خدمة السفراء وإعادة العلاقات
الهدى 1237 نوفمبر 2021
عندما سَقَط الإنسان وانْفَصل عن الله، بسَبب الخطية، أخَذ الله المُبادَرة في المُصالَحَة معه «الكُلُّ مِن الله، الذي صالَحَنا لنَفْسه بيسوع المسيح». وكلمة «مُصالَحَة» تَعْني إزالَة العَداوة بَيْن طرفَيْن كانَت بيْنهما خُصومَة أو عَداوَة لسَببٍ ما. فلأنَّ الإنسان مُهمّ وغالٍ جدًّا عِنْد الله، فقَد كانت إعادة العلاقة معَه أمْرٌ يسْتَحقّ كلّ تَضْحية، وعَمَل كُلّ شيء تتطلَّبه تلك المُصالحة. لذلك، أرْسَل الله ابْنه يسوع المسيح، وصالَحنا لنَفْسه، وأعاد تلك العلاقة المقْطوعة.
يَجِب أنْ نَعْرف هنا مَن الذي انْفَصَل عَن مَن؟ ومَن الذي كان يحتاج للمُصالَحة؟ إنَّنا بسَبب خطايانا انْفَصَلنا عن الله وصِرْنا مُحتاجين للتَّصالُح معه، فلا يقول الكتاب إنَّ الله «تصالَح مَعَنا»، لكن «صالَحنا لنَفْسه» (كولوسي 22،21:1). وهو يُريدنا أنْ نُحافِظ على تلك العَلاقة ونُنَمِّيها كلّ يوم، هذه مُصالحة رأسيَّة، هذا من جانبٍ.
مِن جانب آخَر، مُصالحة أفقيَّة، ويريدنا الله أنْ نَبْذل جَهْدًا للحِفاظ على علاقاتنا معًا ومعه، وإعادتها متى تَصَدَّعَت أو انقطعَت. ففي الآية نفسها التي يقول فيها بولس إنَّ الله صالَحنا لنَفْسه، يقول إنَّه «أعطانا خدمة المُصالحة» (2كورنثوس 18:5ب)، أي، امتياز ومسؤوليَّة الإخْبار عن العمل الذي عمله لأجْلنا. لقد صالَحنا لنَفْسه، وأعْطانا أنْ نكون سُفراءه لمُصالَحة العالَم معه، ومعًا، ووضع فينا «كلمة المُصالحة»، أي رسالة المُصالحة ومبادئها (2كورنثوس 20،19:5). «المُصالحة»، إنَّها كلمة السِّرّ التي تَفْتح المجال للشَّركة الحقيقية. إنَّنا ننوب عن المسيح في الطَّلب مِن الناس أنْ يتَصالحوا مع الله، وأنْ يتصالحوا معنا، وأن يتصالحوا معًا. هذه خُلاصة كلّ العظات وأهمّها. لقد دعانا كسُفراء في حَمْل تلك الرسالة.
ما هو عمل السَّفير؟
السَّفير مواطِن يعيش في بَلَد أجْنبي بَيْن أناسٍ يَخْتلفون عَنْه، في اللغة والعادات والتَّقاليد وأسلوب الحياة. يتكلَّم نيابةً عن بلده الأصلي، فيُعَبِّر عن رسالة وقرارات وسياسة بلده، ولا يُعلن رأيه الشَّخصي. إنَّ شرف وسُمعة أيّ بلد يتوقَّف على الطَّريقة التي يسلك بها سفيره في البلد الأجنبي.
يا للعجب!! إنَّ مَلِك الملوك يَتنازَل ويأخذ المُبادرة في المُصالحة ويَطْلب مِنَّا أنْ نتصالَح معه، ويعطينا امتياز أنْ نكون سُفراءه ونَعِظُ الناس نِيابةً عنه: «تَصالَحوا معه، تصالَحوا معًا». لذلك، يُخَصِّص العَهْد الجديد جُزءًا كبيرًا مِنْه لتَعْليمنا كيف نتعايش مع بعضنا بعضًا، وكيف نُحافِظ على علاقاتِنا معًا، وكيف نَسْتردّ تلك العَلاقات مَتى تعرَّضَت للنِّزاع أو الجِراح. وإذا كان المسيح يريد أنْ تُعْرَف عائلته بمَحبَّة أفرادها بعضهم لبعض «بهذا يعرف الجميع أنَّكم تلاميذي، إن كان لكم حبٌّ بعضًا لبعض» (يوحنا 35:13)، فإنَّ حياة الشَّركة المَكْسورة بينهُم شهادَة مُخْزية أمام العالَم.
السَّلام صناعة، والخِصام زراعة
خدمة المُصالحة هي «صناعة» السَّلام. يقول المسيح: «طوبى لصانعي السَّلام» (متى 5: 9)، ويُحَذِّر الحكيم من سبعة أشياء يُبغضها الرب، آخِرها «زارع خصومات بَيْن إخوة» (أمثال 6: 16 ،19). هناك فَرْق كبير بَيْن الزِّراعة والصِّناعَة. فالذي يزرع بِذْرَة، يتركها تَنْمو دون أيّ تَدَخُّل مِنْهُ، أمَّا الذي يَصْنع شَيْئًا فإنَّه يُتابعه مِن البداية حتى النِّهاية، ويبدأ بمادَّة بيده وينتهي بمادة أخرى تمامًا لعد صناعتها، أي تحويلها إلى شيء آخر. لذلك، فالزِّراعة أسْهَل مِن الصناعَة. هكذا زراعة الخِصام بَيْن الإخوة أمرٌ سهل، يمكن أنْ تكون بكلمة واحِدَة يُساء فهمها، أو إشاعة مذمَّة، أو نقل كلمة بين اثنين فتُشعل العلاقة بينهما. لكن السَّلام بَيْن النَّاس صِناعَةٌ، تحتاج إلى مهارَة ومُثابَرَة. والزراعة أسلوب الحياة البشريَّة القديم، بينما الصِّناعة أسلوب الحياة المُتحضِّرة. لذلك يُعلِّمنا الكتاب المقدس أنَّ السَّلام صناعَة، والخِصام زراعة. ما أسْهَل أنْ تكون زارع خُصومات بَيْن الإخوة، وما أصْعَب أنْ تكون صانِع السَّلام بينَهُم.
لَمْ يُطَوِّب المسيح المُسالمين، أو الذين يُحبُّون السَّلام، أو الذين يُنادون به. ولَمْ يُطَوِّب رجال الشُّرطة والأمْن الذين يُحافظون على السَّلام، ولا رجال الدِّين الذي يعظون عن السَّلام. بَلْ يُطَوِّب الذين «يَصْنعون» السَّلام. لأنَّهم يعملون ما يَعْمله الله، لذلك فهُم أبناؤه «لأنَّهم أبناء الله يُدْعَون». هم الذين يَبْحثون بفاعليَّة لحَلّ أيِّ نِّزاع بَيْن الإخوة، ويَبْذلون جَهْدًا في استرداد علاقاتِهم المُتَصَدِّعة المُمَزَّقة. فما أكثر زارعي الخصام، وما أندَر صانعي السَّلام، إنَّهم نادرون.
قصد الله
قَصْد الله الأول مِن حياتك هو أنْ تكون عُضْوًا في عائلته الرُّوحيَّة، أولئك الذين تصالحوا معه. أمَّا قصده الثاني فهو أنْ تتعلَّم كيْف تُحبّ الإخوة، وتصنع علاقات صحيحة معهم، وبَيْنَهم. إذًا، صناعة السَّلام هي إحْدى المهارات التي يَجِب أنْ تُطوِّرها في شخصيَّتك. مُتذكِّرين دائمًا أنَّ السَّلام ليس في تَجَنُّب النِّزاعات، لأنَّ التَّهَرُّب مِن المشاكل، أو الادِّعاء بأنَّها ليْسَت موجودة، أو الخَوْف من مواجَهتها، ليس هو السَّلام، لأنَّ ذلك يُعْتبَر جُبْنًا. أمَّا صناعة السَّلام فهي مواجَهة تِلْك النِّزاعات وحَلّها. التهرُّب سهل، أمَّا المواجهة فهي الأصعب. صَحيح أنَّنا في بعض الأحيان نحتاج أنْ نتَجنَّب بَعْض النِّزاعات، لكن هناك نِزاعات يَجِب أنْ نتدخَّل فيها ونعمل على حلّها. والحقيقة أنَّ هناك نِزاعًا يَجِب علينا أنْ نزرعه ونَصْنَعه!! ذلك الذي قال فيه المسيح: «ما جِئْتُ لأُلْقي سَلامًا بَلْ سَيْفًا» (متى 10: 34). إنَّه النِّزاع الذي أوجده المسيح بين الحقّ والباطل، بين الخير والشَّر، بيننا وبين ميولنا الشِّرِّيرة، بيننا وبين عوامل الضّعف والفتور عندما تُسيطر علينا، بيننا وبين كلِّ ما يُعطِّل حياتنا لكي تُحقِّق مقاصد الله منها. فليُرْشِدنا الرُّوح القدس لكي نصنع ذلك السَّلام، ونزرع ذلك النِّزاع.
كيف تعود العلاقات المكْسورَة؟
أعطانا الله كمؤمنين «خِدمة المُصالحة» (2كورنثوس 18:5)، وهذه سبعة مبادئ كتابيَّة تُساعدنا لكي نَسْتردّ حياة الشَّركة بَيْنَنا وبين الإخوة، أو بينهم وبعضهم بعضًا عندما يحدث نزاعًا بينهم:
(1) تحدَّث إلى الله قبل أنْ تتحدَّث إلى الشخص
تَكلَّم عن ذلك النِّزاع مَع الله، بَدَل أنْ تُثَرْثر مع النَّاس عنه. سَوْف تكتَشِف في أحْيان كثيرة أنَّ الله قَدْ غَيَّر قَلْبك أنْتَ لتكون أكْثَر اسْتِعْدادًا للمُصالَحة، وقَدْ يتغيَّر الآخَر المُتَنازِع مَعَك ويكون مُسْتَعِدًّا هو الآخَر للمُصالَحَة مَعَك. اسْتَخْدم الصَّلاة للتَّنْفيس رأسيًّا عَمَّا في داخِلك. تحدَّث إلى الله عمَّا يمزِّق كيانك الدّاخلي، واصرُخ له وعبِّر عمَّا تشعر به. هذه ليست طريقة سحرية لحلّ النزاع، لكنها أسلوب تفكير مسؤول في محضر الله. لقَد اكْتَشف يعقوب الرَّسول أنَّ كثيرًا مِن النِّزاعات سَبَبها عَدَم الصَّلاة: «مِنْ أيْنَ الحُروب والخُصومات بَيْنَكُم؟ ألَيْسَت مِن هُنا، مِنْ لذَّاتِكُم المُحارِبَة في أعْضائكم؟ تُخاصِمون وتُحاربون ولَسْتُم تَمْتلكون، لأنَّكُم لا تَطْلبون (لا تُصلُّون). تطلبون ولستُم تأخذون، لأنَّكم تطلبون رديًّا لكي تُنفِقوا على لذَّاتِكم» (يعقوب 2،1:4). فلا تُصلِّي وأنتَ تُلقي بالمسؤوليَّة على الآخَر، بل وأنت تتحمَّل مسؤوليَّتك في النِّزاع القائم. لا تُصلي وأنت تبحث عن مكاسبك في الخروج من النِّزاع، بل في مكاسبكُما بعد الحلِّ.
(2) قُم بالمبادرة دائمًا
سواء كنتَ أنْتَ المُسِيء أمْ المُسَاء إلَيْه، فالمسيح يريدك أنْ تقوم بالخُطوَة الأولى «اذهب أولاً اصطلح مع أخيك». إنَّ اسْتِرْداد العلاقَة المكْسورَة أمْرٌ في غاية الأهَميَّة، حتى أنَّ يسوع أوْصَى أنْ تكون لَهُ الأولويَّة على العبادة الجماعيَّة (متى 24،23:5). عِنْدما تتعَرَّض حياة الشَّركة بين الإخوة، أو بينك وبين أحدهم، للنِّزاع والتَّوَتُّر، خطِّط فَوْرًا لجلسة سَلام للمُصالَحة بينكما، دون تأجيل أو تَقْديم أعْذار. التَّأجيل يُعمِّق الأزمة أحيانًا ويوسِّع النِّزاع، والوقت لا يشفي شيئًا في النِّزاع، وإنَّما يتسبَّب في تقيُّح الجروح. ونَجاح تلك الجلسة يتوقَّف كثيرًا على المكان والزَّمان المُناسبَيْن للاجْتماع. فَلا تتقابَلا إذا كان أحَدكُما مُرْهَقًا أو مُتَعَجِّلاً. أفضل وقت هو عندما تكونان معًا في أفضل حال. ويَحثّنا بطرس على الاجْتهاد في طلب السَّلام «مَنْ أرادَ أنْ يُحِبَّ الحياة ويَرى أيامًا صالِحَة، فلْيَكْفُفْ لسانَه عن الشَّر، وشَفَتَيْه أنْ تتَكلَّما بالمَكْر. ليُعْرِض عَن الشَّر ويَصْنَع الخَيْر، ليَطْلُب السَّلامَ ويَجِدَّ في أثَرِهِ» (1بطرس 3: 10، 11).
(3) اسْتخدم أذنَيْك أكْثر من فمك
نَصَح بولس المؤمنين: «لا تَنْظُروا كُلُّ واحِدٍ إلى ما هُوَ لنَفْسِه، بَلْ كُلُّ واحِدٍ إلى ما هو لآخَرين أيْضًا» (فيلبي 4:2)، وكلمة «تَنْظُروا» هنا تَعْني التَّركيز والانْتباه الشَّديد، ومنها تأتي كلمات (تليسكوب، ميكرسكوب). فكأنَّه قال: رَكِّز كُلَّ انْتباهِكَ على ما يقول الآخَر، اسْمَع ما يقوله وما لا يَعْرف أنْ يقوله، رَكِّز على مشاعِره أكْثَر مِن تَرْكيزك على الحَقائِق، ابدأ بالعطف وليس بالحلّ. قُلْ له: إنَّني أُقَدِّر رَأْيَك، وأهْتَمُّ بعَلاقَتِنا، لأنَّك شَخْصٌ مُهِمٌّ بالنِّسْبَة لي. أظهِر أنَّك تتفهَّمه، حتّى لو كنت لا توافقه.
(4) اعترف بنصيبك في النِّزاع
إذا كُنْتَ جادًّا في اسْترداد علاقتكما، عَلَيْك بالاعْتِراف بما أخْطَأْتَ فيه. أَخْرِج أولاً الخَشَبَة مِنْ عَيْنِك لتَرى بوضوح نفسك أولاً، هذه هي الطَّريقة التي علَّمها يسوع لرؤية الأشياء أكثر وضوحًا «حينئذ تُبصِر جيدًا» (متى 5:7). فجميعنا لدَيْنا نِقاط عمياء، لذلك قَدْ تَحْتاج لصديق يكون بمثابة طَرَف ثالث يُساعِدك في تَقْييم أفْعالك قَبْل اللقاء مَع طَرَف النِّزاع. الاعْتراف أداة فعَّالة جدًّا في المُصالَحة، لأنَّك بذلك تَنْزع أسْلِحة هجومه. لا تُقَدِّم أعْذارًا عمَّا فعلتَ أو قلتَ، بل اعْتِذارًا عن نَصيبك في النِّزاع.
(5) ركِّز على المُشكلة وليس على الشَّخص
لَنْ تُصْلِح أيَّة مُشْكِلة إذا كان تَرْكيزك على توجيه الَّلوم. يَجِب أنْ تَخْتار بَيْن هذَيْن الأمرَيْن: «الجَواب الَّليِّن يَصْرِف الغَضَب»، وبين «الكلام الموجِع يُهَيِّج السَّخَط» (أمثال 1:15). فإذا تكلَّمْتَ بطريقة هُجوميَّة على الطَّرف المُتنازِع معه، فسَوْف يَسْتَقْبل كلامك بطريقة دِفاعيَّة. فمِن أجْل حياة الشَّركة دَمِّر أسْلحتك النَّوويَّة وما تتَضَمَّنه مِن: دينونة، اسْتِخْفاف، إهانَة، مُقارنة، تَصْغير، سُخْرية… الخ. يُوصي بولس المؤمنين: «لا تَخْرُج كلمةٌ رديَّةٌ مِنْ أفْواهكم، بَلْ كُلُّ ما كان صالِحًا للبُنْيان حَسَب الحاجَة، كي يُعْطِي نِعْمَة للسَّامعين» (أفسس 29:4).
(6) ركِّز على المُصالحة وليس على الحلِّ
رَكِّز حديثك على المشْكِلَة القائمة، لا على أخطاء طَرَف النِّزاع. وأكِّد على المُصالَحة وليس الحلّ. إنَّنا في المُصالحة نركِّز على العلاقة، لكنَّنا في الحلّ نركِّز على المشكلة. في المُصالحة سوف توجِّه تركيزك إلى العلاقة واستردادها، لكنَّك في البحث عن الحلّ سوف توجِّه تركيزك إلى المُشكلة. وعندما تركِّز على الحلّ، سوف تفقد المشكلة أهميّتها وظهورها كأولويَّة، وتُصبح غير متَّصلة بالموضوع. المُصالحة تعني أنْ تعقِد صُلحًا لا أن تدفِن القضيَّة.
(7) كُن مُسالمًا قدر الإمكان
يقول بولس للمؤمنين، في تقديرٍ تامٍّ لطاقة احتمال كلّ واحد: «على قَدْر طاقَتِكُم سالموا جَميع الناس» (رومية 12: 18). فالسَّلام دائمًا له ثَمَن، إنَّه يُكَلِّفنا أحيانًا كبرياءنا، وأحيانًا بَعْض حُقوقنا. افْعَل ما تَسْتَطيعه مِن أجل المحافظة على الشَّركة مع إخوتك، والتَّوصُّل إلى تَناغُم وتَفاعُل وتَكيُّف. إنَّ الله يتوقَّع منَّا الشَّركة وليس التَّماثُل. فيُمْكنُنا أنْ نعيش في سلام دون أنْ نتَّفِق حول جميع القضايا.
لا تنسَ دورك كسفير للمسيح، ورسالتك ونداءك:
«تصالحوا مع الله، تصالحوا معي، تصالحوا معًا».