دراساتدراسات كتابية

الحرّية التي لنا في المسيح

الهدى 1219                                                                                                                               مارس 2020

قال الرّب يسوع له كُل المجد «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا.» والحرية هي حُلم كُل إنسان، فمثلًا كان شعار الثورة الفرنسية 1789م «حرية.. إخاء.. مساواة»، وكان شعار ثورة يناير المِصرية 2011م «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»، فمِن الواضح أن الحرية هي احتياج إنساني أصيل، وهي محور أساسي في فكر المسيح وخدمته.
وعندما تأملتُ في موضوح الحرية مِن الناحية الروحية والعملية تساءلتُ مِن ماذا حرّرنا المسيح؟ وبالطبع قفزت إلى ذهني الإجابة التقليدية «أن يسوع حرّرنا مِن الخطية» وهذا صحيح بالتأكيد، ولكن تساءلتُ ثانيةً، هل حرّرنا المسيح مِن أمور أخرى أيضًا؟
وبعد التفكير والتأمل، وجدت أنه بالفعل حرّرنا مِن أمور عديدة وليس مِن الخطية فقط، وسأذكر هنا أربعة أمور مما توصلت إليهم وهم كالآتي:
أولًا: التقليدية
عاش الرّب يسوع في بيئة يهودية بحتة، وكانت الحالة الروحية في أشد تدهور وانحدار آنذاك. حيُث كانت القومية اليهودية التي تأسست على يد موسى النبي وازدهرت في عصر الملك داود مُنهارة، بسبب كثرة السبي والاستعمار. وبينما كان الشعب اليهودي مُشتت وسط ثقافات وعبادات مُختلفة، لجأ إلى مظهر الدين دون جوهره، فظهرت جماعات مثل: «الفريسيون والغيورون والإسينيون»، الذين تشددوا في الدين واهتموا بالطقوس والنواميس والفرائض وصنعوا لأنفسهم تقليدًا خاصًا، دون اهتمام حقيقي بالإنسان، ودون تبني أصيل للقيم والأخلاق، فكان دينهم دين مظهري لا جوهر له.
ولكن جاء الرّب يسوع وضرب بيد مِن حديد كُل مظاهر العبادة الشكلية، والتزمت الديني المقيت، الذي يجعل الشخص مُتعصبًا لا يرى الله في حقيقته. وهذا ما أعلنه الرّب يسوع عندما قال لنيقوديموس الشيخ اليهودي «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ» أي ينبغي أن تكون شخصًا حقيقيًا مِن الداخل، وأن تكفَ عَن المظاهر الشكلية للتدين. كما نرى أيضًا في إعلان الرّب يسوع للمرأة السامرية بأن « اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» تصريح ناري صادم للعقلية الدينية في ذلك العصر، بل وفي كُل عصر، وهو أن عبادة الله لا تتوقف على زمان أو مكان.
وعندما تذكرت هذه المواقف وهذه الأقوال للرّب يسوع، رأيت أنه بالفعل أعطى لنا حرية حقيقية مِن التقليدية الطقسية التي لا تعرف روح العبادة المُنفتحة على شخص الله في أي زمان ومكان.
ثانيًا: الإقصائية
الأمر الثاني: الذي حرّرني منه المسيح هو «الإقصائية» فنحن كبشر بطبيعتنا متحيزون لجنسنا وعرقنا ولوننا وديننا وطائفتنا وآرائنا، وهذا يُمكن أن يكونَ أمرًا محمودًا، إذا جاء في نطاق الهوية والانتماء. ولكن المشكلة الحقيقية لدينا كبشر هي أن تحيزنا يصل بنا إلى حد التعصب والتطرف، مما يُنتج بشكل مباشر إقصاء وتهميش للآخر. وهذا ما يظهر في كل أشكال العنف بدءً مِن خطاب الكراهية والعنف المعنوي إلى التطرف الإرهابي والعنف البدني.
لكن جاء الرّب يسوع وواجه بكل شدّة وحزم خطاب الكراهية هذا، الذي حثّ على العنف والإقصاء ورفض الآخر، مما أدى إلى صدام حقيقي وحاد بينه وبين أصولي عصره، وهذا الصدام كان أحد أسباب ذهابه إلى الموت مصلوبًا.
فعندما نرى الرّب يسوع يمتدح السامري الذي عاد وشكره بعد شفائه، وامتداحه للسامري الصالح، في المثل لإبداعي الذي ضربه، وأيضًا عندما يروي لنا البشير يوحنا أن يسوع ذهب إلى المرأة السامرية خصيصًا، في الوقت الذي كان اليهود لا يُعاملون السامريين. نجد أن كُل هذا كان بمثابة ضربة قاضية للعقلية اليهودية التي اعتقدت وهمًا وخطأً، أنهم فقط جماعة الله المختارة، وظلوا على مدار سنوات عديدة يرفضون الأمم ولا يُعاملوا السامريون، لأنهم نجسون مِن وجهة نظرهم.
وهُنا بالفعل أرى المسيح المُحرر مِن التعصب والإقصاء ورفض الآخر، وقد خلقَ أمامي أرضًا جديدة، للحوار وقبول الآخر والعيش المُشترك، الأرض التي يُمكن للآخر أن يكون واقفًا عليها دون تهديد لي.
ثالثًا: الانعزالية
كانت إحدى مظاهر التدهور الروحي الذي كان يعيشه اليهود عندما جاء الرّب يسوع، هي الانعزال والانسحاب مِن المجتمع، بدعوى التقوى والتدين. فمثلًا جماعة الإيسنيين كانوا يعيشون في منطقة قمران عند البحر الميت، وكانت حياتهم حياة نسكية انعزالية يغلب عليها التقشف والزهد، وهذا لأن المُجتمع في نظرهم فاسد ولا يجوز الاختلاط به.
ولكن جاء الرّب يسوع واقتلع من الجذور هذا الفكر المتطرف، وأكد أنه فرد يعيش في المُجتمع، يتأثر بهِ ويؤثر فيهِ، يتفاعل معه بإيجابية ولا يأخذ منه موقفًا سلبيًا. فهو الذي قال « أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ» « فهو كان يُقر بأنه توجد أمور تخص العبادة والحياة الروحية، وتوجد أمور أخرى تخص الحياة المُجتمعية، دون فصل أو تجزئة.
فالرّب أثناء حياته قرر أن يدفع ضريبة الهيكل، وكان يذهب إلى الأفراح، ويقبل الاستضافة مِن الآخرين (ذهب إلى بيت سمعان الفريسي، وأكل في بيت ذكا) وحتى العشاء الرباني أسسه وهو يحتفل بعيد الفصح اليهودي، كأي شخص يهودي طبيعي. فهو كان يأكل ويشرب، ويستمتع بالطبيعة، ويُشارك الآخرين أفراحهم وأحزانهم، وكان يذهب للهيكل والمجامع، ويجول في الطرق والشوارع.
وهنُا أرى مرة أخرى حرية المسيح مِن عتمة الانغلاق والانعزال. فعبادة الله الحقيقية والمُنفتحة، تجعل المؤمن يرى الله ويتفاعل معه، دون خوف أو تهديد مِن المُجتمع بما فيه مِن فنون وآداب وفكر وفلسفة وعلوم.
رابعًا: الغيبية
بالتأكيد عندما تنحدر الحالة الروحية تنحدر معها الحالة الفكرية، والعكس صحيح، فالعلاقة طردية بين الروحانية والفكر. وهذا ما نراه جليًا في حالة اليهود المُتدينين في أيام المسيح على الأرض، فكانت الغيبية تملأ أفكارهم وترسم ملامح تفكيرهم. فمثلًا جاء في يوم ما وسأله بعض اليهود عن الزواج في الحياة الأخرى، وكان كُل ما يشغلهم هو إذا تزوجت امرأة مِن سبعة رجال فستكون زوجة مَن في الحياة الأخرى؟
ولكننا نرى الرّب يسوع يردُ عليهم أنه قائلًا: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، « وكأنه يقول لهم كفوا عَن هذا التفكير الساذج الذي يجعل الإنسان يبتعد عن التفكير المنطقي، ويبدأ ينشغل بغيبيات، وبالتالي خرافات لا أساس لها بالدين الحقيقي، الذي يدفع الإنسان للعلاقة مع الله بحرية، متحلياً بالقيم والأخلاق الحميدة.
فقد كان الرّب يسوع يطرح دائمًا الأسئلة على تابعيه لكي يستثير فكرهم، ويجعلهم يفكرون بمنطق، حتى في الأمور الدينية والروحية، وكان دائمًا يستخدم الأمثلة والقصص الرمزية، لكي يجعلهم يستنبطون المعاني بممارسة الفكر وإعمال العقل، وليس بالدروشة والغيبيات والخرافة.
فبالفعل أعطى لنا المسيح الحرية مِن قيود اللامنطق والغيبية، وجعلنا نربط العقيدة بالسلوك والدين بالحياة، بشكل مُتكامل ومُنسجم.
والسؤال المطروح علينا الآن، هل مازلنا نعتقد إن عبادة الله مُرتبطة بالكنيسة وبيوم الاحد فقط؟ أم أنها حياة عبادة مُتكاملة كُل يوم وكُل اليوم. وهل مازلنا نخشى التعامل مع مَن يختلف معنا في العقيدة والفكر؟ أم نقبل بكل حب الآخرين ونتعامل معهم كما تعامل المسيح مع الأمم والسامريين. وهل نرى الفلسفة والفنون والعلوم أمور غير روحية وليست ذات أهمية؟ أم نتفاعل معها ونقبل المحمود منها؟ وهل مازلنا نتعامل مع الأمور الدينية كتراث مُسلّم؟ أم نتفاعل مع النصوص والعقائد بشكل نقدي ومنطقي؟
وأخيرًا، أريد أن أؤكد أن الله في المسيح يسوع حرّرنا مِن دينونة الخطية بالفعل، ويُحرّرنا ويقودنا كُل يوم، مِن خلال عمل الروح القدس فينا، إلى حياة عبادة حقيقية له، كما يجعلنا نؤمن ونعترف بحضور الآخر، ويُعزز فينا الانتماء للخليقة والوطن والمجتمع، ويدفعنا لإعمال العقل وحُب التعّليم والتعلّم كي ننمو في النعمة ومعرفة يسوع المسيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى