الانتقال من الحزن إلى الفرح
الهدى 1237 نوفمبر 2021
نواصل معًا عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة ما قد بدأناه من قبل حول مزامير التوبة وهي كما أشرنا إليها سبعة مزامير، فيها نرى خبرة إنسانيّة رائعة في قدرة الإنسان على السير في الاتجاه المعاكس والقدرة على الانتقال من حالة الفقد والضياع إلى الوجود في العلاقة مع الله، ونرى أيضًا قدرة الله الفائقة على التغيير والغفران.
إنَّ مزامير التوبة عبارة عن رحلة تحول نمر من خلالها بشجاعة الاعتراف بالخطأ، ثم يكون لنا ثقة بالله المغير والمجدِّد للحياة بجملتها، وبالتالي التركيز على فكر ولاهوت الرجاء بإعلان أنَّ البابَ مفتوحٌ أمام جميع الخطاة، وإمكانية الغفران متاحة أمام جميع البشر.
وعندما نقف أمام مزمور 32 وهو من المزامير الشهيرة والمحفوظة نجد أنَّ هذا المزمور يرسي ويؤسِّس قاعدة هامة بالقول: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ.» (مزمور 32: 1- 2). فالسعادة الحقيقية هي في الغفران، وهي ليست كما يعتقد البعض، في المال أو المكانة أو الصحة أو السلطة فقط، ولكن السعادة هي في التمتع بغفران الله، وهذا هو لبّ الكرازة والعبادة وهدف الخدمة والحياة بجملتها. أن نسمع هذا التصريح الذي قاله المسيح عن العشار الذي طلب الغفران، حيث قال: «وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلًا: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».» (لو 18: 13-14).
يعدِّد المرنم خبراته الإنسانيّة الحياتيّة السيئة في جوانب مختلفة، إذ وهو في الخطية قد حُرِمَ من السعادة وراحة البال. إلى أنْ يصل إلى مرحلة مهمة جدًا تتفق مع ما بدأ به المزمور في الآية الأولى: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ» (مز 32: 1)، والأية الأخيرة «افْرَحُوا بِالرَّبِّ وَابْتَهِجُوا يَا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ، وَاهْتِفُوا يَا جَمِيعَ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ» (مزمور 32: 11)، ويمكننا أنْ نضع ثلاث أفكار أساسيّة لهذا المزمور:
1- سعادة في الغفران
2- سعادة في الإنقاذ
3- سعادة في الإرشاد
الفكرة الأولى: سعادة في الغفران
يجسّد مزمور 32 حالة السعادة الحقيقية التي يحياها الإنسان فيبدأ بكلمة طوبى، وهي حالة من السعادة الحقيقية التي يحياها الإنسان في ظل التمتع بغفران الخطايا. والسعادة هنا مبنية على التبرير أي بمعنى أنَّ الرب لا يحسب له خطية. هذا الإنسان كان غارقًا في الأثم والخطية والغش، فكرًا وممارسة، فساد داخلي وخارجي، لا أمل في إصلاح ذاته بذاته، لكن الله تعامل معه من خلال الرحمة والمحبة فغفر له خطاياه، وستره، ولم يحسب له الرب خطية، ولا يوجد فيه غش، فقد تطهر بالكامل بناء على عمل الله.
والإنسان وهو في حالة الخطية وصل إلى أقسى درجات اليبوسة والجفاف حين يعبّر بالقول: «تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ» (مزمور 32: 4) يشبه نفسه مثل نبات في وقت الجفاف وقد ذكر ذلك في مزمور 38: 2؛ 39: 10)، والحل للتمتع بالغفران والتبرير الإلهيّ هو الاعتراف «أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» مزمور 32: 5)، والنتيجة التي نالها، هي : «وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي» (مزمور 32: 5).
وقد استدعى الرسول بولس بعض من كلمات هذا المزمور في الكلام عن التبرير بالإيمان فقال: «كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً». (رومية 4: 6- 8).
حالة الحزن والأسى والضيق والجفاف التي مر بها داود هي خبرة كل إنسان بعيد عن الله لم يتمتع بعد بالغفران الإلهيّ، الخطية تدمر وتشوه وتلوث الإنسان لكن دم المسيح يطهر من كل حطية. «وَلكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ.» (1 يو 1: 7).
أروع سعادة وأجل فرح هو سعادة الغفران وبهجة التبرير «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،» (رو 5: 1).
الفكرة الثانية: سعادة في الانقاذ
التلامس الحقيقي هو عندما يتقابل المحتاج مع المعطي، عندما يتقابل المصلي مع سامع الصلاة، لينقذه «لِهذَا يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ فِي وَقْتٍ يَجِدُكَ فِيهِ. عِنْدَ غَمَارَةِ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ إِيَّاهُ لاَ تُصِيبُ. (مزمور 32: 6). ويؤكَّد إشعياء على هذا بالقول: «اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ.» (إش 55: 6). هذا التقابل بين التقي والله في حياة الصلاة بعد نوال التبرير وغفران الخطايا يجعله يجتاز في وسط الظروف الصعبة بين المبادئ الروحية والحياة الواقعية فيقول المختبر: «عِنْدَ غَمَارَةِ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ إِيَّاهُ لاَ تُصِيبُ» (مزمور 32: 6) ثم يقول: «أَنْتَ سِتْرٌ لِي. مِنَ الضِّيقِ تَحْفَظُنِي. بِتَرَنُّمِ النَّجَاةِ تَكْتَنِفُنِي» (مزمور 32: 7). وكما تغنى حبقوق في القديم: «اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي.» (حب 3: 19)
هذا هو الإحساس الدائم بمعية الله وعنايته الفائقة وحفظه وصلاحه الدائم في كل الظروف وفي كل الأحوال، الله ستر، الله حافظ، الله حامي، الله منقذ. وهذا هو اختبارنا اليوميّ المتجدِّد «الرَّبُّ حَافِظُكَ. الرَّبُّ ظِلٌّ لَكَ عَنْ يَدِكَ الْيُمْنَى.» (مز 121: 5). وعلى وعد المسيح «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي.» (يوحتا 10: 27- 28) نتكل ونعتمد ويتأكد لنا أنَّ الله الخالق، هو الله الغافر، هو الله المعتني بنا في كل الأوقات وفي كل الظروف.
الفكرة الثالثة: سعادة في الإرشاد
يظهر المزمور هنا صورة رائعة لله وهي صورة المرشد، والمعلم، والمشير، فيقول: «أعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ.» (مزمور 32: 8)، هذا هو الدور الإلهيّ الذي يقوم به الله من خلال المكتوب، ويرشدنا من خلال عمل الروح القدس.
أمام عملية التعليم والنصح والإرشاد يحتاج الإنسان إلى أن يكون مستقبلًا جيدًا فاهمًا وواعيًا لكي يتغير ويتشكل في ضوء التعليم والإرشاد والنصح. ويحتاج الإنسان إلى فتح البصيرة وهي أن «لاَ تَكُونُوا كَفَرَسٍ أَوْ بَغْل بِلاَ فَهْمٍ.» (مزمور 32: 9). يركز سفر دآنيال على هذا الأمر في قضية الفهم وكذلك أسفار الحكمة أيضًا تركز على هذه القضية المهمة وهي أن يعيش الإنسان إنسانيته من خلال الفهم، وإن غاب عنه هذا الأمر يكون كفرس أو بغل بلا فهم.
يقول دانيال «والْفَاهِمُونَ مِنَ الشَّعْبِ يُعَلِّمُونَ كَثِيرِينَ.» (دا 11: 33) «وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ.» (دا 12: 3) «كَثِيرُونَ يَتَطَهَّرُونَ وَيُبَيَّضُونَ وَيُمَحَّصُونَ، أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَفْعَلُونَ شَرًّا. وَلاَ يَفْهَمُ أَحَدُ الأَشْرَارِ، لكِنِ «الْفَاهِمُونَ يَفْهَمُونَ.» (دا 12: 10). ثلاثة أمور يقوم بها الفاهم أو الفاهمون، فهم: يعلمون، يضيئون، يفهمون. في ظل الضبابية والتيه والتشتت نحتاج إلى قبول التعليم والنصح والإرشاد من الله.
سعادة الإرشاد مبنية على الفهم الحقيقي لكلمة الله في الحياة، كما أنَّ دور الإيمان يقودنا إلى الفهم «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ» (عب 11: 3)، ومن المؤكد لنا أن ثلاثية التعليم، والإرشاد والنصح سبب تعزية حقيقية لضبط النفس وتهذيبها. يقال إنَّ القديس أغسطينوس قبل وفاته كتب هذا المزمور على الحائط وهو على فراش المرض ليجد تعزية حقيقية وهو في حالة المرض.
كما تابعنا معًا عزيزي القارئ أنَّ التوبة رحلة ينتقل فيها الإنسان من الحزن جراء الخطية إلى الفرح نتيجة لنوال الغفران، ما زال باب التوبة مفتوحًا أمامنا؛ فمهما كانت خطايانا وأثامنا يمكن أن نسمع القول: «»طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ.» (مزمور 32: 1- 2). وذلك من خلال الاعتراف «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ.» (1 يو 1: 9).
يثير هذا المزمور وكل مزامير التوبة العلاقة بين الغفران وعدل الله وتأديبه، يعدّد وارن ورازبي المخاطر التي لحقت بداود من فعل الخطية، وذلك كنتيجة طبيعية أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، فيقول: الله في عدله يغفر لنا لكن في عدله يقول: «إن ما نزرعه إياه نحصد» لقد حملت بثشيع وولدت ابنًا لكنه مات. وقام أمنون ابن داود باغتصاب أخته غير الشقيقة (2 صم 12)، فقتله ابن داود الأخر وهو أبشالوم، ثم حاول أبشالوم الاستيلاء على العرش فقتله يوآب (2 صم 14- 18). بينما كان داود يحتضر، حاول ابنه أدونيا أن يأخذ العرش من سليمان ( ملوك الأول 1)، وقتل أدونيا. هذا ملخص قصير لما حدث مع داود وجناه نتيجة الخطية. فالغفران قد تم ولكن الأثار استمرت.