الهدى 1205-1206 يناير وفبراير 2019
يُعد الاكتئاب من أشهر الأمراض المنتشرة في أيامنا الحاضرة حيث دلت إحصائيات هيئة الصحة العالمية أن نسبة الاكتئاب في العالم حوالي 5%.
وهناك العديد من النظريات التي تحاول أن تفسر الاكتئاب وتُرجعه إلى أسباب عضوية أو أسباب نفسية ومن أكثر النظريات انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية نظرية تُسمى بالنظرية المعرفية وهي تفسر سبب الاكتئاب بأنه نتيجة أساليب تفكير خاطئة وتكوين مفاهيم خاطئة تجاه الذات والماضي والمستقبل ولعل أهم أساليب التفكير الخاطئة التي تؤدي للاكتئاب التفكير السلبي من جهة الماضي فنجد الشخص المكتئب عندما يسترجع ماضيه ينشغل كثيراً بالخبرات السيئة والذكريات المؤلمة والمواقف المحزنة ويظل الشخص أسيراً مستعبداً لهذه الذكريات وهذه الخبرات السيئة والمؤلمة تظهرواضحة في تفكيره وفي حديثه فتؤثر على حالته النفسية وعلاقاته مع الآخرين وتقوده حتماً إلى الاكتئاب.
والشخص الايجابي هو الذي يستطيع أن ينتصر على ذكريات الماضي المؤلمة بإعطائها معاني أكثر قوة واعتبار هذه المواقف المحزنة نقطة تحول للأفضل وهذا ما نراه واضحاً في حياة بني قورح. ففي سفر العدد – من العهد القديم – والفصل السادس عشر نجد أن بني قورح وهم ينتسبون إلى قورح بن يصهار بن قهات بن لاوي الذي قاوم موسى هو وداثان وأبيرام فحلت بهم الدينونة الرهيبة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم أحياء غير أن بني قورح لم يهلكوا مع العصاة ولكنهم بلا شك تعرضوا في طفولتهم لهذه التجربة القاسية حيث فقدوا كل من لهم في لحظة واحدة وبطريق شنيعة حيث اهتزت الأرض تحت أقدام عائلتهم وفتحت فاها وابتلعتهم أحياء إلى الهاوية وقصدت نعمة الله أن ترحم هؤلاء الأطفال الصغار فلم يهلكوا (عدد 26 : 11) وقد أقيموا بوابين وحراساً لمداخل خيمة الاجتماع (1أخ 9 : 17 – 19، وأيضاً اصحاح 26) ومن المؤكد أن المشهد الذي شاهدوه في طفولتهم كان مرعباً ومخيفاً ولعله حُفر في عقول بني قورح وأذهانهم وربما رأوه في أحلامهم وذكرياتهم. كذلك فإنه من المتوقع علمياً أن هذه الخبرة ستنشط وتؤلمهم كلما تعرضوا لأي منبه ينبه هذه التجربة المؤلمة ولعل أشد منبه يفجر أحاسيس الخوف والرهبة داخلهم هو بالتأكيد اهتزاز الأرض ولأن هذا الأمر يؤدي إلى استرجاع الموقف المؤلم بكل تفاصيله فمن يتعرض لخبرة زلزال بلاشك سيشعر بالخوف عند أي اهتزاز ولكن ما أعظم نعمة الله التي تعاملت مع بني قورح إنهم كبروا وأفرزهم داود النبي لأجل الحمد والتسبيح للرب (1أخبار الأيام 25) ولم يُصابوا بالاكتئاب فالمزامير التي تحمل اسم بني قورح تتميز بعمق روحي وقد كان وجودهم في المقادس دائما للتسبيح خير شاهد على نعمة الله التي حفظتهم من الدينونة والغضب فلقد كانت محبة الله ولطفه موضوع تسبيحهم الدائم وهكذا كرسوا حياتهم التي اُفتديت من الهاوية لأجل تمجيد الله وتسبيحه فكتبوا عشرة مزامير وإن كنا نجد في مزاميرهم الأولى النغمة الحزينة الأليمة (مزامير 42 ، 43 ، 44) صارت لي دموعي خبزاً. لماذا أنت منحنية يا نفسي؟ ولماذا تئنين في؟ يا إلهي نفسي منحنية. لأن أنفسنا منحنية إلى التراب. لصقت في الأرض بطوننا.. إلا أنهم في مزمور 46 وبعد أن اختبروا صلاح الله ترنموا قائلين: الله لنا ملجأ وقوة عوناً في الضيقات وُجد شديداً لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار تعج وتجيش مياهها تتزعزع الجبال بطموها (مزمور 46 : 1-3)
لقد تحدى بنو قورح بمعونة الله المنبهات القوية التي من الممكن أن تجعلهم يتذكرون الموقف المؤلم كتزحزح الأرض وانقلاب الجبال إلى قلب البحر وارتفاع أمواجه.
إن العلاقة القوية مع الله تحررنا من مخاوف الماضي ومن كل خبرات الماضي السيئة وفي كثير من الأحيان يلوم الناس الأحداث التي وقعت في حياتهم مما يجعلهم أسرى وعبيداً لخبرات الماضي المؤلمة فيقتلون حاضرهم ويدمرون مستقبلهم بآلام ماضيهم !!
إن الحقيقة المؤكدة أنه لاشئ في الحياة له معنى إلا المعنى الذي نعطيه له. والمعنى الذي نلحقه بأحداث الماضي والتفسير الذي نضعه لها هو الذي يُشكل حياتنا بحق وإحدى الصفات العجيبة في النفس الإنسانية هي مقدرتنا على رفع شأن أي حدث في حياتنا والتقليل من أمره إذا أردنا فمن يفكرون بطريقة إيجابية ينظرون إلى تجارب الماضي الصعبة ويعتبرونها نقطة تحول للأفضل في حياتهم ويُلحقون بها معنى رائعاً وأكثر قوة ونحن جميعاً نملك القوة والمقدرة على خلق وإلحاق المعاني الطيبة بالأحداث التي نمر بها بصورة تُضاعف من قوتنا على مواجهة حياتنا.
عزيزي القارئ…. هل تسمح لأحداث الماضي المؤلمة أن تعكر صفو حياتك؟!! هل توجد معاني أخرى جديدة يمكن أن تحملها هذه الأحداث؟ هل جعلتك هذه الأحداث أقوى مما كنت عليه قبل وقوعها؟ هل أصبحت أكثر حكمة من ذي قبل؟ هل أحداث الماضي المؤلمة جعلتك أكثر قدرة على تقديم النصح للآخرين الذين قد يقابلون نفس التحديات؟ فلماذا إذاً تبكي على اللبن المسكوب؟ ولماذا تُلحق كل المعاني السلبية لأحداث ماضيك المؤلمة؟ لماذا لا تفكر بإيجابية وتشكر الله لأجل كل تجربة مررت بها فهي بلا شك كانت سبب بركة لحياتك وبلا شك أضافت خبرات جديدة لخبراتك؟
صديقي .. لماذا لا تجعل خبرات الماضي قوة دفع تدفعك لمستقبل أكثر إشراقاً فتهتف مع الرسول بولس وتقول: أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام؟!!