المحبة … متفائلة وشاملة
الهدى 1233 يوليو 2021
في أنْشودته الرقيقة الدقيقة، عن المحبة، قدَّمها بولس كالعلاج الشافي الكافي الوافي لمُعالجة مشاكل كنيسة كورنثوس والتي كانت تعاني منها، بسبب الانقسامات والصراعات والُحسَّاد والأحقاد. فبعد أنْ بيَّن أهمية وأفْضَلية المحبة على الكثير مِن القيم والمبادئ الروحية الأخرى، وبيَّن صِفاتها. وقد وضَع صياغة تلك الصِّفات سلباً وإيجاباً، بحسب ما يقتضي المَقام. نتأمَّل في هذا المقال في الصِّفات الأربَع التالية (ع 7)، يبيِّن فيها بولس أنَّ المحبة الحقيقية محبة مُتفائلة وشامِلة: «تحتمِل كلّ شيء، تصدِّق كلّ شيء، ترجو كلّ شيء، وتصبِر على كلّ شيء» إنَّ هذه الرُباعية تجعل المحبة تبدو كأنَّها غير قابِلَة للتطبيق، فهل مِن المعقول أنَّ يكون المُحِبّ مُتفائلاً إلى هذا الحَدّ الشامِل؟
دعونا لا نَسْأل السُّؤال: هل مِن المعقول أنْ يحتمل إنسانٌ من آخَر كلّ شيء، ويصدِّق كلّ ما يقوله، ويرجو مِنه الأفضل دائماً، ويَصْبِر على كلّ التحدِّيات باستمرار؟ بل نَسأل السُّؤال: كيف يكون ذلك؟ لأنَّ ذلك ليس مِن المُستحيلات، بل هو واقع المحبة المسيحية الحقيقية، التي يُمتلئ قَلب صاحبها بفِكر ومحبة المسيح، وبتأثير الروح القدس. إنَّ هذه المحبة صَعْبة التحقيق لدى الإنسان العادي، لكنَّها في قُدرة المؤمنين الحقيقيين. فهي ليست خيالية أو مثالية، لكنَّها واقعية. ونستطيع أنْ نرى ذلك واضحاً في: شخصية المسيح، وشخصية الأم، وشخصيات المؤمنين:
(1) في المسيح
ألم يحتمِل المسيح كلّ شخص جاء إليه، مهما كانت عيوبه؟ ألم يحتمِلنا رغم جَهلنا وضعفنا وابتعادنا عنه، وما يزال يبحث عنَّا؟ ألم يصدِّق ويقبَل توبتنا رُغم نقص عُهودنا؟ ألم ينتظِر ويرجو منَّا كلّ الخير رُغم عدم أمانتنا؟ وعندما نبتعِد عنه وتُفْتُر محبّتنا له، ألم يصبر علينا وينتظر عودتنا؟
(2) في الأمومة
رُغم كلّ المتاعِب والمصاعِب التي تواجِهها الأمّ في تربية وتنشئة أولادها، ألم تحتمِل كلّ المتاعِب التي لا يستطيع إنسان آخَر أنْ يحتمِلها لأجل أولادها؟ ألم تُصدِّق وتُدافع عن ابنها مهما كانت حُجَج المُشتَكون عليه؟ ألم ترجو وتتطلَّع دائماً بأنْ يكون ابنها أعظَم وأفضَل الكلّ؟ وعندما يفشَل ويسقُط ويتراجَع، ألم تصبِر وتثِق في أنَّ الظروف سوف تتغيَّر، وأنَّ مُستقبله سيكون أفضل؟ لنتذكَّر أمّ القديس أوغسطينوس (مونيكا)، التي كانت تصلي من أجله قُرابة 32 سنة حتى يتوب عن خطاياه ويرجع للرب. وقد آمن بالمسيح وصار عظيماً في علاقته بالرب وفي خدمة كلمة الله. إذْ قال لها أمبروسيوس أسقف ميلانو آنذاك، حين رآها تصلي كثيراً من أجل ابنها: «إنَّ ابن هذه الدموع لا يمكن أن يهلك». هذه هي الأمومة التي تحتمل، وتصدِّق، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء.
(3) في الخُدّام الحقيقيين
ألم يحتمل بولس الكثير بسبب محبته الحقيقية لأهل كورنثوس؟ فكتب يقول لهم: «في كلِّ شيء نُظهِر أنفسنا كخدَّام الله. في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون…. في محبة بلا رياء» (2كورنثوس 4:6-6). ألم يحتمل في سبيل خدمة المسيح الكثير أيضاً مِن الآلام التي أصابَته؟ فقال: «لذلك أُسَرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كورنثوس 8:12-10). إنَّ ما جعله يثبُت في مواجهة كلّ هذه الشدائد والتحديات، هو المحبة الحقيقية، المُتفائلة الشاملة:
(1) تحتمِل كلّ شيء:
الكلمة (تحتمل) بحسب الأصل، التي استخدمها بولس هنا، تشير إلى شيء تمَّ تصميمه بحيث يستطيع أنْ يتحمَّل شيئاً آخَر. كما ارتبطَت الكلمة بفِكرة الغِطاء الواقي الذي يوفِّر الحماية. هذا ما قصده بولس هنا: إنَّ المحبة تُعيد تصميم شخصية المُحِبّ، فيكون أكثر احتمالاً مِن أجل المحبوبين. فيحتمِل تعدِّياتهم وإساءاتهم، يحتَمِل ضعفهم وعدم معرفتهم الكاملة. يحتمِلهم وهو يلتمِس لهم الأعذار «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون».
كما بيَّن الكتاب المقدس بعهديه أنَّ المحبة غِطاءٌ واقٍ. «المحبة تستُر (تغطِّي) كثرةً مِن الخطايا» (أمثال 12:10؛ 1بطرس 8:4)، فهي تغطِّي كلّ ما هو سيئ في المحبوب، فتغفِر وتستر، ولا تَفْضِح وتُشَهِّر. وهي بدون أنْ تكون عمياء، ترى خطايا المحبوب، لكنها تسترها مهما كانت كثيرة، ولا تتستَّر عليها. فهي حازمة في التأديب سِرَّاً وبأمانة، بينما تغطي الخطايا برداء المحبة. فالمحبة تستر لكي تُصلِح، ولا تتستَّر وكأنَّها مُشتركة في الخطأ متى عرفَته.
ونقرأ عن يعقوب (تكوين 29 ،31) أنه من أجل محبته القوية لراحيل خدم خاله لابان سبع سنين لكي يتزوجها. وبعد أن خانه خاله وزوَّجه بأختها الكبرى، خدم سبع سنين أخرى لكي يحظى براحيل. فاحتمل كل شيء خلال هذه السنوات الصعبة، وقال: «كنتُ في النهار يأكلني الحرّ وفي الليل الجليد، وطار نومي من عينيَّ». فالمحبة الحقيقية لا تستسلِم أبداً، بل لديها الكفاءة في الاحتمال ودفع التكلِفة.
(2) تُصدِّق كلّ شيء:
هذه هي الخطوة الثانية بعد الاحتمال. فعندما تحدُث إساءة مِن المُحِبّ، أو تأتي صعوبات مِن أجل المُحِبّ، فإنَّ المحبة تحتمل وتستمِرّ. وإذا كرَّر المحبوب إساءته وقدَّم اعتذاره، فإنَّ المُحِبّ يصدِّق ويُصادِق على ذلك الاعتذار والاعتراف بالخطأ. لأنَّ المحبة لا تظنّ السُّوء، وهي تعطي دائماً فُرَصَاً جديدة للمحبوب. وتأتي العبارة في بعض الترجمات: «دائماً مُشتاقَة أنْ تُصدِّق الأفضَل». فالمحبة تصدِّق كلّ ما يُعلنه الناس عن حُسْن نواياهم، وتشتاق أنْ يكونوا صادقين في ذلك. فتُفسِّر الكلمات والأفعال والأحداث بأعلى درجة مِن النيَّة الحَسَنة. هذا لا يعني أنها ساذجة ويسهُل خداعها بالادِّعاءات بدون فِطنة، بل تصدِّق كل ما هو معقول ومقبول ويمكن تصديقه. لكنها شغوفة ومُشتاقة أن تصدِّق ما هو أفضل وأصدق. وهي تصدِّق الحُجج وحُسن النموايا، حتى لو كانت الأعمال الظاهرة بخلاف ذلك. إننا عندما نعامل الناس على أننا نثق فيهم، ولو كانوا ليسوا أهلاً لهذه الثقة، فسوف ندفعهم دفعاً ليعملوا على مستوى الثقة، فنجعل منهم أناساً يوثق فيهم حقاً.
والمحبة للرب تصدِّق كل مواعيده ووعوده، وكل ما جاء في كلمته المقدَّسة. وإذْ تثق في قُدرته الكاملة ومحبته العظيمة، فإنها تأمَن وتطمئن. لأنها ترى الحلّ الإلهي في قلب الأزمة، وتلمس عنايته الأبوية في عُمق المشكلة. فمن يحب الرب يصدِّق أن كل الأشياء تعمل معاً لخيره، ممَّا يجعل الحياة مريحة وغير متعِبة، لأنه ينظر إلى الجانب المُشرق فيها.
(3) ترجو كلّ شيء:
هذه هي الخطوة الثالثة بعد الاحتمال والتصديق. فعندما يسيء المحبوب إلى مَن يحبّه، يجب على الأخير السَّيْر بهذه الخطوات:
(1) تحتمله، وتعتبر إساءته بدون قصد.
(2) تصدِّق اعتذاره وحُجَجَه عندما يكرِّر الخطأ.
(3) ترجو وتتمنَّى لو أنَّه ينتبه لكلّ هذا، ولا يعود ويجرحك. لقد كانت هذه عقيدة يسوع عن الإنسان، فلم يفقد الرجاء في إصلاح أي شخص مهما كان سيئاً.
المحبة عظيمة في رجائها، فهي لا تفقد الأمل في أحد. لديها رجاء في الفتيلة المدخِّنة، أنها ستُصبح يوماً منارة مُضيئة. ولها رجاء في القصبة المرضوضة، أنها ستُصبح يوماً عموداً في هيكل الله. والرجاء هنا ليس التفاؤل الساذج، بل الذي ينظر للواقع، ويرفض أن يكون الفشل هو الكلمة الأخيرة، بل يستمر يرجو نعمة الله. كما فعل الأب المحب وهو في انتظار عودة ابنه الضال، فقد كان يترقَّب الطريق مترجياً بيقين أنه سيعود.
(4) تَصبِر على كلّ شيء
هذه هي الخطوة الرابعة بعد الاحتمال والتصديق والرجاء. فالمُحب دائماً صبور. والكلمة المُستخدمة هنا لا تعني الإذعان السلبي والاستسلام، بل تعني الموقف الإيجابي العملي للصبر. فالمحبة التي تصبر، هي التي تصمُد تحت وطأة الأحمال والأثقال في انتظار للانتصار، فلا تصبر صبر العاجز اليائس.
فإذا أخطأ المحبوب، فاحتملته، وصدَّقته، ورجوت فيه خيراً، ولم تكن هناك نتيجة إيجابية واضحة، لم يبقَ إلا أنْ تصبر وتنتظر. لأن المحبة تتأنى وترفُق، فلابُد لليل أن ينتهي مهما طال، ولابُد للشمس أن تشرق مهما تأخَّرت «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُم» (مزمور 5:3). المحبة لا تفقد الأمل أبداً، والمُحِب متفائل، دائماً يتوقَّع الأفضل من الناس، لاسيما الذين يحبهم. المحبة متفائلة، وشاملة لكلِّ شيء ولكل شخص.
صلاة
أبانا السماوي، نشكرك لأنك أحببتنا فاحتملتنا واحتملتَ ضعفنا. وعندما تُبنا ورجعنا إليك، صدَّقتنا وقبِلتنا. وعندما ضعفنا وابتعدنا، انتظرتَ أن نكون مؤمنين أثوياء وصالحين. وعندما أسأنا التصرُّف، صبرتَ علينا بطول أناة. ساعدنا لكي نحتمل غيرنا، ونصدِّق المسيئين إلينا عندما يعتذرون ويبرِّرون ما فعلوا. وأعطنا أن نترجَّى منهم خيراً، وأن نصبر على ضعفهم، كما تفعل أنت معنا. عمِّق فينا هذا الدرس، في اسم المسيح. آمين.