دراساتدراسات كتابيةمقالات

علامات أساسية في الحياة المسيحية (3)

الأمانة مقابل الخيانة

الهدى 1224                                                                                                                                   أكتوبر 2020

هُنَاكَ أمِيْن شُرْطَة، وأمِيْن عَام، وأمِيْن سِرّ، وأمِيْن مَكْتَبَة، وأمِيْن صَنْدُوق… الخ، والوَدِيْعَة أمَانَة. والأمَانَة لُغَةً تَأْتي مِنْ الائْتِمَانْ وأَمْن النَّفْس، وَمَا يُؤَمَّن عَلَيْه الإنْسَان. والوَكَالَة هي الأمَانَة في القِيَامِ بِعَمَل المَالِك نِيَابَةً عَنْهُ، لِتَحْقِيْقِ أهْدَافِه وبِالْكَيْفِيَّة التي يُحَدِّدها، وَهِي عَكْس الغِشّ والخِيَانَة.
والأمَانَة إحْدَى الصِّفَات الأخْلاقِيَّة الإلَهِيَّة. فَيَقُوْل الكِتَاب إنَّ الله: «أمِيْنٌ وعَادِلٌ» (1يوحنَّا 1: 9)، «أمِيْنٌ هُوَ الرَّبُّ» (2تسالونيكي 3: 3).
بمعنى أنه ثابت في علاقته بشعبه، وفي وفائه بوعوده وعهوده، لذلك فهو جدير بأن نثق فيه ونعتمد عليه. كما يصف الكتاب المقدس المسيح أيضا بالصفة نفسها: «رَئِيْسُ الكَهَنَةِ الأمِيْن» (عبرانيين 2: 17)، «الشَّاهِدُ الأمِيْن، الصَّادِقُ الأمِيْن» (رؤيا 1: 5، 3: 14). كما أن كلمة {مؤمن} تأتي من «أمين»، لأن المؤمن يعيش حياة الأمانة، بأن يعكس صفات المسيح في حياته ويتشبه به.
في مثل الوزنات (متى 25: 14-30) تكلم المسيح عن العبد الأمين، وعلم بأن الأمانة مقياس المحاسبة والدينونة الأخيرة «نِعِمَّاً أيُّها العَبْدُ الصَّالِحُ والأمِيْن، ادْخُل إلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ»، نعم ما فعلت أيها العبد، لأنك كنت صالحا وأمينا فيما أوكل إليك. كما بين إلى أي مدى يجب أن تكون الأمانة: «كُنْ أمِيْناً إلَى المَوْتِ، فَسَأُعْطِيْكَ إكْلِيْلَ الحَيَاة» (رؤيا 2: 10)، كن أمينا إلى الدرجة التي يمكن أن تبذل فيها نفسك وتضحي بحياتك بسبب أمانتك. وفي (لوقا 12) أضاف المسيح صفة «الوكيل» إلى الأمين. وأهم ما يطلب في الوكالة هو الأمانة «ثُمَّ يُسْأَلُ في الوُكَلاءِ، لِكَيّ يُوْجَدَ الإنْسَانُ أمِيْناً» (1كورنثوس 4: 2). فالوكيل الأمين يحافظ على عمل المالك، وينوب عنه فيه، ويديره بالكيفية التي يحددها المالك، لتحقيق الأهداف التي يبتغيها المالك. الوكيل ليس له حق التصرف الشخصي في وكالته. والمؤمن وكيل أمين في القيام بما يكلفه به الله. والوكالة هنا لا تتعلق فقط بالمال، بل بكل ما أعطانا الله من إمكانيات وفرص ومواهب وأوقات.
ما أكثر الذين يبدأون طريقهم الإيماني مع المسيح، لكنهم لا يستطيعون الاستمرار في السير معه. لأنهم لم يكونوا أمناء في واجباتهم الروحية. فالمؤمن الأمين أمين في كل شيء، وعلى كل شيء. أمين على جسده وعلى روحه، أمين في ماله وعلى كل ما له، أمين في دراسته وفي عمله، أمين في الكنيسة وفي البيت وفي الشارع، أمين حيث تراه العيون، وحيث لا يراه أحد.
يوسف
نموذج للشخصية الروحانية، عندما رأى فوطيفار وزير داخلية مصر أن الرب كان مع يوسف «وَكَّلَهُ عَلى بَيْتِهِ، وَدَفَعَ إلَى يَدِهِ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ» (تكوين 39: 3-6). فازدهر العمل على يديه بكيفية مذهلة. وكان أمينا عندما صار وزيرا للتموين في مصر، فأنقذها والبلاد المجاورة من مجاعة أكيدة. حتى عندما كان في السجن، كان أمينا حتى أن رئيسه في السجن ائتمنه على المسجونين. كان يوسف الشاب أمينا في السر وفي العلن، حتى رفض أن يرتكب الشر مع زوجة فوطيفار بعيدا عن أعين الجميع.
ما أكثر المواقف التي نستطيع أن نختبر فيها مدى أمانتنا. الموظف الذي يحصل على شهادة مرضية مزيفة، ليحصل على عطلة من العمل من دون وجه حق. والذي يطالب بمكافات ومناصب أعلى دون أن يؤدي العمل المطلوب. والذي يغش في الامتحان ويستبيح لنفسه مجهود غيره. والذي ينقل أخبارا غير صحيحة أو غير دقيقة، مما يسبب مشاكل كثيرة بين الناس. والذي يفشي أسرارا ائتمن عليها، فيوقع الضرر بسمعة الذين وثقوا فيه. ليتنا نتمثل بالشاب يوسف، ذلك الوكيل الأمين.
الأمانة مع الله
إن الزوجة الأمينة لزوجها لا تخونه مع غيره، كذلك عروس المسيح العفيفة، لا تخون عهدها مع المسيح عريسها وتذهب وراء الهة أخرى وتعبد أشياء وأشخاص. المؤمن الأمين مع الله لا يخون عهده مع الله ويذهب وراء شهوة رديئة أو فكر منحرف. الأمين مع الرب لا يقبل إطلاقا ما يمكن أن يبعده ويفصله عن الرب. لذلك يقول بولس: «فَإنِّي مُتَيَقِّنٌ أنَّهُ لا مَوْتَ وَلا حَيَاةَ، وَلا مَلائِكَةَ وَلا رُؤَسَاءَ، وَلا أمُوْرَ حَاضِرَةٌ وَلا مُسْتَقْبَلَة، تَقْدِرُ أنْ تَفْصِلَنا عَنْ محَبَّة المسيح» (رومية 8: 38).
الأمين مع الله أمين في عبادته للرب، فلا يعبد غيره ولا يسجد إلا له. لا يرنم إلا للرب، ولا يصلي إلا للرب، ولا يقدم أية تقدمة إلا باسم الرب. أمين في وعوده وعهوده والتزاماته، أمين في اكتشافه نفسه في نور كلمة الله، أمين في توبته وصادق مع نفسه. أمين في خدمته للناس كما للرب، فيخدمهم لينال رضا الرب، وليس لينال مدحهم أو ليكون صاحب فضل عليهم. يخدم بحرارة روحية وبحماسة ونشاط، ليس بفتور ورخاوة وتردد، لأنه أمين مع الله. لذلك يقول النبي: «مَلْعُوْنٌ مَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الرَّبِّ بِرَخَاوَةٍ» (إرميا 48: 10). فالأمين في خدمة الرب قلبه ملتهب، يعمل بكل اجتهاد وإخلاص: {أن لا أبيت هادئا في مضجعي ولا أنام، حتى أرى بيت العلي قد قام في أسمى مقام}. كما يردد مع بولس: «قَدْ جَاهَدْتُ الجِهَادَ الحَسَن».
والخادم الأمين يعلم مخدوميه بأمانة، فلا يقدم معتقداته الخاصة كعقائد حقيقية ثابتة، بل يفصل كلمة الحق باستقامة، ولا يقدم تعليما بشريا على أنه إلهي. يتعلم كلمة الله بأمانة، ويعلمها بأمانة، ويسلمها لأمناء يعلمونها لأخرين أيضًا، بحسب قول بولس لتيموثاوس: «مَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بشُهُودٍ كَثِيْرِيْنَ أوْدِعْهُ أُنَاسَاً أُمَنَاءَ يَكُونُونَ أكْفَاءَ أنْ يُعَلِّمُوا آخَرِيْنَ أيْضَاً» (2تيموثاوس 2: 2).
الأمانة مع النفس
كثيرا ما نكون أمناء مع أجسادنا، فنحرص على تناول أفضل وأنسب المأكولات، ونلبس أجمل الملبوسات، ونحافظ على صحتنا ولياقتنا، ونعالج أجسادنا عندما نشعر بأي مرض أو تعب. لكننا نادرا ما نكون أمناء مع أرواحنا. فمن منا ينزعج من نفسه إذا وجد أنه مقصر في تأدية واجب روحي؟ أو عندما يكتشف أنه بعيد عن إحدى العلامات الأساسية للحياة المسيحية التي نتعلمها؟ من يذهب إلى مشير روحي، كما يذهب لطبيب الجسد، ليعالج انحرافا اكتشفه في حياته عن وصية إلهية؟ من يتابع درجة حرارته الروحية ونموه في الإيمان ومعرفة المسيح، كما يتابع قياس ضغط الدم والسكري بشكل منتظم؟ من منا يقيس درجة أمانة أولاده أولا بأول كما يقيس درجة حرارتهم الجسدية ليطمئن عليهم؟ الأمين فقط هو الذي يفعل ذلك. ولأنه أمين مع نفسه، فإنه ينشغل كثيرا بأبديته. يفكر ويخطط لحياته ومأكله وملبسه ومسكنه ومستقبله الزمني، وأيضا يخطط ويعمل حسابا بالأكثر لمستقبله الأبدي.
الأمين مع نفسه يكتشف أخطاءه وخطاياه وضعفاته، ويعترف بها للرب ويتوب عنها ويصلح حياته. لا يبحث عن مبررات لأخطائه، كما فعل ادم وحواء، ولا يلقي بالمسؤولية على غيره وعلى الظروف ليبرر خطأه. إنه يعرف قدراته جيدا، وعندما يطلب منه أن يقوم بأمر، لا يوافق إلا على ما يتناسب مع قدراته، لأنه أمين في معرفته لنفسه. وعندما يقبل القيام بما يطلب منه، فإنه يكون أمينا فيؤديه على أكمل وجه وبالكيفية المطلوبة. لذلك فهو دائما محل ثقة الجميع.
الأمانة مقياس الدينونة
ينظر البعض باستهتار واستخفاف لصفة الأمانة، ويظنون أن الأمين في هذا الزمان أهبل وغير عاقل، وأنه سوف يخسر كثيرا بسبب أمانته. ذلك لأن الأمانة عند هؤلاء معناها اللاشطارة، وفقدان الذكاء، وعدم الدبلوماسية. إلا أن المسيح يعلم بوضوح أن مقياس الحساب والدينونة عند الله هو الأمانة. هذا ما علمه وهو يقترب من الصليب في خطابه الوداعي لتلاميذه (متى 25)، في ثلاثة أمثال: العذارى، والوزنات، والخراف والجداء. فكان يحثهم على بذل أقصى جهد استعدادا لمجيئه. ففي مثل العذارى الحكيمات والجاهلات بين أن الجاهل: غير أمين، معه مصباح، أي يتظاهر بالأمانة، لكن ليس له مبادئها في داخله، لا يحتاط للمستقبل، ولا يتطلع إلى أين سيذهب. بينما الحكيم: أمين، معه مصباح وفي داخله مبادئ النور (الزيت)، الذي يدعمه ويقويه ويجعله في تقدم مستمر، ويعمل حساب المستقبل. وعندما جاء الوقت الذي انطفأت فيه المصابيح كلها، تبين الأمين النشيط من الخائن الكسول. والأمناء المستعدون دخلوا العرس البهيج ونالوا الشرف العظيم، بينما حرم أولئك الكسالى الذين لم يكونوا أمناء. إن دخولك أو عدم دخولك يتوقف على مدى أمانتك مع إلهك ومع نفسك.
الفكرة نفسها في مثل الوزنات أيضا، حيث سلم السيد لثلاثة من عبيده وزنات مختلفة، ليتاجروا بها ويربحوا حتى يعود. ولما عاد، جاء وقت المحاسبة على مدى أمانتهم في تجارتهم تلك. الأول والثاني كانا أمينين، تاجرا وربحا ضعف ما أخذا. كانوا أمناء، عندهم نشاط وإخلاص واجتهاد. أما الثالث فقد تصرف تصرفا سيئا، حيث أخفي وزنته. لم يضيعها ولم يفقدها ولم يسرقها ولم يبذرها، لكن خطيته أنه لم يستثمرها، هذا هو معنى عدم الأمانة، الغش والخيانة وعدم الاستثمار، وهذه إساءة للسيد المالك. فخسر غير الأمين كل شيء، حياته ومصيره الأبدي. إن مكافأة الأمين النشيط ومجازاة الخائن الكسول متوقفة على مدى الأمانة في استثمار عطية السيد.
الأمين في القليل أمين في الكثير
هذه هي القاعدة التي وضعها المسيح: «كُنْتَ أمِيْناً في القَلِيْل فَأُقِيْمُكَ عَلَى الكَثِيْرِ» (متى 25: 23). كن أمينا في الخطوة الأولى، يقيمك الرب على بقية الخطوات. كن أمينا في هدفك، يرتب لك الرب الوسائل الصحيحة لتحقيقه. كن أمينًا في تربية أولادك، يقيمك الرب على تربية أجيال. كن أمينًا على نفسك، يقيمك الرب على نفوس أخرين. فمن لم يكن أمينا فيما هو قليل، كيف يتوقع أن يقيمه الله ويكلفه بالكثير؟ هذا يعني أن الرب يختبر أمانتك أولًا في الأمور الصغيرة والقليلة، ثم يقيمك على الكبيرة والكثيرة متى وجدك أمينًا. فداود إذ كان أمينا في رعاية الأغنام، أقامه الرب على رعاية الأمة. ويوسف إذ كان أمينا في بيت فوطيفار، أقامه الله على كل أرض مصر. فكن أمينا في القليل، وسوف يقيمك على الكثير، وتدخل فرح سيدك وتتمتع بالقرب منه.
اختبر درجة أمانتك
أ. الأمانة في الكلام
(1) هل أنت أمين في كلامك أم تكذب؟ أم تبالغ؟ أم تحذف منه لتخفي حقائق؟ أم تغير الحقائق؟ أم تختلق أمورا لم تحدث؟ (2) هل تستخدم أسلوب اللف والدوران في كلامك، وتعتبره دبلوماسية؟ (3) هل أنت صريح في مدحك أم مجامل؟ (4) هل تلجأ للكذب للخروج من المازق؟
ب. الأمانة في المال
(5) هل تتهرب من دفع الضرائب والجمارك؟ (6) هل تسرق ما لغيرك، نقودا أو أشياء؟ (7) هل تسلب مال الرب الذي أعطاك إياه؟ (8) هل تحصل على المال بطرق غير مشروعة، كالغش أو الرياء أو الرشوة؟ (9) هل تبذر مالك في الزينة أو الملابس أو المأكولات؟
ج. الأمانة في الوقت
(10) هل تعط وقتا كافيا للشركة مع الرب في الصلاة والتأمل وقراءة ودراسة الكلمة؟ (11) هل تضيع وقتك في الأفلام والمسلسلات والفيسبوك؟ (12) هل تقضي أوقاتا دون هدف في تسكع فكري، فتطيل زياراتك ومكالماتك لقتل الوقت؟ (13) هل تعطي وقتا كافيا للكنيسة والاجتماعات الروحية؟ (14) هل أنت أمين في وقت عملك؟
د. الأمانة في الوعود
(15) هل تعد وتفي بوعودك، أم أنك كثير الأعذار والاعتذار؟ (16) هل تحترم مواعيدك، أم أنك تصل دائما متأخرا؟
ه. الأمانة في الإمكانيات
(17) هل تحاول بجدية أن تكتشف ما وهبك الرب من قدرات؟ (18) هل تطور هذه الوزنات وتستثمرها، أم تطمرها فتفقدها؟ (19) هل تحتقر وزنات الاخرين حتى تظهر مواهبك وحدك؟
و. الأمانة في الصحة
(20) هل تهتم بالفحص الدوري لصحتك، أم تهمل ذلك؟ (21) هل تضبط نفسك من جهة المأكولات الممنوعة التي لا تناسب صحتك أو سنك أو مرضك؟ (22) هل أنت مستعبد لعادة ضارة تسبب لك نوعا من الأمراض اجلا أو عاجلا كالتدخين والكحوليات؟

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى