العمق مقابل السطحية
الهدى 1212 أغسطس 2019
في العدد السابق تناولت العلامة الأولى من العلامات الأساسيّة التي تُميز الحياة المَسِيْحِيَّة، تحت عنوان: الرّوحانيَّة مُقابِل الجسدانيّة، وفي هذا العدد نستكمل معًا علامة أخرى وهي: العُمْق مُقابِل السَّطْحيَّة.
بَعْدَ لَيْلَةٍ ألِيْمَة قَضَاهَا التَّلامِيذُ في الصَّيْد، فَشَلوا فَشَلاً ذَرِيْعَاً دُوْنَ أنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً. وَلَمْ يَخْطُر بِبَالِهِم أنَّ هَذَا الفَشَل هُوَ الخُطْوَة الأوْلَى في سُلَّم النَّجَاح واخْتِبَار بَرَكَة عَظِيْمَة. فَبَعْدَ أنْ اسْتَخْدَمَ يَسُوع سَفِيْنَةَ بطْرُس كَمِنْبَرٍ، مُخَاطِباً الجَمَاهِيْرَ مِنْها، قَالَ لبُطْرُس بلُطْفٍ يُمَازِجُهُ السُّلْطان، وبِهُدُوءٍ يُمَازِجُهُ العُمْق: {ادْخُلْ إلى العُمْقِ يا بُطْرُس، فَإذا تَعَمَّقْتَ رَبِحْتَ كَثِيْراً واصْطَدْتَ كَثِيْراً. لا تَكْتَفِي بِالجُلُوسِ عَلى الشَّاطِئ، بَلْ تَعَمَّق}. وبِذَلِكَ وَضَع المسِيْحُ في هَذِه الكَلِمَة أسَاسَاً للْحَيَاة التي يُرِيدَنا أنْ نَحْيَاهَا. وقَد تَعَلَّم بُطْرُس الدَّرْس، أنَّ الطَّاعَة تَقُودُ إلى العُمْقِ، وأنَّ الدُّخُول إلى العُمْق يَضْمَنُ المَعُوْنَة الكَامِلَة والبَرَكات الوَفِيْرَة. المَعْنَى الأوَّل والقَرِيْب لِلْكَلِمَة يُشِيْرُ إلى عُمْقِ البَحْر، لَكِنَّها تَحْمِلُ مَعْنًى رُوْحَانِيَّاً عَظِيْمَاً وفِكْرِيَّاً سَامِياً، إنْ تَأمَّلْنَاهُ وأطَعْنَاهُ، نِلْنَا أعْظَم البَرَكات. العُمْق، هُوَ العَلامَةُ الأسَاسِيَّة الثَّانِيَة لِلْحَيَاة المسِيْحِيَّة الحَقِيْقِيَّة.
تَابَع سُلَيْمَان بَحْثَهُ في تَقْيِيْمِه لِلإنْسَان، وشَدَّد عَلى أنَّ الحِكْمَة هِي العِلاجُ الوَحِيْدُ لمُوَاجَهَة كَافَّة المَحَاذِيْر التي حَذَّر مِنْها. فتَوَصَّل إلى نَتِيْجَة هَامَّة، رُغْمَ أنَّ الله وَهَبَهُ حِكْمَةً لَمْ تُعْطَ لأحَدٍ سِوَاهُ، من قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ، ورُغْمَ ذَلِك اعْتَرَف بِنَقْصِ حِكْمَتِه. فَقَالَ في نَفْسِه: «أكُونُ حَكِيْمَاً»، لَكِنَّه اكْتَشَفَ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ بِهَذِه السُّهُوْلَة، وأنَّ الحِكْمَةَ بَعِيْدَةٌ عَنْهُ كَثِيْراً، فَتَسَاءَل بَاحِثاً عَنْ تِلْكَ اللؤْلُؤَة الثَّمِيْنَة: «العَمِيْقُ العَمِيْقُ، مَنْ يَجِدَهُ؟». فَرُغْمَ تَفْكِيْرِه العَمِيْق وحَيَاتِهِ العَمِيْقَة، إلاَّ أنَّهُ اكْتَشَفَ أنَّ هُنَاكَ أعْمَاقَاً لَمْ يَسْتَطِع أنْ يَصِلَ إلَيْهَا بَعْد، وكُلَّما اكْتَشَفَ شَيْئاً وازْدَادَ مَعْرِفَة وعِلْمَاً، كُلَّمَا اكْتَشَفَ أنَّه ضَئِيْلٌ جِدَّاً مَهْمَا كَبُرَ. فتَسَاءَل كَمَا تَسَاءَلَت المَرْأَةُ السَّامِرِيَّة لِلْمَسِيْح: «البِئْرُ عَمِيْقَةٌ وَلا دَلْوَ لَكَ، فَمِنْ أيْنَ لَكَ المَاء؟». هَذَا العُمْق لَيْسَ لِلْجَمِيْع، بَلْ لمَن يُطِيع ويَبْتَعِد عَن الشَّاطِئ. فَعَلى الشَّاطئ لَنْ تَجِد إلاَّ القَوَاقِع الرَّخِيْصَة، أمَّا إذَا دَخَلْتَ إلَى العُمْقِ، فَهُنَاكَ اللآلئ الثَّمِيْنَة. فَكَيْفَ تَكُونُ عَمِيْقاً في حَيَاتِكَ المسِيحِيَّة الرُّوْحَانِيَّة؟
(1) العُمق في الصلاة
كَيْفَ تَكُونُ الصَّلاةُ بعُمْق؟ إنَّ تِكْرار كَلِمَات مَحْفُوْظَة في الصَّلاة، أوْ تِلاوَتِها مِنْ كُتَيِّبات أوْ بَرَامِج، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الكَتَبَة والفَرِّيسييْن، لَيْسَت صَلَوات عَمِيْقَة. الصَّلاة العَمِيْقَة هي التي تَخْرُجُ مِنَ القَلْب بتِلْقَائِيَّة واتِّضَاع وحَمَاسَة وثِقَة ورَجَاء. الصَّلاة لا تُقَاس بالطُّول أوْ الزَّمَن أوْ قُوَّة اللغَة، بَلْ بالعُمْق. لِذَلِك قَالَ بُولُس: «أُرِيْدُ أنْ أتَكَلَّم خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْني، لِكَيّ أُعَلِّم آخَرِيْن أيْضَاً، أكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلافِ كَلِمَة بِلِسَانٍ» (1كورنثوس 14: 19). وصَلَّى المُرَنِّم: «مِنَ الأعْمَاقِ صَرَخْتُ إلَيْكَ يَا رَبُّ» (مزمور 130: 1)، أيّ مِنْ عُمْقِ قَلْبِي وعَوَاطِفِي، ومِنْ عُمْقِ احْتِيَاجِي وعَوَزِي، ومِنْ عُمْقِ تَعَبِي وعَجْزِي، ومِنْ عُمْقِ رُوحِي وجَسَدي. هَذِه هِي صَلاة المُؤْمِن الرُّوحَانِي، صَلاةٌ عَمِيْقَةٌ.
قَالَ المسيح: عِنْدَما وَقَفَ الفَرِّيسي للْصَّلاة قَالَ «الَّلهُمَّ إنِّي أَشْكُرُكَ إنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ…» هَذِه صَلاة سَطْحِيَّة مُتَكَبِّرَة تُمَجِّد البِرّ الذَّاتي، بَيْنَمَا وَقَف العَشَّار وقَالَ كَلِمَاتٍ قَلِيْلَةٍ عَمَِيْقَةٍ: «الَّلهُمَّ ارْحَمْنِي أنَا الخَاطِي»، صَلاةٌ مِنْ عُمْقِ الاتِّضاع والشُّعُور بالخِزْي والنَّدَم. مِثْلَمَا صَلَّى الِّلصّ التَّائِب: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ في مَلَكُوْتِكَ»، صَلاةٌ قَصِيْرَةٌ مَصِيْرِيَّةٌ، لَكِنَّها قِيْلَت بعُمْقٍ، واسْتُجِيْبَت.
لِذَلِكَ جَاءَت وَصِيَّة الرَّبِّ لآحَازِ المَلِك: «عَمِّق طَلَبَكَ أوْ رَفِّعْهُ إلَى فَوْق» (إشَعْياء 7: 11)، أي اطْلُب بعُمْق، لا بِسَطْحِيَّة، اطْلُب بِوَعْي وثِقَة، ولا تُرَدَِّد كَلِمَاتٍ جَوْفَاء مَوْسِمِيَّة بِلا مَعْنَى ولا تَأْثِيْر. لا تَطْلُبُ أمُوْراً سَطْحِيَّة مِنْ عَلى الشَّاطِئ، بَلْ عَمِّق طَلَبَكَ لِيَكُون عَلى مُسْتَوى اللآلئ. رَفِّع طَلَبَكَ، لا تَطْلُب مَا هُوَ أرْضِيّ وزَائِلٌ، بَلْ مَا هُوَ عَالٍ وسَامٍ. لا تَطْلُبُ فَقَط مَا يُنَاسِبُ احْتِيَاجَاتِكَ، بَلْ اطْلُب مَا يَتَنَاسَب مَعَ ذَلِكَ الإلَه العَظِيْم القَادِر عَلَى كُلِّ شَيءٍ، الذي تَطْلُبُ مِنْهُ.
(2) العُمْق في العبادَة
هُناكَ مَنْ يَحْرِصُ كُلَّ الحِرْصِ عَلى حُضُور العِبَادَة في الكَنِيْسَة، ومُمَارَسَة الفَرَائِض والطُّقُوس، دُوْنَ أنْ يَتَعَمَّقَ فِيْمَا يَسْمَعَهُ أوْ يَرَاهُ أو يَقُوْلَهُ. هَذا هُو النَّوْع الثَّاني في مَثَل الزَّارِع، الذي قَال عَنْهُ المسِيح: «لَمْ يَكْن لَهُ عُمْقُ أرْضٍ، فَلَمَّا أشْرَقَت الشَّمْس احْتَرَقَ، وإذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أصْلٌ جَفَّ» (متى 13: 5، 6). فهُنَاكَ مَنْ يُشْبِهُونَ الأرْض المُحْجِرَة السَّطْحِيَّة التي لَيْسَ لَها عُمْقٌ. يَسْمَعُونَ الكَلِمَة، ورُبَّما يَتَأثَّرونَ بِهَا سَرِيْعاً، لَكِنَّهُم يَنْسَوْنَها سَرِيْعاً، حتَّى تُصْبِحُ بِلا ثَمَرٍ، لأنَّه لَيْس لَهُم عُمْقٌ وأصْلٌ في ذَوَاتِهِم. هَذِه نَوْعِيَّة مِن المُتَرَدِّدِيْنَ في الكَنَائِس، شَخْصٌ هَوَائِيّ سَطْحِيّ مُتَقَلِّب، سَرِيْعُ الانْقِلاب بسَبَب الظُّروف الصَّعْبَة التي لا يَقْوَى عَلَى مُوَاجَهَتِها.
أمَّا العِبَادَة الحَقِيْقِيَّة المَقْبُولَة فَهِي العِبَادَة بِعُمْق. لَيْسَت عِبَادَة مَنْ يَأتي في وَقْتِ فَرَاغِهِ، بَلْ مَنْ يَأْتِي في أفْضَلِ أوْقَاتِه، ويُضَحِّي ويُنْفِقُ مِنْ أجْلِ وَقْتِ العِبَادَةِ، ويُعْطِيَها الأوْلَوِيَّة. وعِنْدَمَا يَحْضُر الكَنِيْسَة فإنَّه يُرَنِّمُ بعُمْقٍ، تَخْرُجُ كَلِمَاتُ التَّرْنِيْمَة وأنْغَامها مِنْ عُمْقِ قَلْبِه لا مِنْ أطْرَافِ شَفَتَيْهِ. وعِنْدَما يَسْمَعُ الكَلِمَة فَإنَّه يُصْغِي ويَتَعَمَّق فِيْمَا يَسْمَعَهُ ويَتَأثَّر بِهِ ويَتَجَاوَب مَعَهُ. وعِنْدَما يَقْرَأ الكَلِمَة، فَإنَّهُ يُشْبِهُ البَحَّار الذي يَغُوصُ في الأعْمَاقِ بَاحِثاً عَن اللآلئ، لِيَصِلَ إلى الحَقَائِق الرُّوحيَّة والمعَاني الكِتَابِيَّة الدَّقِيْقَة. العِبَادَة بعُمْق تَكُونُ بأنْ أفْتَحَ أُذُني وأُصْغِي، وأفْتَحُ ذِهْنِي لأفْهَمَ، وأفْتَحُ قَلْبي لأتَلَقَّى البِذَار كَأرْض جَيِّدَة، حِيْنَئذٍ تَأْتِي الثِّمَار والبَرَكَات.
(3) العُمْق في الخدمة
بَعْضُ الخُدَّام يَقِيْسُونَ نَجَاح خِدْمَتهم بمَقَاييسَ خَاطِئَة، يَكُونُ لَهَا المَظْهَر الشَّكْلِي ولَيْسَ لَهَا عُمْق. مِثْل مَن يُقَيِّم خِدْمَتَهُ بالنَّجَاح، لأنَّه انْتَقَلَ مِنْ خِدْمَة مَدْرَسَة الأحَد إلَى خِدْمَة الشَّبِيْبَة، أوْ مِن القَرْيَةِ إلَى المَدِيْنَة. إنَّ نَجاحَ الخِدْمَة لا يُقَاسُ بِتِلْكَ المَظَاهِر الخَارِجِيَّة، بَلْ يُقَاسُ بالعُمْق، وذَلِكَ مِنْ خِلال قِيَادَة المَخْدُومِيْنَ إلَى حَياةِ التَّوْبَة ومَعْرِفَة الرَّبّ ومَعْرِفَة كَلِمَتِهِ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيْح، ومُمَارَسَة المَحَبَّة الصَّادِقَة للرَّبِّ وللآخَرِيْنَ، هَذَا هُوَ المقْيَاس الصَّحِيْح لِلْخِدْمَة، عُمْقَها ولَيْسَ مَظْهَرَها.
مَنْ يَخْدُم الرَّبَّ بعُمْقِ يَبْذُل جَهْدَاً أمِيْناً في البَحْث والاسْتِعْدَاد لتِلْكَ الخِدْمَة، حتَّى يُقَدِّم لمَخْدُومِيْهِ الحَقائِق الرُّوحِيَّة صَحِيْحَة. أمَّا الذي يَخْدُم بسَطْحِيَّة، فيَخْدُم كمُوَظَّف، يَقُومُ بنَقْلِ دَرْس أوْ مَعْلُومَات دُوْنَ أنْ يَتَحَقَّق مِنْها، أوْ مِنْ مُنَاسَبَتِها لمَخْدُومِيْه. الذي يَخْدُم بعُمْق لا يَكْتَفِي بِنَقْلِ حِكَايَة أوْ نَشَاط مِنْ كِتَاب، لَكِنَّهُ يُوسِّعُ دَائِرَة ثَقَافَتِهِ العَامَّة ومَعْرِفَتِهِ الرُّوحِيَّة، أكْثَر مِمَّا تَتَطَلَّبَهُ خِدْمَتَهُ، فَتَكُونُ خِدْمَتَهُ عَمِيْقَةٌ.
(4) العُمْق في العَطاء
لَدَيْنا أرْوَعَ مِثَالٍ عَن العَطَاء بعُمْقٍ، إبْرَاهِيْم حَيْثُ قَدَّمَ ابْنَهُ الوَحِيْد الحَبِيْب اسْحَق. إنَّها تَقْدِمَة عَمِيْقَةٌ جِدَّاً، تُعَبِّرُ بِكُلِّ يَقِيْن عَن عُمْق مَحَبَّتِه وطَاعَتِهِ للرَّبّ، لأنَّه كانَ يُحِبُّ الرَّبَّ أكْثَرَ مِنْ ابْنِهِ، فَلَمْ يَمْنَعَ أعَزّ وأعْظَم مَا لَدَيْهِ مِنْ أنْ يُقَدِّمَهُ للرَّبّ. لَقَد نَالَ اسْحَق بَعْدَ صَبْر سِنِيْن طَوِيْلَة، فَهُوَ ابْنُ المَوْعِد، لَكِنَّه قَدَّمَهُ للرَّبِّ بِكُلِّ خُضُوعٍ واقْتِنَاع. كَذَلِكَ المَرْأَةُ ذَاتَ الفِلْسَيْن، التي مَدَحَها المسِيْح لأنَّها أعْطَت بعُمْقٍ. فَلَم تُقَدِّم مَا هُوَ فَائِضٌ لَدَيْها، بَلْ قَدَّمَت كُلَّ مَا عِنْدَها. فَالعُمْق في العَطَاء لا يُقَاسُ بِمَا قَدَّمَتْهُ، بَلْ بِالكَيْفِيَّة التي قَدَّمَتْهُ بِهَا، حتَّى لَوْ كَانَ قَلِيْلاً. فَمَنْ يُعْطِي بعُمْق، كأنَّه يُعْطِي عُضْوَاً مِنْ جَسَدِهِ لِيَنْقِلَهُ لمَرِيْضٍ مُحْتَاج، حُبَّاً لَهُ وشَفَقَةً عَلَيْه. هَذَا هُوَ العَطَاءُ بعُمْقٍ.
(5) العُمْق في العَلاقات
قَدْ تَدُومُ عَلاقَتك مَعَ صَدِيق لِسَنَوَات كَثِيْرَة، لَكِنَّه بسَبَب كَلِمَة غَيْر مَقْصُوْدَة أوْ خَبَر غَيْر صَحِيْح، يَتَغَيَّر ويَنْقَلِب مِن صَدِيق إلَى عَدُوّ، لأنَّ العَلاقَة لَمْ تَكُن عَمِيْقَة. أمَّا المَحَبَّة العَمِيْقَة فَيَقُولُ عَنْهَا الكِتَاب: «المحَبَّةُ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ، مِيَاهٌ كَثِيْرَةٌ لا تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْفِئَ المَحَبَّة» (نَشِيْد الأنْشَاد 8: 6، 7). المَحَبَّة العَمِيْقَةُ لا تَسْقُطُ أبَداً، أمَّا المحَبَّة الشَّكْلِيَّة الفَاتِرَة، فَإنَّهَا تَسْقُط مَع أوَّلِ اخْتِبَار. الإنْسَان الرُّوحاني يُصَادِقُ ويُحِبّ بعُمْق مِن كُلّ قَلْبِهِ، وبِثَبَاتٍ وإخْلاص ووَفَاء، لا بِالْكَلامِ واللِّسَان، بَلْ بالعَمَلِ والحَقِّ والعُمْقِ.
(6) العُمْق في التفكير
التَّفْكيْر ثَلاثَةُ أنْوَاعٍ: {سَطْحِي، عَمِيْق، ومُسْتَنِيْر}. التَّفْكِيْرُ السَّطْحي لا يَسْتَخْدِم الأرْكَان الأرْبَعَة الأسَاسِيَّة في التَّفْكِيْر الصَّحِيح: {الحَقِيْقَة، الحِسّ، المَعْلُومَات، الرَّبْط}. فَلا يَفْحَص الصًّوْرَة الحَقِيْقِيَّة لِلْمَوْضُوع. وَلا يَسْتَخْدِم حَوَاسَهُ في فَحْصِها، بَلْ يَعْتَمِد ويَكْتَفِي بِحَاسَة وَاحِدَة فَقَط. ولا يَسْتَحْضِرُ المَعْلُومَات السَّابِقَة عَن المَوْضُوع. وَلا يَرْبِطُ المَوْضُوع بالمَوْضُوعَات المُشَابِهَة السَّابِقَة أوْ الحَالِيَة. أمَّا التَّفْكِيْر العَمِيْق فَإنَّه يَسْتَخْدِمُ تِلْكَ الأرْكان الأرْبَعَة. فََيَنْظُر إلَى الوَاقِع عِدَّة مَرَّات لِيَسْتَنْتِجَ الصُّوْرَة الحَقِيْقِيَّة. ويُقَلِّب في المَوْضُوع مِنْ عِدَّة زَوَايَا. ويَسْتَخْدِمُ أكْثَرَ مِنْ حَاسَّة لِفَحْصِهِ. ويَسْتَرْجِعُ مَعْلومَاتِهِ وخِبْرَاتِه السَّابِقَة. ويُفَكِّرُ في مَدَى عَلاقَتِها بِالمَوْضُوع المَطْرُوح. وهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُلِّ تَرْكِيزٍ وَوَعْيٍ وهُدُوءٍ وتَأمُّل. هَذا هُوَ التَّفْكِيرُ العَمِيْقُ.
أمَّا مَا يُمَيِّز التَّفْكِيْر العَمِيْق عَن المُسْتَنِيْر، فَهُو أنَّ الثَّاني يَرْبِطُ الوَاقِعَ بوَقَائِعَ أخْرَى مُتَعَلِّقَة بِهِ. التَّفْكِيْر العَمِيْق يُرَكِّز في فِكْرَة وَاحِدَة، لَكِنَّ التَّفْكِيْر المُسْتَنِيْر دَائِرَتَهُ أوْسَع. والمَشَاكِل المُعَقَّدَة تَحْتَاجُ إلَى التَّفْكِيْرِ المُسْتَنِيْر لتَحْلِيْلِها وحَلِّها، أكْثَرَ مِنْ التَّفْكِيْرِ العَمِيْق. التَّفْكِير العَمِيْق يُبَيِّن حَقَائِقَ الأشْيَاء، أمَّا التَّفْكِيرِ المُسْتَنِيْر فَيُبَيِّنُ عَلاقَتِها بِغَيْرِها.
صَاحِبُ الشَّخْصِيَّة السَّطْحِيَّة لا يَرَى ولا يُفَكِّرُ إلاَّ في المظْهَر الخَارِجي فَقَط، وهُوَ مُتَسَرِّع في اتِّخَاذِ مَوْقِفِه. أمَّا صَاحِب الشَّخْصِيَّة العَمِيْقَة فَإنَّه يَعْرِفُ تَفَاصِيْلَ كَثِيْرَة عَن المظْهَر الخَارِجي، ويَعْرِفًُ أيْضَاً التَّفَاصِيل الدَّاخِلِيَّة لِلْمَوْضُوع المَطْرُوح، ولا يَأخُذُ مَوْقِفاً إلاَّ بَعْدَ التَّفْكِيْر والانْتِظَار المُنَاسِب. ويَعْرِفُ النَّتَائِجَ السَّلْبِيَّة والإيْجَابِيَّة لمَوْقِفِه. وأمَّا صَاحِب الشَّخْصِيَّة المُسْتَنِيْرَة فَإنَّه يَعْرِفُ كَافَةَ التَّفَاصِيل، الخَارِجِيَّة والدَّاخِلِيَّة، ويَعْرِفُ مَدَى الرَّبْط بَيْنَ مَوْضُوعِهِ وبَيْنَ المَوْضُوعَاتِ الأخْرَى، ويَعْرِفُ مَا هُوَ ضَارّ ومَا هُوَ نَافِعٌ في ذَلِكَ الرَّبْط. ويَسْتَطِيعُ أنْ يَقْرَأ الأحْدَاثَ المُسْتَقْبَلَة في نُوْر الخِبرات السَّابِقَة والمُعْطَيَات الآنِيَّة، ويَأخُذُ مَوْقِفَهُ في نُوْر كُلّ هَذِه البَيَانَات. هَذِه هِي الشَّخْصِيَّة التي كان بولُس يُصَلِّي لأجْلِ المُؤمنِيْن في أفَسُس أنْ يَتَحَلُّوا بِصِفَاتِهَا: «مُسْتَنِيْرَةٌ عيون أذْهَانِكُم لتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، ومَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيْرَاثِهِ في القِدِّيسِيْنَ» (أفَسُس 1: 18).
لِنَسْمَعَهُ اليَوْمَ مِنْ جَدِيْد:»ابْعُد إلى العُمْق، وألْقُوا شِبَاكَكُم للْصَّيْد». لَعَلَّنا نَقُولُ: لَقَدْ تَعِبْنَا كَثِيْراً طُوال الليْل، ولَمْ نَصْطَدُ سَمَكَةً واحِدَة، واخْتَبَرْنَا فَشَلاً ذَرِيْعاً. لَكِنَّنَا عِنْدَمَا نُطِيْعَهُ ونَدْخُلُ إلى العُمْقِ، سَوْفَ نَخْتَبِر بَرَكات كَثِيرَة وعَظِيْمَة. {العُمْق} هُوَ القِيْمَة الغَالِيَة جدَّاً التي كانَ سُلَيْمان يُتَفَتِّش عَنْهَا «العَمِيْقُ العَمِيْقُ، مَنْ يَجِدُهُ؟». كَما كانَ يَتَسَاءَل عَن المَرْأة الفَاضِلَة النَّادِرَة الوُجُود: «مَنْ يَجِدُها؟ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلئ». هَلْ بَحَثْتَ بِجِدِّيَّة ونَشَاطٍ عَنْ هَذِه القِيْمَة الغَالِيَة؟ هَلْ وَجَدْتَها؟