دراساتدراسات كتابية

معصرة الألم

الهدى 1221                                                                                                                                       مايو 2020

عرَّف البعض الألم: «هو كل وجع، أنين، خسارة، عقاب نختبره بإستحاق أو غير إستحقاق، قد يؤثر هذا الألم على الجسد، العقل، الروح. والحقيقة هي إننا نحيا في عالم فاسد وبه الكثير من الآلامات».

لا شك أن الحياة مليئة بالمواقف الصعبة والظروف المؤلمة، وهناك شخصيات كثيرة عانت من الألم بمختلف أنواعه، ولا يوجد شخص يُمكنه القول بأنه لم يتجرع من هذا الكأس.
سأعرض بإيجاز بعض أنواع الألم التى قد يمر بها الإنسان فى حياته وكيفية المواجهة أيضًا.

1) ألم الفقد:
عندما يتعرض الإنسان لخبرة الفقد بشكل عام يتألم جدًا، لأن هذا عكس طبيعته التى تميل إلى الإحتفاظ بما لديه. ولكن عندما يمر بخبرة فقد الأشخاص يعاني من قسوة شديدة لأنه فقد جزءً منه، إذ يستيقظ أو يُفاجأ بفاجعة الفقد !!. تُرى كيف يمر الوقت على من فقد أحباءه؟
تُرى كيف يتخيل ويتصور ويتعامل مع ذكريات لأشخاص كانوا جزءًا أصيلًا من يومه ومن أحلامه ومن مستقبله!
إنها حقًا معاناة .. فيها يجتر الشخص معاناة تقصيره أو عدم وعيه أو عدم إهتمامه بمن فقده، أو يُقتل من لوعة الإشتياق إليه وقد يقتله الندم!! فيمر الوقت بمرارة، والذكريات بأثقال نفسية تُرهق صاحبها.
خبرة الفقد تُغير وتُشكل فى شخصياتنا كثيرًا، تجعلنا نرى الأمور والأشخاص والحياة بشكل مختلف.. وقد تتوقف الحياة بأكملها، ونميل إلى الإنكار والعزلة.
وقد يمر الشخص بمراحل فيها يكون غير مفهوم، غير واضح… لأنّه يحيا ويعيش في ماضي الأشخاص الذين فقدهم .. سواء كان أبًا أو أما أو أخًا أو أختًا أو حبيبًا….. إلخ!
ولمواجهة ألم الفقد، على الشخص الذي فقد أشياء أن يتقبل الواقع ويحاول أن يبدأ من جديد، باحثًا عن الهدف والطموح، ويخلق واقعًا جديدًا فيه يتحدى نفسه ويتفوق عليها أيضًا. أما مَن فقد الأشخاص فأصعب أوقات الفقد هي أولها، ويميل الشخص إلى العُزلة فيجب أن يكون حريصًا على البقاء مع من يُحب، ولا يخاف أن يراه العالم حزينًا أو مكتئبًا فقد يكون هذا مفيدًا لمواجهة ألم الفقد، مما يجعل البعض يميل الى المساندة والتعضيد والتشجيع.
من الأمور المساعدة أيضًا هي التواصل مع أشخاص مرت بنفس الخبرة والألم. وعدم القسوة على النفس وإتاحة الفرصة للشفاء من خلال الإقتراب إلى الله حيث الهدوء والطمأنينة والتسليم بحدوث هذه الخبرة المؤلمة فى حياة البشر جميعًا. ثم الحفاظ على التواصل مع الأحباء والتعبير لهم عن الحب وتعزيز العلاقات الإيجابية.

2) ألم فقدان الثقة:
الإنسان خُلق علاقاتيًا، يميل لتكوين علاقات من خلالها يرى جمال خليقة الله، يتفاعل، ينمو، ينضج، يتغير.. لكنه يتألم!
من خلال هذه الدائرة العلاقاتية نختبر تباين رهيب بين الأشخاص بناءًا على معتقداتهم، خبراتهم، ثقافتهم؛ عوامل التأثير في شخصياتهم. وتتدرج العلاقة فى عمقها، وفى هذا التعمق يتخلى الإنسان عن الحيطة والحذر، دائمًا يختبر الشفافية والراحة فى محاكاة ما بداخله مع الآخر إلى أن تأتى لحظة غير متوقعة من الخذلان والخيبة التى تكسر هذا التعمق من أشخاص غير متوقعين.
وهنا..
لا مثيل للألم الناتج عن مردود سلبي لثقة أعطيناها لأشخاص وتوقع الغدر مرة آخرى!!
لا مثيل لندم رهيب يجول بخاطر الشخص عندما يتعرض للخيانة ويُترك من الأقرب إلى القلب!
لا مثيل لهبوط العزيمة وهدم كل جسور بين مَن كان يومًا الصديق، الحبيب، القريب، والآن أصبح مصدرًا للألم.
ولكي نواجه هذا النوع من الألم على الشخص أن يجدد ثقته بنفسه مرة آخرى وأن يدرك طبيعة العلاقات وإننا لسنا فى عالم مثالى. ويحتاج الشخص أن يتدرب على كيفية الغفران لمن أساء إليه حتى يتحرر من قيود المرارة، وقتها يمكنه أن يبدأ علاقات صحية جديدة نتيجة لما اكتسبه من خبرات تؤهله للتعامل مستقبليًا مع هذا الألم وارد الحدوث. وأن يكون الشخص نموذج فى الصدق والأمانة فى علاقاته مع الآخرين، والحفاظ على الشخصيات مصدر الثقة نادرة الوجود.

3) ألم الاستغلال:
لكل شخص هدف فى العلاقات، نرى البعض يأخذ، والآخر يُعطى، وثالث يستغل!!
والشخص المُستغل يتسبب فى ألم مبرح جدًا وخصوصًا لشخص يبحث عن التقدير والإحترام فى العلاقة، وتبادل التعامل أيضا كندٍ فى التواصل. الاستغلال قد يأتى من أقرب الناس إلينا ومن أبعدهم لأن هذا الأمر يتوقف على طبيعة الشخص وما يحتاجه من العلاقة.
والإستغلال قد يترُجم ببساطة فى عدم الإهتمام بما يوذيك كشخص ولكن فيما يتحقق من منفعة للمُستغِل..!!
من منا لا يٌجرح عندما يشعر بأنه مجرد شىء أو شخص من مستهلكات الأشخاص!!!؟
من منا يشعر بأمان فى علاقة يُستغل فيها على كافة المستويات، الاجتماعية، النفسية، الروحية.. الخ.
هذا النوع من الألم يجعل صاحبه يشعر بمرارة فى داخله، ليس لأنه يريد عدم العطاء، لكن لاستغلاله وانتهاك خصوصياته. ومن المهم أن يدرك الشخص أن المُستغل لا يمكن أن تتغير طبيعته. لكي نواجه هذا الألم نوضح بعض الحقائق منها، التسليم بأن هذه الشخصيات موجودة ومتاحة في الحياة، ولكن الدور الأكبر هو كيفية وضع الحدود التى تقوم عليها العلاقة، قد لا يروق للشخص المُستغل هذه الأمور، ولكن من الهام التعبير عنها بوضوح وقوة، ثم إمكانية إعادة العلاقة لمسارها الطبيعي وهي أن تكون متزنة ومُتبادلة ومثمرة. عدم الاستسلام للتنازل عن الحقوق في العلاقات والتراجع أمام ضغوظ الشخص المستغل. التدريب على حماية نقاط الضعف لمنع إستغلالها. التخلي عن العيش في دور الضحية فهذه النقطة تجعل الشخص فريسة لمن يستغله. التدريب على أن يقول الشخص لا لمن يكسر حدوده.
يميل البعض للإنسحاب من هذه العلاقة، ولكن هناك علاقات لا يمكن أن ننسحب منها مثل العلاقات الأسرية، فيكون علينا المواجهة والبقاء وإمكانية الإصلاح.

4) ألم الظُلم:
هناك فرق كبير بين من يتحدث عن الظلم، ومن اختبره.
هل اختبرت أن تدفع فاتورة لشىء أنت لم تشتره!
هل اختبرت الظلم نتيجة التمييز والإساءة والمحسوبية!!
هل اختبرت أن تُشوه لمجرد أن الآخر لا يُحبك ويحمل لك كراهية وضغينة بدون سبب..!!
هل اختبرت أن تُظلم لأجل أمانتك وصدقك ومقاومتك للشر!!
هل اختبرت أن البعض يتعاملون معك بناء على وجهة نظر البعض عنك بدون معرفتك!!
هل اختبرت أن سلامة وطمأنينة قلبك تفارقك من كثرة التفكير لماذا كل هذا !!!
هل تألمت من انتظار تدخلات الله العادلة البطيئة لإنصافك !!
إنه ألم صعب يا صديقي، والعبور من هذا النفق يحتاج إلى نعمة وقدرة فائقة.
وللتعامل مع هذا النوع من الألم على الشخص أن يُفصح عن مشاعر الظُلم، حتى لا تمتلكه المرارة النفسية، ثم البُعد عن الغضب المستمر الذي يستنفر الطاقة. يتجنب إحساس الشفقة من الآخرين. المواجهة، وهي مشروعة في الدفاع عن النفس، قد تكون صعبة أحيانا بإختلاف المواقف والظروف وفى هذه الحالة يمكن البحث عن مساعدة من آخرين قادرين على رد الظلم.
أيضا أهمية التخطيط والتركيز للرد على من ظَلم دون الانجراف وراء المشاعر الغاضبة. أهمية الثبات على الحق واليقين أنّ هناك إنصافًا من الله العادل، حتى وإن كانت الأرض غير منصفة السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ. الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ.» مزمور ( 2:97 ).
لكنَّ، تبقى عدالة الله ورحمته هي الملاذ لكل إنسان مظلوم» إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا.» (جامعة 8:5).

5) ألم السخرية من الألم:
السخرية تعني الاستهانة والتحقير سواء بالكلام أو بالإيماء والتنبيه على العيوب والنقائص.
هناك سخرية من الفقر، اللون، العرق، مستوى التعليم، أو من سلوكيات،… الخ. ولكن تبقى السخرية من الألم هى الأصعب، لأن الألم واقع على الشخص وقد يكون لا ذنب له فيه، وفى النهاية يُصاب الشخص بصدمة من ردود أفعال من حوله، أين الضمير، أين المشاركة، أين الإنسانية!
كم من مرة بحث المتألم عن المساندة والمواجدة ورجع بخُفّي حُنين!
كم من مرة صرخ وكانت كل غايتٌه أن يُترك لآلامه بدون تعليقات أو سخافات!
كم من مرة عبّر عن أوجاعه ووجد إستهانة فجة!
كم من مرة تمت المٌتاجرة بآلامه !!
كم من مرة أرجع البعض أن آلامه ناتجة عن عقاب الله له نتيجة لشره !!
كم من مرة جٌرح نتيجة شماتة الآخرين فى آلامه !!
العبث بالمشاعر المجروحة يؤلم جدًا ويوجع أكثر… وكفى..!!
ولمواجهة هذا الألم على الشخص أن يكون هادئا، واثقًا من نفسه، ثم يواصل طريقه دون إهتمام بهذه السخرية. يتأكد أن للجميع عيوبًا، وضعفات، وآلام أيضًا، ولا يوجد شخص كامل.
من المهم هو كيفية مواجهة الشخص الساخر والحديث معه، ولكن بطريقة شخصية وفردية وبأسلوب راقٍ حتى لا يثير الغضب. البحث عن لماذا يسخر هذا الشخص من الألم قد يكون لديه خبرات صعبة، أو جروح من الماضي، قد يكون لدية ما يسقطه على الآخرين كوسيلة دفاعية. التركيز فى التعاملات مع آلام الآخرين، والتدّرب على كيف يكون داعم ومشجع لمن يمر بألم مثله.

6) ألم عدم فهم الله:
عنوان مثير للقلق، يُعرض صاحبه للانتقاد، ولكنه ألم حقيقي …!!
هناك معاناة رهيبة لعدم فهم وإدراك من هو الله وما هي تعاملاته! ومن أنا؟
ألم عندما أقف أمام أمور تبدو أقوى منى، أمور مبهمة تحتاج لتفسير ولا مُجيب.!!!
ألم عدم فهم قصد الله مِمَا أمُر به !!!
هل يسمح الله بالشر؟، هل يسمح الله بموت من نُحب، هل يسمح الله بالإضطهاد؟
إنها الحيرة التي لا يعلمها أحد.. ولا نميُل للتعبير عنها، ونخاف أن نُصَرح بها، إننا لا نفهم الله.
هناك الكثير من البشر لديهم صراعات قاسية فى البحث عن فهم الله.
وللتعامل مع هذا النوع من الألم، لابد أن نفهم طبيعة الإنسان المحدودة، المشكلة الأكبر لدينا أننا نريد تبرير من الله لكل ما يحدث معنا، ولكن هناك أمور غامضة مبهمة لا يستطيع العقل أن يقبلها. ولنا أيوب مثالًا، حاول أن يفهم وتساءل كثيرًا، ولم يجد إجابة واضحة على ما كان يمر به، لكن الإنسان في حياته هو في رحلة بحث واختبارات حية تشهد عن أمانة لله. فهناك جوانب مضيئة وتعويضات فى حياتنا الشخصية، مصدرها الله يجب أن نقدم له الشكر عليها.
هناك حقيقة أن الألم والمعاناة هما جزء أساسى من الحياة على الأرض، ولا إستثناء للمؤمنين من هذا، وهناك مسئولية شخصية على الشخص تجاه حياته وسلوكياته. وحقيقة أخرى هي أن الإنسان منذ سقوطه فى جنة عدن يميل إلى الشر والنزاع والحروب والظلم.
«ثُمَّ رَجَعْتُ وَرَأَيْتُ كُلَّ الْمَظَالِمِ الَّتِي تُجْرَى تَحْتَ الشَّمْسِ: فَهُوَذَا دُمُوعُ الْمَظْلُومِينَ وَلاَ مُعَزّ لَهُمْ، وَمِنْ يَدِ ظَالِمِيهِمْ قَهْرٌ، أَمَّا هُمْ فَلاَ مُعَزّ لَهُمْ.» (جامعة 1:4). أيضا لم يكن الله مصدر للشر، ولكن الشيطان هو من يحرك العالم، «لأَجْلِ ذلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا للهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ» (أيوب 10:34)
فى النهاية لا يمكننا أن نتحمل آلامنا بمفردنا، عندما ندقق نجد نعمة الله ورحمتة ومعيتة لا تفارقنا لنعبر هذه الأزمات المختلفة.
«لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ.» (عبرانين 15:4-16)
تتعدد الخبرات، وتختلف الأسباب، والنتيجة واحدة، إنها معصرة الألم التى نحيا فيها يوميًا !!.
ختامًا أقول، إنّ للألم جوانب إيجابية كثيرة، منها نُضج شخصياتنا، تطور أفكارنا، دافع ومحفز للتغيير، وقاية من ألم أعظم، تصحيح مسار حياتنا، التدريب على الصبر والرجاء. هلّم ننهض من هذه المعصرة ونخرج إلى العالم بأكثر قوة ونكون حاملينومقدمين الرجاء ونعمة التأثير بالرغم من المعاناة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى