الأغصان

العشاء الرباني في المفهوم الإنجيلي

موضوعات الدراسة

  • تمهيد
  • العشاء الرباني في المسيحية
  • الأسماء التي تُطلق على العشاء الرباني
  • من معاني العشاء الرباني
  • العشاء الرباني واستحقاق تناوله
  • عناصر العشاء الرباني
  • توقيت ممارسة العشاء الرباني
  • العشاء الرباني والمفاهيم اللاهوتية
  • العشاء الرباني والإصحاح السادس من إنجيل يوحنا
  • العشاء الرباني والدروس الروحية

تمهيد

عُرِفت قيمة التناول من الطعام بصورة جماعيَّة منذ أقدم الأزمنة، وعلى الأخص عند الشعوب السامية، فقد كان للطعام قيمة مقدسة ترجع إلى سخاء الآلهة، حيث كان يُظن أن الإله يشترك فعلاً في كل شئ مادي وعليه فقد كان الأكل بصورة جماعية علامة الرابطة المقدسة بين الإنسان والله.

ويذكر العهد القديم أنه كانت هناك ولائم وذبائح دلالة علي الفرح والابتهاج أمام الرب، فيقول: «وَتَأْكُلُونَ هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ وَتَفْرَحُونَ بِكُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِليْهِ أَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ وَبُيُوتُكُمْ كَمَا بَارَكَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ» (تثنية 12 : 7)، كما كانت الذبائح في بدايات العهد القديم تعبيراً عن شركة الإنسان بالله «فَأَخَذَ يَثْرُونُ حَمُو مُوسَى مُحْرَقَةً وَذَبَائِحَ لِلَّهِ. وَجَاءَ هَارُونُ وَجَمِيعُ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ لِيَأْكُلُوا طَعَاماً مَعَ حَمِي مُوسَى أَمَامَ اللهِ» (خروج 18 : 12، قارن خروج 24 : 11)، كما أنّ ذبائح السلامة التي ذكرت في العهد القديم (تكوين 31 : 46 – 54)، وذبائح الشركة (1صموئيل 11 : 15، 1ملوك 1 : 25، 41)، لا تُشير فقط إلى أخوة المشاركين فيها، لكنها كانت تعني أيضاً أنَّ أولئك المشاركين في تناول هذه الأطعمة قد أصبحوا مشتركين مع يهوه (الله ذاته)، وعليه فإن كسر هذه الشركة كان بمثابة ارتكاب جريمة (مزمور 41 : 9).

وفي العهد الجديد كان تعبير «عشاء» يعني وليمة أو وجبة رئيسية. وكانت الكلمة المستخدمة في الأصل اللاتيني تلعب دوراً هاماً في الحياة الدينيّة اليوميّة حيث تدل علي الشركة التي يدخل فيها الإنسان مع الإله الذي يعبده.

العشاء الرباني في المسيحيّة

يؤمن المسيحيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم بأهميّة وقيمة العشاء الرباني، وإن اختلفوا في التسمية أو المعنى أو طريقة الممارسة، إلا أنَّ الجميع يتفق أن المسيح هو أول مَن أسس وقام بممارسة العشاء الرباني مع تلاميذه لتذكيرهم والمؤمنين به بموته، ولحملهم على التبشير بموته إلى أن يجئ، وللتأكيد على الشكر والشركة التي تجمع المتناولين معًا.

الأسس التاريخية لفريضة العشاء الرباني

يعتبر الفصح اليهودي أساساً تاريخياً لممارسة العشاء الرباني، حيث كان تجتمع العائلة اليهودية في الفصح اليهودي وتتناول على عجلٍ خروفاً مشوياً وأعشاباً مرة، نقرأ في سفر الخروج: «تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَراً ابْنَ سَنَةٍ تَأْخُذُونَهُ مِنَ الْخِرْفَانِ أَوْ مِنَ الْمَوَاعِزِ. وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ الْحِفْظِ إِلَى الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ فِي الْعَشِيَّةِ. وَيَأْخُذُونَ مِنَ الدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْقَائِمَتَيْنِ وَالْعَتَبَةِ الْعُلْيَا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي يَأْكُلُونَهُ فِيهَا. وَيَأْكُلُونَ اللَّحْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَشْوِيّاً بِالنَّارِ مَعَ فَطِيرٍ. عَلَى أَعْشَابٍ مُرَّةٍ يَأْكُلُونَهُ.لاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ نَيْئاً أَوْ طَبِيخاً مَطْبُوخاً بِالْمَاءِ بَلْ مَشْوِيّاً بِالنَّارِ. رَأْسَهُ مَعَ أَكَارِعِهِ وَجَوْفِهِ. وَلاَ تُبْقُوا مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاقِي مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ تُحْرِقُونَهُ بِالنَّارِ. وَهَكَذَا تَأْكُلُونَهُ: أَحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ وَأَحْذِيَتُكُمْ فِي أَرْجُلِكُمْ وَعِصِيُّكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ. وَتَأْكُلُونَهُ بِعَجَلَةٍ. هُوَ فِصْحٌ لِلرَّبِّ. فَإِنِّي أَجْتَازُ فِي أَرْضِ مِصْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. وَأَصْنَعُ أَحْكَاماً بِكُلِّ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ. أَنَا الرَّبُّ. وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلاَمَةً عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا فَأَرَى الدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ فَلاَ يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاَكِ حِينَ أَضْرِبُ أَرْضَ مِصْرَ. وَيَكُونُ لَكُمْ هَذَا الْيَوْمُ تَذْكَاراً فَتُعَيِّدُونَهُ عِيدا ًلِلرَّبِّ. فِي أَجْيَالِكُمْ تُعَيِّدُونَهُ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً» (خروج 12: 6-14).

كانت ممارسة الفصح في اليهودية تأكيداً وتذكيراً بعمل الله الخلاص الذي خلَّص من خلاله اليهود من مذلة فرعون، وأخرجهم من أرض العبودية، ولم تكن ممارسة الفصح مجرد تذكار عقلي لحدثٍ تاريخي تم وانتهى، بل ممارسة مُعاشة لأن الخروج من تحت نير العبودية كانوا يعيشون تأثيره كل لحظة، فلولا الخروج لما دخلوا أرض الموعد وتمتعوا بالمواعيد الإلهية، وقد استمرت العائلات اليهودية تمارس الفصح طوال الخمسة عشر قرناً منذ الخروج من أرض مصر وحتى مارسه المسيح قُبيل تأسيسه لفريضة أو سر[1] العشاء الرباني.

 كان الفصح ظلاً ورمزاً وتهيئة للأذهان لقبول مجئ المسيح الحقيقة والمرموز له وتقديمه نفسه ذبيحة لأجلنا فقد صار هو نفسه، «فِصْحَنَا» (1كورنثوس 5 : 7).

المسيح وتأسيس فريضة العشاء الرباني

لقد سنَّ المسيح بنفسه فريضة العشاء الرباني، حينما اجتمع مع تلاميذه في العشاء الأخير قبيل صلبه، حيث يذكر البشير متى قائلاً: «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26: 26-27، راجع أيضاً مرقس 14: 22- 25، لوقا 22: 15- 20).

وكتب الرسول بولس مؤكداً ما أسسه المسيح قائلاً: «لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً. وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». كَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَمَا تَعَشَّوْا قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هَذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي». فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ. إِذاً أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1كورنثوس 11: 23- 30)[2]. وهذه الأجزاء الكتابية تُعلِم وتؤكد أن العشاء الرباني فريضة إلهيّة يجب ممارستها.

إنّ العشاء الرباني فريضة أو سر يدل على موت المسيح بإعطاء خبز وخمر وقبولهما حسبما رسمها المسيح بشخصه. والمتناولون باستحقاق يتناولون جسده ودمه ليس تناولاً  جسميًا أو جسديًا، بل روحي بالإيمان. وذلك لقوتهم الروحي ونموهم في النعمة.

وقد جاء في إقرار الإيمان الوستمنستري، «أنَّ الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها وضع سر جسده ودمه، وسماه العشاء الرباني لكي يُمارس في كنيسته إلى منتهى الأزمنة، لأجل ذكر تقديمه نفسه بموته، ذكرًا دائمًا، ولختم كل فوائد ذلك للمؤمنين الحقيقيين ولغذائهم الروحي ونموهم فيه، ولتجديد التزاماتهم بجميع الواجبات التي له عليهم. وليكون رابطًا وعربونًا لشركتهم معه، وشركة بعضهم مع بعض، باعتبار كونهم أعضاء جسده السري، أي الكنيسة».

الأسماء التي تطلق على هذه الممارسة.

تُطلق على فريضة العشاء الرباني عدة أسماء. وقد جاءت أصول هذه المسميات في العهد الجديد، ومنها:

1- عشاء الرب، أو العشاء الرباني: وسمي بهذا الاسم لأنَّ الرب يسوع وضعه عند العشاء، وقد جاء هذا المصطلح في الكتاب المقدس مرة واحدة في (1كورنثوس 11 : 20) «فَحِينَ تَجْتَمِعُونَ مَعاً لَيْسَ هُوَ لأَكْلِ عَشَاءِ الرَّبِّ»، هذا الاسم لم يستخدمه أباء الكنيسة بكثرة لأنه كان في اليونانية يشير إلى الدخول في علاقة تُعبِر عن الشركة بين الإنسان والإله في الوثنية.

2 – كأس البركة: وسُميّ هكذا، لأنَّ الرب يسوع بارك الكأس كما بارك الخبز أيضاً، «كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس 10 : 16، قارن أيضاً متى 26: 26).

3 – مائدة الرب، وكأس الرب: والمراد بالمائدة هنا الطعام الموضوع عليها مجازًا، يكتب الرسول بولس قائلاً: «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ» (1كورنثوس 10 : 21).

4 – شركة جسد المسيح ودمه، وذلك لأنه بواسطة الخبز والخمر، يشترك المؤمن في جسد المسيح ودمه، يقول: «كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس 10 : 16)

5 – الأفخارستيا: «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي» وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ» (متى 26 : 26 – 27). وهذه الكلمة تعني العرفان بالجميل والأمتنان وبالتالي أبداء الشكر وهذا المعنى الأكثر تداولاً في اللغة الإغريقية العادية، وأول من استخدم هذه الكلمة بمعناها الفني هو الديداكي وأغناطيوس وجاستن الشهيد.

6 – كسر الخبز: من الأسماء التي تُطلق على العشاء الرباني مع أنها تختلف هذه عنه لأنها كما جاء عنها في الكتاب المقدس لا تستخدم الكأس أبداً، وقد جاء ذكرها في سفر أعمال الرسل، حين قال: «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ.. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ.» (أعمال 2 : 42، 46 قارن  أعمال 20 : 7). «فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا. فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: «أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟». فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ. وَهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» (لوقا 24 : 30 – 34، قارن يوحنا 21 :1 – 14، أعمال 1: 10).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يجوز أن نطلق على العشاء الرباني «ذبيحة؟!».

والإجابة، بالقطع لا، لماذا؟ لأن العهد الجديد لم يطلق ولا مرة واحدة تسمية «ذبيحة» على العشاء الرباني. وأن نقول على العشاء الرباني في كل مرة نمارسه «هذا ذبيحة» فهذا إهانة بالغة لشخص المسيح الذبيح، وانتقاص لما فعله على الصليب… لماذا؟!

لأنَّ في العهد القديم كانت تقدم الذبائح الحيوانية تكفيراً عن خطايا الإنسان فيذهب الشخص المخطئ إلى الكاهن ويضع يده على الذبيحة ويعترف بخطيئته للكاهن فتنتقل الخطية منه للذبيحة وبذبح الذبيحة يُكّفر عن خطية ذلك الإنسان إذ تعتبر الذبيحة ثمناً لخطيته، وإذا كرر الإنسان نفس الخطأ أو غيره، فعليه أن يقدم ذبيحة جديدة للتكفير عن خطيئته، ذبيحة لكل خطية واحدة، وذلك لمحدودية الذبيحة، سواء في التكفير أو الفداء أو المفعول.

لكن عندما جاء المسيح وقدَّم نفسه ذبيحة على الصليب، كان هو الكاهن والذبيحة، في آن، وهكذا كفَّر عن الخطية إلى الأبد، ويسجل الكتاب المقدس هذه الحقيقة قائلاً: «لَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا» (عبرانيين 9: 12) وأيضاً يقول: «َكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَارًا كَثِيرَةً تِلْكَ الذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ الْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ، مُنْتَظِرًا بَعْدَ ذلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْهِ. لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 11-14).

ومن يستتر بدم المسيح  لا يحتاج إلى التكفير مرة أخرى، ولا يحتاج أن يُذبح المسيح لأجله مرة أخرى إذا أخطأ، لأن ذبيحة المسيح غفرت خطاياه مرة واحدة وإلى الأبد لأنها ذبيحة غير محدودة، ومفعولها ممتد إلى الأبد وهكذا لا تتكرر، فعندما نذكر في كل مرة نمارس فيها فريضة العشاء الرباني أنه ذبيحة، فكأننا نقول أن ابن الله ينبغي أن يُذبح مرة أخرى عن خطايانا، وهذا معناه أن ذبيحته على الصليب لم تكن كافية فيجب أن تُكرر، وهذا ضد فكر الكتاب المقدس الذي يقول: «لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا. وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَارًا كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ إِلَى الأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ» (عبرانيين 9: 24-26).

من معاني العشاء الرباني:

أولاً: عهد بين المسيح والمؤمن به في كل جيل وعصر. إنه عهد المحبة العجيبة الغنية بالصفح والغفران، الذي كتب بدم المسيح على الصليب.

ثانياً: شركة مستمرة بين المؤمنين المفديين ككنيسة، وبين المسيح، الذي هو رأس الكنيسة ومخلص الجسد. وقد وضح الرسول بولس هذه الفكرة بقوله: «كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس 10:  16) بمعنى أن العشاء يتحول بقوة هذا العهد إلى رابطة حية تربط التلاميذ بعضهم ببعض وبالمسيح، فكلما نتناول هذا العشاء نذكر هذه الشركة العظيمة المباركة.

ولا ريب في أن المسيح طبع هذا السر بطابع خاص مميز، فقد خصص بالذات الشئ الأهم في المسيحية ليكون أساس هذه الشركة أعني بهذا الفداء العظيم، حين بذل جسده وأراق دمه من أجلنا.

ثالثاً: شكر، لأن المسيح عندما أخذ العنصرين باركهما، وشكر لأجل تدبير الله العجيب للخلاص، ولأجل محبَّته التي لا يُعبّر عنها، والتي سارت به إلى الصليب، حيث قدم نفسه ذبيحة إثم لفداء الملايين في كل جيل وعصر (لوقا 22 : 14-22)

رابعًا: تذكار لأن المسيح قال: «اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي»، بيد أننا يجب أن نذكر أن هذه الذكرى ليست مجرد ذكرى تاريخية لحادثة الصليب. وإنما هي تذكار حي، يبدو فيه الصليب اختبارًا متجددًا في حياة المؤمن كل يوم، وفقًا لقول الرسول بولس: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2 :20 )

 خامسًا: شهادة مستمرة للمصلوب، لأن المشتركين في العشاء، يقرون بإيمانهم بالمسيح المصلوب، ويجددون معه الولاء. واعترافًا منهم بفضله، يخبرون بموته إلى أن يجئ (1كورنثوس 11: 26)

سادسًا: تقدمة، لأنه يشير إلى عطية الله التي لا يعبر عنها. وقد درج المسيحيون على أن يقرنوا ممارستهم السر، بالمزيد من العطايا والتقدمات، عرفانا بالجميل، وإجلالاً لعطية الله المباركة في يسوع المسيح، الذي صار لهم من الله حكمة وبرا وفداء.

العشاء الرباني واستحقاق تناوله

إن فريضة أو سر العشاء الرباني أسسه المسيح للبشر وليس للملائكة، كل إنسان يُقرُ جهراً بإيمانه بالمسيح وولائه له، فالتناول من العشاء الرباني لا يُخلِص الإنسان، لكن الإنسان المُخَلَص هو مَن له الحق في التقدم والتناول من العشاء الرباني، فليس للأسرار فعاليَّة في ذاتها، بل على دور وعمل الروح القدس وإيمان الشخص المُستلِم والمتلقي، يُعلِم كالفن قائلاً: «للأسرار وكلمة الله وظيفة واحدة: أن تمنح وتضع أمامنا المسيح وما فيه من كنوز النعمة السماوية. ولكن هذه كلها لا تنفع ولا تفيد شيئاً إلا إذا استلمناها بالإيمان»[3].

وإذ أكدَّ الرسول بولس على أهميّة فحص وامتحان النفس حين قال: «.. أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1كورنثوس 11: 27- 29).

فإن المُراد بالإستحقاق هنا هو المبني على كفارة وعمل المسيح وقبول فوائده بواسطة الإيمان، وغاية الرسول بولس بفحص وامتحان النفس هو عدم الاكتفاء بالقول في أنفسهم أنهم آمنوا بالمسيح مرة وكفى، بل أن يجددوا هذا الإيمان الذي لم يوهب ليكون وديعة ملفوفة في منديل، إنما وُهِبَ ليكون له عمله التام، والكامل، وغير الناقص في شئ[4].

ويؤكد كالفن على أهمية فحص النفس عند التناول من العشاء الرباني، قائلاً: «كل مَن يتقدم إلى هذا السر بازدراء أو لا مبالاة .. يسئ استخدام هذا السر مشوهاً وملطخاً إياه. إن تلويث ما قدسه الله وتلطيخه لهو تدنيس لا يُطاق»[5]. ويستطرد قائلاً: ولكن ينبغي أن نكون منتبهين فمع أنه لا يمكن أن نتساهل في مسألة فحص ذواتنا كما يأمرنا ربنا، إلا أنه لا يجب أن نرتبك بالتعاليم المربكة والمفرطة التي تحول حياتنا إلى جحيم مريع من خلال المطالبة بفحص ذاتي غير معقول وغير ممكن. يجدر بنا أن نفحص ذواتنا إن كنا حقاً تائبين ولنا إيمان حقيقي بربنا يسوع، غير مرتكنين على صلاح فينا، بل مرتكزين على عمل نعمته الكافية.

عناصر فريضة العشاء الرباني

تتكون فريضة العشاء الرباني من عنصرين هما، الخبز والخمر[6]، وقد قدَّم المسيح عنصري الفريضة كلا على حدة، فبعد أن بارك الخبز، كسَّر وأعطى تلاميذه، ثم أخذ الكأس على حدة وشكر، وأعطى، والخبز والكأس هنا إشارة لجسد المسيح ودمه، والمؤمن إذ يتناول من هذين العنصرين[7] يذكر موت المسيح، والمسيح يرافق العشاء الرباني بالروح القدس، ويصل بفائدته إلى قلب المؤمن، فالمسيح يكون حاضراً روحياً عندما نمارس الفريضة بالإيمان والشكر والتواضع، وفي حضور المسيح هذه البركة التي تجعل المؤمن يتحد مع المسيح روحياً بالإيمان.

فليست الفريضة مجرد علامة وتذكار فقط، وليست حضوراً حرفياً للمسيح ليُصاحب الخبز والخمر، وليست هي تحويل الخبز والخمر إلى جسد حقيقي ودم حقيقي للمسيح، بل هي حضور روحي للمسيح يصاحب إجراء فريضة العشاء الرباني، فالروح القدس يوثق روابط الاتحاد بين المؤمن والمسيح.

ومن الأمور المهمة في خدمة هذه الفريضة: تكريس الخبز والخمر بالصلاة، كسر الخبز وتقديم الكأس وتوزيعهما، ثم قبول المشتركين لهما.

توقيت ممارسة العشاء الرباني

هل من توقيت مناسب لتقديم العشاء الرباني؟ هل يمكن أن يكون مرة أسبوعياً؟ أو شهرياً؟ أو سنوياً؟ ما هي التوقيتات المناسبة لممارسة والتناول من العشاء الرباني؟

مع أنّه ليست لدينا وصية واضحة تحدد الوقت واليوم الذي يجب أن نُمارِس فيه سر العشاء الرباني، إلا أنَّ المسيح قصد أن نمارس العشاء الرباني مراراً وتكراراً، لتذكيرنا بموته لأجلنا وبوحدتنا في جسده، وللتبشير به إلى أن يجئ، وفي هذا يقول كالفن: «أما مسألة وقت استعمال العشاء، فليس ثمة قاعدة ملزمة للجميع، ولكن إذا تمعنا في الغاية التي قصدها الرب من العشاء يجب أن ندرك بأن استعماله ينبغي أن يكون أكثر مما يفعل بعض الناس، لذا يجب أن نُثبِّت العادة في كل الكنائس لممارسة العشاء بالكثرة التي تسمح بها قدرة الشعب، وعلى كل فردٍ في موقعه أن يعدَّ نفسه لتناوله عند ممارسته في الجماعة العابدة»[8].

وينص دستور الكنيسة الإنجيلية في مصر، في مادته المائة وأربعة، على أنَّ يجب أن يُمارس العشاء الرباني مراراً كثيرة كل عام، على أن يقرر مجلس كل كنيسة عدد هذه المرات، ويجب أن تكون هناك أوقات مخصصة لهذه الفريضة، ويحسن أن تعلن بها الكنيسة قبل الوقت المعين بأحدين على الأقل، وأن تُمارس في مكان العبادة وبما أنَّها خدمة لأجل شركة القديسين لا يجوز أن يمارسها القسيس لأفراد ولكن في حالة مرض أو دوام عدم القدرة على حضور الخدمة الجمهورية يجوز أن تمارس في بيت خاص تحت أشراف المجلس.»[9].

العشاء الرباني والمفاهيم اللاهوتية

 1-مفهوم الاستحالة   TRANSSUBSTDNTION

تؤمن الكنائس التقليدية (الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة)، أنّ الخبز والخمر يتحولان بطريقة سرية بعد صلاة الكاهن عليهما، إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، وذلك مع بقاء الخبز والخمر كما هما في الشكل واللون والطعم والرائحة. فالتحول الذي يحدث في العشاء الرباني حسب اعتقادهم، هو تحول فعلي لا معنوي، وكل ما في الأمر أنه غير مدرك بالحواس البشرية. كما يقولون إن لهذا العشاء فاعلية ذاتية. وهذه الفاعلية هي منح الذين يتناولون منه الغفران والحياة الأبدية، وإعطاؤهم امتياز التمتع بحلول المسيح في نفوسهم، ومساعدتهم على عمل وصاياه في العالم الحاضر أيضاً.

ويرجع السبب في اعتقادهم هذا إلى فهم حديث المسيح عن العشاء الرباني بالمعنى الحرفي، وإلى اعتبار حديثه الوارد في (يوحنا 6) عن التغذي بجسده ودمه للحصول على الحياة الأبدية، خاصاً أيضاً بالتناول من هذا العشاء (وليس بالإيمان بشخصه)، وفهمه تبعاً لذلك بالمعنى الحرفي مثل الحديث الأول.

2– المفهوم اللوثري[10]   CONSBSTANTIATION

ويُسمى هذا الفكر بالحلول المزدوج، أي حضور المسيح حرفياً في الخبز والخمر، والفرق هنا بينه وبين عقيدة الاستحالة أنه لا يقول بتحول الخبز والخمر، ولكن كما أن الله بلاهوته كان في جسد يسوع هكذا الأمر، فالمسيح يحل في الخبز ويبقي الخبز خبزاً والخمر خمراً.

إن العشاء الرباني بحسب هذا الفكر هو ذات جسد المسيح ودمه، ليس بمعنى أنه يتحول إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، أو إلى ذات جسده ودمه، بل بمعنى أن ذات جسده ودمه يحلان في العشاء المذكور، ولذلك يعتقدون أنهم بالتناول من العشاء الرباني، يتناولون ذات جسد المسيح ودمه في غلاف من الخبز والخمر. فالحلول الذي يقولون به إذاً هو حلول فعلي، وكل ما في الأمر أنه حلول غير مدرك بالحواس البشرية. وفاعلية العشاء الرباني لديهم ليست مستمدة من ذاته (كما يقول الأرثوذكس والكاثوليك) بل متوقفة على إيمان الذين يتناولون منه. وفاعلية العشاء تظهر في تمتع المتناولين بحلول المسيح فيهم.

3 – المفهوم الإنجيلي Spiritual Presence

أسس هذا المفهوم المصلح الإنجيلي الفرنسي «جون كلفن[11]»، وفيه يؤمن الإنجيليّون  أنَّ عنصري العشاء الرباني لا يتحولان إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، أو يحويان ذات جسد المسيح ودمه، بل إن المسيح يرافق هذا العشاء بحالة روحية إلى قلوب الذين يتناولون منه بالإيمان، دون أن يطرأ على العشاء تغيير ما، وتبقى فاعلية العشاء الرباني متوقفة على إيمان الذين يتناولون منه. ويرجع السبب في اعتقادهم إلى فهم حديث المسيح عن العشاء الرباني بالمعنى المجازي لا الحرفي، ثم ربط التناول من هذا العشاء بحلول المسيح في القلب، لاعتقادهم أن المسيح يرافق العشاء المذكور بحالة روحية. إذ يعتقدون أنه كما ترسل الشمس ضوءها وحرارتها إلى الأرض، مع أنها بعيدة عن الأرض بعداً عظيماً، هكذا الحال من جهة المسيح، فانه وإن كان موجوداً الآن في السماء غير أنه يبعث تأثيراً روحياً في العشاء الرباني يتقبله الذين يتناولون منه بالإيمان على الأرض. ولذلك فهم يؤمنون أنهم بالتناول من هذا العشاء، يستقبلون جسد المسيح مع قوته المحيية، ليس بطريقة مادية يدخل بها جسد المسيح الذي في السماء إلى أفواههم، بل بطريقة روحية يحل بها المسيح في نفوسهم، كما أنهم يؤمنون بأن للروح القدس دوراً هاماً في هذه العملية، فهو الذي يقنع الإنسان المشترك بوجود المسيح فعلاً، ولكن بطريقة روحية غير ملموسة، فالخبز والخمر هما علامة ملموسة تشير إلى وجود المسيح بالروح وبصورة خاصة مختلفة عن الحضور في أي وقت أو أوقات الاجتماع العادية.

4- المفهوم التذكاري   Memorialism

علَّم بهذا المفهوم المُصلِح اللاهوتي السويسري «زونجلي[12]»، وفيه يؤمن أصحاب هذا الفكر بأنّ العشاء الرباني لا يتحول إلى المسيح ولا يحل المسيح فيه. وليس هذا فحسب بل ويقولون أيضاً إن المسيح لا يقترن به بأي اقتران يؤدي إلى حلوله في نفوس الذين يتناولون العشاء المذكور، لأنهم يعتقدون أن حضور المسيح لا يكون إلا بالروح وسط المؤمنين الحقيقيين الذين يجتمعون حول هذا العشاء، كما يحدث بناء على وعده الكريم عندما يجتمعون باسمه للعبادة والصلاة (متى 18 :20). وفاعلية العشاء الرباني لديهم، مثل فاعليته لدى الفرِق الثلاثة السابق ذكرها، تتوقف على الحالة الروحية للذين يتناولون منه. غير أنهم ينفردون بالقول إن هذه الفاعلية ليست هي حلول المسيح في قلوب الذين يتناولون من العشاء الرباني، بل هي إعلان الروح القدس لنفوسهم مقدار ما تحمله المسيح من الآلام في سبيل التكفير عنهم، وبذلك يتذكرون هذه الآلام ويتأثرون بها في نفوسهم تأثراً يملأهم بالمحبة الله، ويساعدهم على مواصلة السير في طريقه بتواضع وإخلاص. أما من جهة حلول المسيح في القلب، فيعتقدون بناء على ما جاء في (أفسس3 :17،غلاطية 2 :20) إنه يتحقق بالإيمان الحقيقي وصلب أهواء الجسد وشهواته.

5 – المفهوم الرمزي  Symbolism

يؤمن أصحاب هذا الفكر أن العشاء الرباني الذي عمله المسيح لم يكن إلا رمزاً للتغذي الروحي بشخصه، ولذلك لم يجدوا ضرورة لممارسة هذا العشاء.. واكتفوا بأنهم عند كسر الخبز في كل وجبة يتناولونها يذكرون موت المسيح على الصليب. غير أن كثيرين منهم أقلعوا في أوائل القرن الحالي عن هذا الرأي، وذلك تحت تأثرهم بالآيات الواردة في (أعمال 2 :42، 20: 7، 1كورنثوس10:15، 11: 27). والتي تنادي بوجوب ممارسة العشاء الرباني بالانفصال عن الوجبات العامة، ومن ثم أخذوا في ممارسته على النمط المتبع عند الإنجيليين تقريباً.

6 – بعض الآراء المستحدثة

هذه الآراء بدأت حديثاً في الظهور، ومنها:

أ – المورمون وهم لا يعتقدون بأهمية العشاء، وعندما يمارسونه فأنهم يمارسونه بالخبز والماء مرة أسبوعياً، وينادون بأنه في أثناء التناول يتسلم الشخص قوة الروح القدس.

ب – العلم المسيحي ما هو إلا جلسة تأمل هادئ يستمد الإنسان منها الشجاعة والمحبة، وهم لا يستخدمون أي مواد.

هذه هي أهم العقائد الخاصة بالعشاء الرباني، ومنها يتضح لنا أنّ الاختلاف الجوهري بينها ينحصر في أنّ بعضها ينص على أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، أو أنّ ذات جسده ودمه يحلان في هذا العشاء، وأنّ البعض الآخر ينصّ على أنّ الخبز والخمر في العشاء الرباني يظلان كما هما دون تغيير أو تبديل، وأن التحول الذي يحدث فيها (إن جاز أن يسمى تحوّلا)، هو تحول معنوي أو اعتباري فحسب، وذلك بسبب كون هذا العشاء تذكاراً لموت المسيح على الصليب.

ماذا عن يوحنا الإصحاح السادس؟!

وهل قصد المسيح أن يأكل المؤمنون جسده ويشربون دمه حرفياً؟

بدأ الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا بصنع المسيح معجزة إشباع آلاف الجموع من البشر الذين التفوا حوله ليستمعوا إلى تعاليمه، مستخدماً خمسة أرغفة وسمكتين. وفي اليوم التالي لتلك المعجزة حدث أن جماهير كثيرة طلبت المسيح وبحثت عنه في كفر ناحوم ولما وجدوه في عبر البحر، قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟». (يوحنا 6: 25)، حيث كانوا يطلبونه من أجل الخبز والمعجزة التي صنع بالأمس، وكان رد المسيح واضحاً وقاطعاً، إذ نصحهم قائلاً لهم: «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ..» (يوحنا 6: 27)، «فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ» (يوحنا 6: 29، 30).

ثم تحدث المسيح معهم موضحاً أنه هو الخبز الحي النازل من السماء، فقال لهم: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يوحنا 6: 51 – 56).

ومن هنا جاءت مشكلة يوحنا 6، فقد فهم مَن يؤمنون بالاستحالة، أو التحول، أنّ الحديث الذي تكلم به المسيح في (يوحنا 6)، عن التغذي بجسده ودمه، لا يُراد به الإيمان بالمسيح بل التناول من العشاء الرباني.

أما الذين لا يؤمنون بالاستحالة، فيعتقدون أن هذا الحديث، لا يراد به العشاء الرباني بل الإيمان بالمسيح.

لكن المُلاحظ أنّ الفريقين المذكورين وإن اختلفا في المقصود بهذا الحديث أو معناه، إلا أنهما يتفقان على أن النصوص الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، هي الواردة في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11).

أمام هذه المعضلة، لابد من دراسة النص الوارد في (يوحنا 6)، والمقارنة بينه وبين النصوص الواردة في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11) التي يتفق على أنها خاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، لكي نعرف إذا كانت الآيات الأولى خاصة بهذا العشاء كما يقول الذين يؤمنون بها.

أولاً: من القراءة السريعة للإصحاح السادس من إنجيل يوحنا، نُدرك للوهلة الأولى أنّ المسيح كان يتحدث إلى جمهور يسأل عن كيفية عمل ما يُرضي الله، وكان جواب المسيح محدداً في قوله: «هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ» (يوحنا 6: 29).

ثانياً: إنَّ الجزء الذي يتكلم فيه المسيح قائلاً: «إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يوحنا 6: 53 -56)، يأتي في إطار الحديث عن معجزة إشباع الجموع، وليس في إطار تأسيس المسيح لفريضة العشاء الرباني، بل لتوضيح علاقة المسيح بكنيسته كجسده ودمه.

ثالثاً: لابد وأن نتفق أنّ المسيح -وبحسب الدراسة التاريخيّة- لم يكن يتحدث عن العشاء الرباني في هذه المناسبة، لأنه ليس من الطبيعي أنّ يتحدث المسيح إلى سامعيه، عن فريضة لم تكن قد رُسِمت بعد –وواضح من أخبار البشيرين، إن فريضة العشاء الرباني رُسمت بعد مرور عامٍ على هذا الحديث– فمن المحقق أنّ سامعيه في كفر ناحوم لم تكن عندهم أية فكرة عن الفريضة، لا تصريحاً، ولا تلميحاً. وحتى عندما رسم المسيح وسنّ الفريضة في العشاء الأخير مع تلاميذه، لم يكن قد صُلِب بعد. أي أنّ جسده لم يُكسر، وبالتالي من المستحيل أن يكون هناك جسدان للمسيح، الأول حيٌ يمارس الفريضة، والآخر مكسورٌ، وقد حلّ في الخبز والخمر! وإذا قيل أنها معجزة، فمن من الاثنين الجسد الحقيقي؟ وهل يُعقل أن يتحول الخمر إلى دم المسيح حقيقة قبل أن يتم ذلك تاريخياً؟

رابعاً: لقد علّمنا المسيح ورسله، في كل مناسبة، أنّ الإيمان الحي هو الوسيلة الوحيدة التي بها ينال الإنسان الحياة الأبدية، فليس من المعقول أن يناقض المسيح نفسه، ويهدم تعاليمه التي أوحى بها، ويعلمنا أن الحياة الأبدية تنال بواسطة وسيلة مادية بحتة- مثل الأكل أو الشرب. فضلاً عن ذلك فإن المفكّرين من الكنائس التقليديّة يقررون معنا أن كثيرين جداً ممن يتناولون العشاء الرباني يهلكون هلاكاً أبدياً، فكيف إذاً يوفقون بين هذه الحقيقة الراهنة، وبين قول المسيح في عدد 54: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ»؟ فلا مناص إذاً من التسليم بأنّ أكل جسد المسيح وشرب دمه كما جاء في يوحنا 6، يراد بهما شيء آخر غير فريضة العشاء الرباني.

خامساً: عند دراسة هذا الجزء بتأنٍ يتضح لنا أنّ كلام المسيح في قوله «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63)، لا يقصد به الأكل الحرفي، ولا الشرب الحرفي، اللذين يحصلان عند تناول الفريضة وإنما قصد شيئاً آخر، فما هو إذا هذا الشيء الآخر الذي قصده المسيح عندما تكلم عن أكل جسده وشرب دمه؟ الجواب على هذا السؤال، نجده في كلام المسيح نفسه عندما قال: «أنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً» (يوحنا 6: 35). ولدى تحليل هذا القول، يتبين لنا، أنّ عبارة «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ»، تقوم مقام عبارة «مَنْ يُؤْمِنْ بِي»، والتي تقوم مقام عبارة «من يشرب دمي»، لأنّ النتيجة واحدة «فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً»، فواضح إذاً أنّ الأكل والشرب إنما هما استعارتان عن الإقبال إلى المسيح، والإيمان به.

سادساً: إنَّ الكلمة المستخدمة هنا للتعبير عن الجسد تختلف عن تلك الكلمة المستخدمة للتعبير عن الجسد في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11)، فحين قال المسيح لمستمعيه: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ» (يوحنا 6: 53)، استخدم الكلمة اليونانية «σάρξ  sarx»، وكلمة «ساركس» معناها الحرفي هو «لحم»، بينما الكلمة اليونانية المستخدمة في الآيات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، المذكورة في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11). هي كلمة «σῶμα، سوما» ومعناها «جسد». وكل كلمة منهما تتفق والمناسبة الخاصة التي قيلت فيها. فلما تكلم المسيح هنا عن الخبز الحيّ، بمناسبة المن الذي أكله الإسرائيليون وماتوا، كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة «σάρξ ،sarx»، أي «لحم»، على اعتبار كونه  مادة مغذية مشبعة. لكنه لما تكلّم عن فريضة العشاء الرباني بمناسبة صلبه وتركه للتلاميذ علامة يذكرون بها موته، كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة « σῶμα، سوما»، أي «جسد»، على اعتبار كون الجسد نظاماً آلياً مركباً من أعضاء، وقد كسر بالموت على الصليب.

ولذلك نرى في الترجمة الإنجليزية (مثلاً) أن كلمة «جسد» الواردة في (يوحنا 6) هي «flesh أي لحم»، بينما الواردة في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته هي «body أي جسد». ولذلك فمن المستبعد أن يكون حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6) عن وجوب التغذي بجسده ودمه، خاصاً بالعشاء الرباني[13].

سابعاً: شبَّه نفسه بعدة تشبيهات، منها: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ»، «أَنَا هُوَ الْبَابُ»، «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ» (يوحنا 8: 12، 10: 9، 14: 6)، ولم يحدث أن أحداً تمسك بحرفية أنَّ المسيح في هذه الحالات تحول فعلياً إلى نورٍ، أو بابٍ، أو طريقٍ، وذلك لأن المستمع -وبالأحرى المُفسِر-  يفهم ما قصده المسيح فيما قاله.

العشاء الرباني والدروس الروحية 

1 – العشاء الرباني كتذكار: أو ذكرى الرب، حيث يذكر الرسول بولس «إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي» (1كورنثوس 11: 23، 24). ولأنه يذكرنا بموت المسيح كفارة عنا، الذي هو جوهر المسيحيّة. فهو إعلان صريح من كنيسة المسيح بموت المسيح الكفاري. وهو دلالة واضحة على أن نظام العهد القديم قد استبدل بنظام العهد الجديد، أي أنّ الفصح تحول إلى العشاء الرباني بأمر المسيح وسلطانه. فما دام هذا السر في الكنيسة، لا يمكن أ ن تنسى الكنيسة -ولا العالم الذي تشهد فيه-، أن الرب يسوع أخذ وظيفة حمل الله لكي يرفع خطية العالم. وهذا لا يعني أن ذكرى الرب شيء ماضٍ بل شيء مستمر في الحاضر، كما انه يشير إلى ذكرى موت حمل الله الذي يرفع خطية العالم.

والعشاء الرباني كتذكار إنما يعني حضور المسيح في وليمة العشاء الرباني الواهب حياته للمؤمنين، وحين نقول بتذكر المؤمنين لعمل المسيح، فليس من قبيل النسيان، وليس بعمل عقلي لمجرد تذكّر ما حدث على الصليب وفي القيامة، ولكنهم يتذكرون بالاشتراك في حياته ما فعله المسيح وما وهبه لأجلهم في الصليب وفي القيامة.

2 – العشاء الرباني كإقرار: فالمشتركون في العشاء الرباني يقرون بإيمانهم بالمسيح مصلوبًا، وباتكالهم عليه لنيل خلاصهم، وبقبولهم إياه سيدًا وفاديًا، وربًا ومخلصًا. وبأنهم تلاميذه، وعليهم أن يجددوا عهد الولاء له، وأن ينذروا نذر الأمانة لذاته الإلهية، فكأنهم بممارسة هذا السر يفرزون أنفسهم عن العالم، ليصيروا كليًا للمسيح «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ» (1كورنثوس 10: 21)

3- العشاء الرباني كإعلان أي الإخبار بموت الرب وعمله لأجلنا وهذا ما نحتاج إليه وكتبه الرسول بولس «فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كورنثوس 11 : 26).

4– العشاء الرباني واسطة للبنيان: فهذا السر يرسم للمسيحي أعظم حقائق إيمانه، ويحرك عواطفه ويزكي محبته للمسيح، ويقوي إيمانه ويذكره بواجباته المتنوعة لربه ولكنيسته وللعالم. وينمي فيه الفضائل المسيحية، ولا سيما المحبة الأخوية ويخمد روح الخصام والنفور بين المشتركين في جسد الرب ودمه. خصوصًا لأن ممارسته ينبغي أن تقترن بتجديد العهود للمسيح ولكنيسته، فيتحرك قلب المؤمن تحركا جديدا في التقوى كلما اشترك في مائدة الرب.

5- العشاء كشركة: المعنى العائلي الذي يربط الأخوة معاً «كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس10: 16)، ففي العشاء الرباني تجتمع الكنيسة كأهل بيت واحد، أهل إيمان واحد برب واحد. وكلما اجتمع الإخوة للاشتراك فيه تسمع كلمة الله وهي تذكرهم بأن المسيح لا يستحي أن يدعوا أياً منهم أخاً. فلا فروق اجتماعية بينهم، بل أن كل واحد يؤكد لإخوته أنه أخ في الرب ومرتبط بهم برباط حياة واحدة مشتركة في المسيح. حتى أن كل أخ في أثناء ذلك الاجتماع، يقدر أن ينظر إلى وجه كل من اشترك معه في عشاء الرب، ويتحقق إنه من محبيه، لأن كل المؤمنين هم أهل بيت الله.

6- العشاء كوليمة محبَّة: حيث يقدم الرسول بولس مقارنة بين وليمة المحبة المسيحية وما يفعله الوثن واليهود من فكرة الدخول في شركة مع الإله، ومن ثم فوليمة المحبة المسيحية تعني الدخول تحت سلطان الرب وملكوته، يقول: «أقُولُ كَمَا لِلْحُكَمَاءِ: احْكُمُوا أَنْتُمْ فِي مَا أَقُولُ. كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟. فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ. انْظُرُوا إِسْرَائِيلَ حَسَبَ الْجَسَدِ. أَلَيْسَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الذَّبَائِحَ هُمْ شُرَكَاءَ الْمَذْبَحِ؟. فَمَاذَا أَقُولُ؟ أَإِنَّ الْوَثَنَ شَيْءٌ أَوْ إِنَّ مَا ذُبِحَ لِلْوَثَنِ شَيْءٌ؟. بَلْ إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ الأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ لاَ لِلَّهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ الشَّيَاطِينِ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ. أَمْ نُغِيرُ الرَّبَّ؟ أَلَعَلَّنَا أَقْوَى مِنْهُ؟» (1كورنثوس 10: 15 – 22).

7 – الإشارة لمستقبل الكنيسة وهذا ما يجب أن تتجه إليه أفكارنا عند تناول المائدة، تتجه إلى مجئ الرب ثانية، وهذا ما  يذكره الرسول بولس في الحديث عن العشاء حين يقول: «فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كورنثوس11: 26)، وهذا ما سبق أن ذكره المسيح لتلاميذه عندما قال: «وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً. لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي..» (لوقا 22 : 29- 30).

أخيراً، إذ نتناول السرّ بالإيمان بحسب ترتيب الرب، نصير شركاء حقيقيين في الجوهر الحقيقي لجسد يسوع المسيح ودمه، أما كيف يحدث ذلك، فبعضهم يستنتج أفضل ويشرح بوضوح أكثر من غيره، ومهما يكن من أمر يجب علينا، من جهة، كي نقصي كل تخيلات جسدية، أن نرفع قلوبنا إلى السماء، وأن لا نفتكر بأنَّ ربنا يسوع المسيح قد حُطّ من شأنه لدرجة أنه حُصِرَ في عناصر بائدة، ومن جهة أخرى، حتى لا نقلل من فعاليّة هذا السر المقدس، يجب أن نعتقد بأنه يتم بقوة الله السريَّة والعجائبية، وأن روح الله هو رباط الشركة، لذا يُسمى «روحي»[14].

الحواشي

[1]     يوافق الفكر الإنجيلي الكالفيني على إطلاق كلمة سر أو فريضة على العشاء الرباني، فالسر في مفهوم كالفن، هو علامة مرئية تُشير لحقيقة غير مرئية، ولابد لاكتمال السر من وجود الكلمة، وهنا يكون الماء في المعمودية، والخبز والكأس في العشاء الرباني علامات مرئية تُشير إلى نعمة داخلية وروحية غير مرئية تمتع بها المؤمن الذي يُمارِس تلك الفرائض أو الأسرار.

[2] يتفق معظم علماء اللاهوت المسيحي على أنَّ النصوص الكتابيَّة المؤسسة لعقيدة العشاء الرباني هي التي جاء ذكرها في إنجيل متى ومرقس ولوقا وما جاء أيضاً في رسالة كورنثوس الأولى. أما إنجيل يوحنا -وخاصة الإصحاح السادس- فهو لا يتكلم مُطلقاً عن العشاء الرباني وسوف نتناوله بالدراسة والشرح لاحقاً.

[3]     كالفن، جون. «مقالة قصيرة في العشاء المقدس». القاهرة: دار الثقافة، 2004، ص 15.

[4]واطسن، أندرسون. د.القس. «شرح أصول الإيمان» القاهرة: دار الثقافة. 1988، ص 517-518.

[5] جون، كالفن. مرجع سابق. ص 29- 31.

[6]     الخمر المقصود هنا هو ما يُطلق عليه الكتاب المقدس «نتاج الكرم» أي عصير العنب، فقد قال المسيح لتلاميذه: «وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي» (متى 26: 29). أو عصير العنب.

[7]     عندما قدَّم المسيح عنصري التناول –في العشاء الأخير مع تلاميذه- كل على حدا، ففيما «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». ثم «َأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26: 26-28). وهكذا تفعل غالبية الكنائس، لكن بعض الكنائس تخلط الخبز والكأس معاً وتقدمها للمتناولين بدلاً من توزيع كل عنصر على حدا كما فعل المسيح والتلاميذ والرسل من بعده.

[8] كالفن، جون. مرجع سابق. ص 34 – 35.

[9] -، -. «دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر» القاهرة: دار الثقافة، 1985، ص 53.

[10] مارتن لوثر ( 1483-1546)، راهب ألماني، وقسيس، وأستاذ للاهوت، وأحد أهم رجالات الإصلاح الكنسي في أوربا، اعترض على ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة، وقدَّم اعتراضاته للبابا رأساً وعلق هذه الاعتراضات على باب كاتدرائية وتنبرج عام 1517م، ونتيجة رفض البابا لمناقشة هذه الاعتراضات، أو قيامه بإصلاح لكنيسة انشق لوثر عن الكنيسة مؤسساً حركة إصلاحية عمَّت غالبية كنائس أوربا في ذلك الوقت، وكان من أهم الأفكار اللاهوتية التي أطلقها الإصلاح هو مبدأ الخلاص بالنعمة من خلال الإيمان بالمسيح مخلصاً. وأنّ الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد المعصوم من الخطأ فيما يتعلق بالأمور المختصة بالإيمان.

[11] جون كالفن (1509-1564م)، أحد أهم رجال الإصلاح الكنسي في أوربا، نال درجة الماجستير في الآداب، في الثامنة عشرة من عمره. درس القانون وحصل على الدكتوراة في القانون عام 1532م، آمن بالمبادئ الإصلاح عام 1534م، ولمواهبه المتعددة حضر العديد من المؤتمرات الدوليّة الكنسيّة ونظَّر للإصلاح الكنسي. رعى الكنيسة المُصلِحة في جنيف، وعمل على تحويل المدينة إلى مدينة مثالية. كتب الكثير من التفاسير لأسفار الكتاب المقدس، ومن أهم كتاباته، كتاب: «مبادئ الديانة المسيحيّة» عام 1539م. كتب كتاباً خاصاً عن العشاء الرباني اسمه: «عشاء ربنا المقدس».

[12] هولدريخ زونجلي (1484- 1531)، أحد أهم قادة الإصلاح الكنسي في سويسرا، حيث تخرج في جامعة فيينا وبازل، ورُسم قساً، وتأثر بكاتبات إرازموس في الحركة الإنسانية، ولقد صاغ زونجلي أهم المبادئ التي قامت عليها حركته الإصلاحية في رسالتين هما: «الدين الحقيقي والدين الزايف» عام 1525؛ «النظام» عام 1530. ولقد اعتقد زونجلي بأن العشاء الرباني ليس أكلاً فعلياً لجسد المسيح، ولكنه رمزاً لاتحاد الروح بالرب والمؤمن بالجماعة المسيحية، وكان يُقدِم الخبز والنبيذ معاً، مرة كل ثلاثة أشهر.

[13] سمعان، عوض. «العشاء الرباني». أُطلع عليه في موقع:

http://www.kalimatalhayat.com/church-related/73-the-lord-supper/1259-chapter07.html

[14] كالفن، جون. مرجع سابق، ص 50 – 51.

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى