الانضباط مقابل الانفلات
الهدى 1213- 1214 سبتمبر وأكتوبر 2019
نتابع معًأ سلسلة علامات أساسيّة في الحياة المسيحيّة، وقد تناولت العلامة الأولى وأطلقت عليها: الرّوحانيَّة مُقابِل الجسدانيّة، ثم علامة أخرى وهي: العُمْق مُقابِل السَّطْحيَّة، وفي هذا العدد ندرس علامة أخرى بعنوان: الانْضِباط مُقابِل الانْفِلات .
{الانْضِبَاط} أكْثَر مَا نُطَالِبُ بِهِ كُلّ مَنْ حَوْلَنا، أفْرَادَاً ومُؤسَّسات، وأقَلّ مَا نُطَبِّقُهُ ونَلْتَزِمُ بِهِ في حَيَاتِنا. هُنَاكَ الانْضِبَاط العَسْكَرِي، والوَظِيْفِي، والمَدْرَسِي، والحِزْبِي، والرِّيَاضِي، والكَنَسِي… الخ. أمَّا تَشْدِيْدنا هُنا فَعَلى الشَّخْصِيَّة المسِيْحِيَّة المُنْضَبِطَة بشَكْل عام، مَعَ التَّرْكِيْز على أهَمّ ثَلاثَة مَجَالات للانْضِبَاط.
الانضباط هو
التَّحَكُّم في الأفْعَال والانْفِعَالات ورُدُود الأفْعَال، ومُعَامَلَة النَّفْس بِحَزْم وشِدَّة. وهُوَ مِنْ ثَمَر الرُّوح القُدُس ويُسَمَّى «تَعَفُّف» (غلاطية 5: 23)، أي {ارْتِقاء وامْتِناع النَّفْس عن كُلّ الميُول الشِّرِّيْرَة. فَهُو قُوَّة رُوحِيَّة دَاخِلِيَّة تَجْعَل المُؤْمِن يَكُفُّ عَمَّا لا يَجُوزُ فِكْراً وقَوْلاً وفِعْلاً، وإخْضَاع الشَّهْوَةِ لِلْعَقْل والضَّمِيْر}. كَمَا يَقُولُ بطْرس: «قَدِّمُوا في إيْمَانِكُم فَضِيْلَةً، وفي الفَضِيْلَةِ مَعْرِفَة، وفي المَعْرِفَة تَعَفُّف» (2بطرس 1: 6). فَالإيْمَان هُوَ الأصْل، ويَجِب أنْ تُؤَسَّس عَلَيْه المَعْرِفَة، أي التَّمْيِيِزْ بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، والصَّوَابِ والخَطَأ. وأوَّل ثِمَارِ تِلْكَ المَعْرِفَة هُوَ التَّعَفُّف/ الانْضِبَاط.
والْكَلِمَة مِنْ «عِفَّة» أيّ تَحَاشِي الإسْرَاف في الأمُور الحِسِّيَّة، مِثْل الأكْل والشُّرْب واللبْس والجِنْس. فالمُنْضَبِط لا يُعْطِي لنَفْسِه كُلّ مَا تُرِيد، بَلْ يَقِفُ ضِدَّها في بَعْضِ مُتَطَلِّباتِها. هَذَا مَا عَلَّم بِهِ المسِيْح: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، ومَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ في هَذَا العَالَمِ يَحْفَظُها إلى حَياةٍ أبَدِيَّة» (يوحنا 12: 25). فَمَنْ يَضْبِطُ نَفْسَهُ هُوَ الذي يَتَحَكَّم فِيْها، فَلا يُسَلِّمُها إلى الضَّيَاع والهَلاك، وهُوَ بِذَلِكَ يُحِبُّ نَفْسَه مَحَبَّة حَقِيْقِيَّة حتَّى أنه يُهْلِكُها مِنْ جِهَةِ مُتَطَلِّباتِها المُنْحَرِفَة، فَيَنْقُدُها ليُنْقِذَها ويُنْقِذُ غَيْرَهُ مِنْهَا.
الإنْسَانُ بِطَبْعِهِ كَائِنٌ اجْتِمَاعِي، لا يَعِيْشُ إلاَّ مَعَ الأخَرِيْن، وبِالأخَرِيْن، وللأخَرِيْن. وهُوَ يَنْشَأُ في أُسْرَة وفي مُجْتَمَع، يَتَلَقَّن مِنْهُمَا العَدِيْد مِنَ القِيَم والمَبَادِئ. مِنْهَا ما هُوَ بَشَرِيّ، خَاضِعٌ للتَّعْدِيلِ والحَذْفِ والإضَافَةِ، فِيْه الخَطَأ والصَّوَاب. ومِنْهَا مَا هُوَ إلَهِيٌّ، يَجِبُ الالْتِزَامُ بِهِ، وعَلَيْهِ يَتَرتَّب الثَّوَابُ والعِقَابُ. وتُعَدُّ هَذِه وتِلْكَ مِنْ أهَمِّ مَا يَنْشَأُ الفَرْدُ عَلَى احْتِرَامِه. ذَلِكَ الاحْتِرام يَرْتَبِطُ بِنِسْبَةٍ كَبِيْرَة بوُجُودِ سُلْطَةٍ، ومُنْذُ طُفُولَتِنَا ونَحْنُ نَخْتَبِرُ أنَّ غِيَابَ السُّلْطَة يُؤَثِّر سَلْبَاً في احْتَرامِنَا تِلْكَ القِيَم والقَوَاعِد. بِمَعْنَى أنَّه إذَا غَاَب مَصْدَر السُّلْطَة، غَابَ الانْضِبَاطُ. فَنَحْنُ لا نَنْضَبِط إلاَّ في وُجُود سُلْطَة، وفي غِيَابِ مَصْدَرها فَإنَّنا نَنْفَلِتُ ونَتَصَرَّفُ بِمَا نَدَّعي أنَّه حُرِّيَّة. وبِذَلِكَ نَسْتَطِيعُ أنْ نَقُولَ بوُجُودِ نَوْعَيْن أسَاسِيَّيْن مِنَ الانْضِبَاط:
أ. الانْضِبَاط الخَارِجي
نَاتِجٌ عَن مَجْمُوعَةِ التَّوجِيْهَات والتَّنْبِيهَات والتَّعْلِيْمات والتَّحْذِيْرَات، الصَّادِرَة مِنْ أصْحَابِ السُّلْطَةِ في حَيَاتِنا، مِثْلَ الأب، المُدِيْر، المسْؤول، قَوانِيْن الدَّوْلَة. والانْضِبَاط الخَارِجي يَحْدُثُ عَنْ الخُضُوع لِتِلْكَ السُّلْطَة.
ب. الانْضِبَاط الذَّاتي
نَوْعٌ مِنَ القَمْعِ الدَّاخِلِي للْسَّلْبِيَّات والنَّزْعات الشَّرِّيْرَة، والسَّيْطَرَة الدَّاخِلِيَّة عَلَى رُدُوْد الأفْعَالِ المُتَسَرِّعَة. الأمْر الذي يَتَأثَّر كَثِيْراً بقُوَّة الإرَادَةِ الشَّخْصِيَّة. المُنْضَبِطُ هُنَا لا يَحْتَاجُ إلى سُلْطَةٍ خَارِجِيَّة تُرْهِبُهُ وتُوَجِّهُهُ، بَلْ يَضْبِطُ نَفْسَهُ بسَبَب قَنَاعَتِهِ الذَّاتِيَّة، التي تَكُوْنُ عَادَةً مُبَرْمَجَة أسَاساً بالقُوَاعِد الوُرَاثِيَّة والخَارِجِيَّة، الدِّيْنِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة. أمَّا الشَّخْص الذي لَدَيْه ضُعْفٌ في انْضِبَاطِه الذَّاتِيّ فهو: {غَالَبِاً مَا يُعَانِي مِنْ انْخِفَاضٍ في قُدُرَاتِهِ العَقْلِيَّة، الأمْرُ الذي يُؤَثِّر في سُلُوكِيَّاتِهِ العَامَّة، وعَدَم تَبَصُّرِهِ بِعَوَاقِبِ الأمُوْر .. لَدَيْهِ انْدِفَاعٌ، بِحَيْثُ يَقُومُ بأفْعَالٍ مِنْ دُوْنَ تَفْكِيْرٍ واعْتِبَارٍ لمَشَاعِرِ الأخَرِيْنَ .. يُحَاوِلُ أنْ يُغَطِّي ضُعْفَ انْضِبَاطِهِ الذَّاتِيّ بسُلُوكِيَّاتٍ اسْتِعْرَاضِيَّة أمَامَ الآخَرِيْنَ، لإثْبَاتِ الذَّاتِ .. يَتَهَرَّبُ مِنْ مُوَاجَهَةِ المشَاكِلِ، كَالْوَسِيْلَة الوَحِيْدَة للتَّخَلُّص مِنْهَا .. يَتَّسِم سُلُوْكَهُ بالعَدَاءِ، وغَالِبَاً لا يَشْعُرُ بِالحَيَاءِ أوْ النَّدَمِ أوْ الأسَف .. وغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَحَمُّل المسْؤولِيَّة}.
مجالات الانضباط
(1) الانضباط في الأقوال
يُعَالِجُ الرَّسُول يَعْقُوب في (ص 3) مِنْ رِسَالَتِهِ مُشْكِلَة إسَاءَة اسْتِخْدَامِ الِّلسَان، مُشِيْراً إلى شُرُوْرِهِ وصُعُوْبَة ضَبْطِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ دُوْنَ زَعْزَعَةٍ. إنَّهُ العُضْو الوَحِيدُ الذي لا يُمْكِنُ تَرْوِيْضَهُ (ع 7)، مَعَ أنَّ الإنْسَانَ رَوَّضَ الكَثِيْر مِنَ الحَيَوَانَات المُتَوَحِّشَةِ. «لا يَسْتَطِيْعُ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ أنْ يُذَلِّلَهُ، هُوَ شَرٌّ لا يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمَّاً مُمِيْتَاً» (ع 8)، تَارَةً نُرَنِّمُ بِهِ ونُمَجِّدُ اللهَ، وتَارَةً أخْرَى نًلْعَنُ بِهِ النَّاسَ الذيْنَ تَكَوَّنوا عَلى شِبْهِ الله!! فَمَا أَصْعَبَ السَّيْطَرَةَ عَلَيْهِ من قِبَلِ الإنْسَان، نِعْمَةُ المَسِيحُ فَقَط هي التي تَسْتَطِيعُ السَّيْطَرَةَ عَلَيْه.
فَمَنْ يَعْرِفُ خُطُوْرَة هَذَا العُضْوّ الصَّغِيْر، يَجِبُ أنْ يَحْتَرِس كَثِيْراً قَبْلَ أنْ يَقُوْلَ كَلِمَة وَاحِدَة. يَجِبُ أنْ يَنْضَبِطُ في الكَلامِ، ولا يَتَكَلَّم بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنْ أفْكَارٍ وكَلِمَات. أمَّا الشَّخْص الذي يَقُولُ: (أنا صَرِيْح ودُغْرِي، واللي في قَلْبِي عَلَى لِسَانِي)، هُوَ أحْمَقٌ غَيْر مُنْضَبِط، يَخْدَعُ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا يَفْعَلَهُ هُوَ مِن الفَضَائِل، بَيْنَمَا هُوَ مِنَ الرَّذَائِل. يَجِبُ أنْ يَفْحَصَ كُلّ كَلِمَة تَخْرُجُ مِنْ فَمِه، لاسِيَّمَا في الأوْقَاتِ الحَسَّاسَة، وبِخَاصَةٍ في أوْقَاتِ التَّوَتُّر والتَّعْصِيْب. لَيْسَ بِسَبَب لَفْظِ الكَلِمَة ذَاتِها، بَلْ بِسَبَب تَأثِيْرِها ونَتَائِجِها ورُدُود الفِعْلِ عَلَيْها، التي مِنَ الصَّعْبِ جِدَّاً اسْتِرْجَاعَها. فَمَا يُقَالُ لا يُمْكِنُ إرْجَاعهُ ثَانِيَةً، مَهْمَا حَاوَل قَائِلُهُ أنْ يَسْحَبَ كَلامَهُ، أوْ يَعْتَذِر عَنْهُ، أوْ يُحَاوِل إصْلاحَهُ.
يَقُولُ المَسِيْحُ إنَّ كُلُّ كَلِمَةٍ بَطَّالَة تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِنَا تُسَبِّبُ لَنَا الدَّيْنُوْنَة «لأنَّكَ بِكَلامِكَ تَتَبَرَّرُ، وَبِكَلامِكَ تُدَانُ» (متى 12: 37). ويَطْلُبُ بولس مِنَ المؤمِنِيْن: «لا تَخْرُج كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أفْوَاهِكُم، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَة للسَّامِعِيْن» (أفسس 4: 29). فَيَقُولُ الرَّسُول يَعْقُوب إنَّنا لَنْ نَسْتَطِيعَ أنْ نَضْبِطَ ألْسِنَتِنا إلاَّ إذا سَيْطَرَ الرُّوح القُدُس عَلى قُلُوبِنا. فَمَا أكْبَرَ خَسَائِرَ أصْحَاب الألْسِنَة المُنْفَلِتَة؟ ومَا أكْثَرَ الثَّمَن الذي يَدْفَعَهُ مَنْ يُخْطِئُ بِلِسَانِه؟ يَقُولُ الحَكِيْمُ: «مَنْ يَحْفَظَ فَمَهُ ولِسَانَهُ، يَحْفَظُ مِنَ الضِّيْقَاتِ نَفْسَهُ» (أمثال 21: 23).
لِذَلِكَ فَإنَّنا نَحْتَاجُ كَثِيْرَاً أنْ نَتَعَلَّم أنْ لا نَسْمَعَ ونُصَدِّقَ كُلّ مَا يُقَالُ لَنَا، ولا نُرَدِّدُ ونَنْشُرُ ونَنْقِلُ كُلَّ مَا نَسْمَعَهُ. بَلْ نُصَلِّي مَعَ المُرَنِّم: «اجْعَل يَا رَبُّ حَارِسَاً لِفَمِي، احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ .. لِتَكُنْ أقْوَالُ فَمِي وفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أمَامَكَ .. قُلْتُ أتَحَفَّظُ لِسَبِيْلِي مِنَ الخَطَأ بِلِسَانِي، أحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيْمَا الشِّرِّيْرُ مُقَابِلِي» (مزمور 141: 3/ 19: 14/ 39: 1).
(2) الانضباط في الأفكار
ضَبْطُ الأفْكَار هُوَ أسَاسُ ضَبْط الأقْوَال والأفْعَال. لِذَلِكَ عَلَّمَ المَسِيْح أنَّ حَياةَ الانْضِبَاط تَبْدَأ أصْلاً مِنَ الفِكْرِ «ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ» (مرقس 7: 20). فالشَّخْصُ المُنْضَبِط فِكْرِيَّاً:
أ. مُنْضَبِطٌ مِنْ جِهَةِ التَّعْلِيمِ والعَقِيْدَةِ، الأمْرُ الذي حَذَّر بولُس مِنْهُ: «خَطَبْتُكُم لرَجُلٍ واحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيْفَةٍ (مُنْضَبِطَةٍ) لِلْمَسِيحِ. ولَكِنِّي أخَافُ أنَّه كَمَا خَدَعَت الحَيَّةُ حَوَاءَ بِمَكْرِهَا، هَكَذَا تُفْسَدُ أذْهَانَكُم عَنِ البَسَاطَةِ التي في المَسِيْح» (2كورنثوس 11: 2). فَهُوَ يَخَافُ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ مِنَ البِدْعَةِ والخِدْعَةِ، ويُرِيدهُم كَعَذْرَاءَ عَفِيْفَةٍ مُنْضَبِطَةٍ فِكْرِيَّاً.
ب. لا يَقْبَلُ وَلا يَتَسَاهَل مَعَ الأفْكَارِ الخَاطِئَةِ والمُنْحَرِفَةِ، الدِّينِيَّة مِنْهَا والاجْتِمَاعِيَّة. فَلا يُمَارِسُهَا ولا يَنْقِلُهَا ولا يَنْشُرُهَا. فَلا تَنْشُرُ كُلَّ مَا تَسْمَعَهُ أوْ تَتَعَلَّمَه قَبْلَ أنْ تَفْحَصَهُ جَيِّدَاً. فَالْفِكْرَةُ وَهِيَ في ذِهْنِكَ تَحْتَ سَيْطَرَتِكَ، لَكِنْ عِنْدَمَا تَنْشُرُها تُصْبِحُ تَحْتَ سَيْطَرَةِ النَّاسِ، ومَنْ يَضْبِطُ أفْكَارَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ يُحَاوِلُ أنْ يَضْبِطَ أفْكَارَ غَيْرِهِ. انْشَغِل بالأفْكَارِ الصَّحِيْحَةِ، وعَالِج الفِكْرَ الخَاطِئ بِالْفِكْرِ الصَّحِيحِ المُؤَسَّس عَلَى كَلِمَةِ الله.
(3) الانضباط في الأعمال
يَقُول بولُس الرَّسُول عَنْ الأرَامِلَ وغَيْرِ المُتَزَوِّجِيْنَ: «إنْ لَمْ يَضْبُطُوا أنْفُسَهُم، فَلْيَتَزَوَّجُوا. لأنَّ الزَّوَاجَ أصْلَحُ مِنَ التَّحَرُّق»، التَّحَرُّق هو اشْتِعَالُ الشَّهْوَةِ بِشِدَّة (1كورنثوس 7: 9). ويَقُولُ عَن الرِّيَاضِيِّيْنَ الذين يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفَوْز: «كُلّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ في كُلِّ شَيءٍ» (1كورنثوس 9: 25)، لِكَي يَحْتَفِظَ بِلَيَاقَتِهِ البَدَنِيَّةِ ويُحَقِّقُ الفَوْزَ. فَإذَا كَانَ أوْلَئِكَ يَضْبُطُونَ أنْفُسَهُم مِنْ أجْلِ إكْلِيْلٍ يَفْنَى، فَالمُؤْمِنُ الرُّوحَانِيّ يَجِبُ أنْ يَضْبُطَ نَفْسَهُ مِنْ أجْلِ إكْلِيلٍ لا يَفْنَى. وعِنْدَمَا شَرَحَ صِفَات خُدَّام المَسِيْح، مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، قَالَ: «لِيَكُنْ ضَابِطاً لِنَفْسِهِ .. مُتَعَقِّلاتٍ عَفِيْفَاتٍ (مُنْضَبِطَات)» (تيطس 1: 8/ 2: 5).
لَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يُرِيْدُ أنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَحْلُو لَهُ، بِاسْمِ الحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّة والاعْتِدَادِ بالنَّفْسِ، غَيْرَ مُبَالٍ بِكَبِيْرٍ أوْ بِتَقْلِيدٍ أوْ بِقَانُونٍ أوْ بأُصُولٍ وَأَعْرَافٍ!! أمَّا الإنْسَانُ الرُّوْحَانِي، فَإنَّهُ يَعِيْشُ بحُرِّيَّةٍ، لَكِنَّهَا مُنْضَبِطَة. كَالنَّهْرِ الذي يَجْرِي بحُرِّيَّة بَيْنَ شَاطِئَيْهِ، يَحِدَّهُ شَاطِئَانِ عَلى جَانِبَيْهِ، لا يَعْتَدِيَانِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ في مَجْرَاهُ، بَلْ يَضْبُطَانِهِ حَتَّى لا يَخْرُجَ عَنْ مَسَارِهِ ويَتَحَوَّل إلى مُسْتَنْقَعَات.
فَانْضِبَاطُ الأفْعَالِ احْتِرَامٌ للآخَرِيْنَ ومَشَاعِرَهُم، واحْتِرَامٌ للأنْظِمَةِ والقَوَاعِدَ المَرْعِيَّة. والانْضِبَاطُ في العَمَل الوَظِيْفِي هُوَ الْتِزَامٌ بقَوَاعِدِ العَمَل لِتَحْقِيقِ الإنْجَازَات المَطْلُوْبَة. والإنْسَانُ الرُّوحَانِي عِنْدَمَا يَضْبُطُ عَمَلَهُ وأفْعَالَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، لا يَرَى في ذَلِكَ أيّ انْتِقَاصٍ لحُرٍّيَّتِهِ. فَمَا الحَيَاةُ إلاَّ مَعْرَكَةٌ مَعَ الذَّاتِ يَجِبُ أنْ نَنْتَصِرَ فِيْهَا. هِي لَيْسَت مَسْرَحِيَّة يُمْكِنُنَا أنْ نَنْسَحِبَ مِنْ مُشَاهَدَتِها في أيِّ وَقْتٍ. وتَحْقِيق ذَلِكَ النَّصْرِ يَتَطَلَّبُ جَهْدَاً كَبِيْراً في تَرْوِيْضِ وتَدْرِيب النَّفْسِ والجَسَد. فالرِّيَاضِي المُنْضَبِط، يُحَافِظُ عَلى نِظَامٍ مُعَيَّن في الأكْلِ والتَّدْرِيبِ في كافَّة الظُّروف وأصْعَبَها.
(4) الانضباط في كلِّ شيء
المُؤْمِنُ الرُّوْحَانِي، لَيْسَ فَقَط مُنْضَبِطٌ مِنْ جِهَةِ أقْوَالِهِ وأفْكَارِهِ وأفْعَالِهِ، بَلْ أيْضَاً مُنْضَبِطٌ:
أ. مِنْ جِهَةِ الوَقْتِ وتَوْزِيْعِهِ، واسْتِثْمَارِهِ بِشَكْلٍ جَيِّدٍ فِيْمَا يَفِيْد، واحْتِرَامِهِ المَوَاعِيْد.
ب. مِنْ جِهَةِ أعْصَابِهِ، والغَضَب البَاطِلِ المُتَسَرِّع.
ج. مِنْ جِهَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ، لأنَّه مُؤتَمَنٌ مِنَ الله عَلَى جَسَدِهِ.
د. مِنْ جِهَةِ العَلاقَاتِ، فَيَحْرِصُ عَلَى احْتِرَامِ الخُصُوصيَّات والمشَاعِر والخَلْفِيَّاتِ المُخْتَلِفَة عَنْهُ.
الانضباط أحد أهمّ أسرار النجاح
إنَّ التَّرَاجُعَ والتَّهَاوُنَ والكَسَلَ مِنْ سِمَاتِ الإنْسَان، وضَبْطِ النَّفْس هُوَ السِّمَة الأوْلَى العَمَلِيَّة لِلنَجَاح في أيِّ مَجَالٍ. فَتَرْك النَّفْس عَلى هَوَاهَا أمْرٌ مُرِيْحٌ وقَدْ يَكُونُ مُرْبِحَاً، لَكِنْ عَلَى المَدَى القَصِيْرِ فَقَطَ. عَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ: إذا كُنْتَ إلَى وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ الَّلْيل عَلَى الإنْتَرْنِت، ومُسْتَمْتِعٌ مَعَ الأصْدِقَاءَ والصُّوَر والتَّعْلِيْقَات، ولَكِنَّكَ في صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي يَجِبُ أنْ تَذْهَبَ إلَى الكَنِيْسَةِ، فَأَنْتَ هُنَا أمَامَ خَيَارَيْن: إمَّا أنْ تَقْتَحِم نَفْسَكَ وتُجْبِرُ نَفْسَكَ عَلى الانْتِهَاءِ بسُرْعَةٍ مِن هَذِه المُتْعَةِ، وإمَّا أنْ تَتْرُكَ نَفْسَكَ عَلى هَوَاهَا في مُتْعَتِهَا المُؤَقَّتة تِلْكَ، وتَخْسَرَ فُرْصَة العِبَادَة.
مِثَالٌ أخَر: إذا وَاجَهْتَ مَوْقِفَاً لَمْ يُعْجِبَكَ، وَسَمِعْتَ كَلامَاً اسْتَفَزَّكَ، فَإمَّا أنْ تُوَاجِهَ صَاحِب المُشْكِلَة برُوحِ المَسْؤولِيَّة والمَحَبَّة الأخَوِيَّة وتَضْبُطُ نَفْسَكَ، وإمَّا أنْ تَنْفَعِل بِشِدَّة وَتُخطئ، ثمَّ تَتَهَرَّبَ وتَقْطَعُ تِلْكَ العَلاقَة، وتَضَعُ فَلْسَفَةً تُبَرِّرُ بِهَا تَصَرُّفَكَ هَذَا الغَيْرِ مُنْضَبِط، وتَدَّعي أنَّ هَذَا أسْلوبُ شُجَاع وحَكِيمُ وَصَّحِيْح، ذَلِكَ لأنَّكَ عَجَزْتَ في أنْ تَضْبُطَ نَفْسَكَ.
كَمَا أنَّك إذا فَشَلْتَ في مُوَاجَهَةِ ابْنِكَ وضَبْط سُلُوْكِهِ، فَإنَّكَ تُعَبِّر عَنْ عَجْزِكَ هَذَا بِقَوْلِكَ: التَّرْبِيَة الحَدِيْثَة تَتَطَلَّبُ مِنَّا أنْ نَتْرُكَ أوْلادَنَا عَلى حُرِّيَّتِهِم. وهَكَذا، فَبَدَلاً مِنْ مُوَاجَهَةِ الفَشَل والتَّصَدِّي لَهُ، يَتَحَوَّل هَذَا الفَشَل إلَى فَلْسَفَةٍ تَسْتَحِقُّ الدِّفَاعَ عَنْها.
{الانْضِبَاطُ} أحَد أهَمّ العَلامَات الأسَاسِيَّة لِلْحَيَاةِ المَسِيْحِيَّة الحَقِيْقِيَّة، وأحَد أهَمّ أسْبَابِ النَّجَاح في العَدِيْدِ مِنْ مَجَالاتِ الحَيَاةِ. فَكُنْ مُنْضَبِطَاً في أقْوَالِكَ، وفي أفْكَارِكَ، وفي أفْعَالِكَ، وفي كُلِّ شَيءٍ، لأنَّ الكِتَابَ يُعَلِّمنا: «كُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ، يَضْبُطُ نَفْسَهُ في كُلِّ شَيءٍ».