة ميلاد المسيح العذراوي وتجسده أنه اتّحد بنا «والكلمة صار جسدًا» وأنه بالفعل شابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطية، حيث قال الملاك أيضًا للمطوبة القديسة مريم: «القدوس المولود منك يُدعى ابن الله» (لوقا 1: 35)، لذلك فيجب علينا نحن أيضًا أن نتحد به كرأسنا «لأن الرجل رأس المرأة كما أن المسيح أيضًا رأس الكنيسة، وهو مخلص الجسد» (أفسس 5: 23)، لذلك يجب أن نتحد به، ونوقره، ونخضع له، ونحبه كما أحبنا، وأن نكون في شركة قوية معه.
3) أن نسجد له سجودًا حقيقيًا:
حيث تخبرنا أيضًا قصة الميلاد عن المجوس أنهم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا، وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه، فخرّوا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرّا» (متى 2: 10 – 11)، وهكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نتأمل في ميلاده العجيب، ونذكر حبه العظيم، فنسجد له سجودًا حقيقيًا «لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له» (يوحنا 4: 23)، فنفتح أيضًا كنوزنا ونقدم له كما قدّم المجوس، فكما قدموا له هدايا ذهبُا ولبانًا ومرّا، فعلينا نحن أيضًا أن نتوّجه ملكًا وربّا على حياتنا، وأن نتمتع بوساطته لأجلنا كرئيس الكهنة الأعظم، وأن نذكر دائمًا حبه وصليبه وآلامه لأجلنا.
وهكذا تكون بشارة الميلاد مصدرًا للرجاء والفرح لجميع الناس، فتدق أجراس الميلاد السعيدة المُفَرّحة لتعلو على أصوات الوباء الحزينة، فيُبتلع الحزن من الفرح، ويُبتلع اليأس من الرجاء، ويبتلع الموت من الحياة.