هل بُغض الأهل شرط التلمذة للمسيح؟
الهدى 1238 ديسمبر 2021
قال المسيح: «إنْ كان أحد يأتي إليّ ولا يُبْغِض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً. ومَن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً». كلٌّ مِن الآيتَيْن عبارة عن قسمَين، وكلّ قِسم منهما يبدأ بحَرْف النَّفْي «لا». ونَفْي النَّفْي إثْبات، فإذا أرَدْنا صياغَة الجُمْلَة بطَريقة إيْجابِيَّة، حَذَفْنا هذا الحَرْف مِن كِلا القِسْمَيْن، فتُصْبح الجُمْلَة صَحِيْحَة. كأن أقول مَثَلاً: «مَنْ لا يَعْرِف نَغَمَة التَّرْنِيْمَة لا يُرنِّمها». وبحذف حرف لا تكون: «مَنْ يَعْرِف نَغَمَة التَّرْنِيْمَة يُرنِّمها». كذلك نَسْتَطِيْع أنْ نَفْهَم ما قَالَهُ المسيح مِنْ خِلال هَذا الجَدْول:
مَن لا يحمل صليبه ويتْبعني
لا يقدر أن يكون لي تلميذاً
مَن لا يُبْغِض أباه وأمُّه وأخوته
لا يقدر أنْ يكون لي تلميذاً
وبحَذْف حَرف لا مِن الجُملتَيْن المُتقابلتَيْن، يعني أنَّه قال: «إنْ كان أحَد يأتي إليَّ، عليه أنْ يُبْغِضُ أباه وأمَّه وامْرأتَه وأولاده، حتَّى نَفْسَه أيْضاً، ويَكون لي تِلْمِيْذاً!! ومَن يَحْمِل صَلِيْبَه، يَقْدِر أنْ يَكون لي تِلمِيْذاً». فكيف يكون ذلك؟ هل حقاً يقول المسيح إنَّ مَنْ يُريْدُ أنْ يَكون لَهُ تِلْمِيْذاً يَجبْ أنْ يُبغِض؟! وإذا لَمْ يسْتَطِع أنْ يُبْغِض، فلا يُمْكِن أنْ يكون له تِلْمِيْذاً؟! كَيْف يُعَلّم المسيح البُغْض؟ وكَيْف يَضَع البُغْض كشَرْطٍ للتَّلْمَذَة؟ هَذِه كَلِمات عَسِرَة الفَهْم. وتَبْدو مُناقِضَة لتَعالِيْمِه الكثيرة عَن المحَبَّة. فكَيْف يُعَلِّم عن المحبَّة للأعْداء، وفي الوَقْت نَفْسه يُعَلِّم عن البُغْض لأقرب الأقرباء؟
المناسبة
كان يسوع في طَرِيْقِه إلى أورشليم، وهو عَالِمٌ أنَّها المحَطَّة الأخِيْرَة في أيَّام تَجَسُّده «وكان جُموعٌ كَثِيْرَة سائِريْنَ مَعَهُ»، وبَدا وكأنَّهم مُتَحَمِّسون في السَّيْر مَعَه واتّباعِه. فكانَت نَصِيْحَته لهُم هي أنْ يَعْرفوا أولاً شُروط التَّلْمَذَة ويَتأمَّلوا جَيِّداً تَكْلِفَة اتِّباعِه، ويَحْسِبُوا حِساب النَّفَقَة، قَبْل أنْ يُقْبِلوا إلَيْه ويَتْبَعُوه. كان بَعْضهُم يَسِيْرون مَعه حُبَّاً فِيْه وإيْماناً بِه، لكِنَّ الأكْثَرِيَّة كانُوا يَسِيْرون مَعَه لمُجَرَّد السَّيْر مَعَه، أو للانْتِفاع مِنْهُ. وقَدْ اخْتَلَط هؤلاء بأولَئِك، كما هُما مُخْتَلِطان اليَوْم في الكنيسة المَنْظُورَة. أمَّا الذين يُريدون أنْ يكونوا تلامِيْذه بالحَقِيْقَة، فعَلَيْهم أنْ يَحْسِبُوا حساب نَفَقَة السَّيْر في الطَّريْق مَعَه، تِلْك الَّتي جَازها هُو قَبْلَهُم ولأجْلِهِم.
كانوا يتوقَّعون أنْ يقول لهُم: «إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يَأْتي ورائي ويَكون لي تِلْمِيْذاً، فسَوْف يَكون لَهُ الغِنَى الوَفِيْر والكَرامَة العَظِيْمَة، وإنَّني أعِدُ بأنْ أجْعَلَهُ عَظِيْماً». إلاَّ أنَّه قال لهم عَكْس ما توقَّعوا مِنْه، وخاطَبَهُم هَذِه المَرَّة بكُلِّ وضُوح. كان يَجِب أنْ يَكُونوا مُسْتَعِدِّيْن أنْ يَتْركوا النَّفْسَ والنَّفِيْس، ويَأتوا إلَيْه مَفْطومِيْن عَنْ مَحَبَّة العالَم، والذين هُم في العالَم، وعَنْ كُلِّ مَسرَّاتِهِم في البَشَر، حتَّى مِنْ أقْرَب الأقْرَبِيْن، وإلاَّ خَسِرُوا مَسَرَّتهم فِيْه.
شروط التلمذة للمسيح
(1) تَرْك الطَّبيْعَة القَدِيْمَة التي يُولَد عَلَيْها الإنْسان، والدُّخُول في حالَة روحِيَّة جَديْدَة. هَذا ما يُسمَّى في كلمة الله «الميلاد الثَّاني» أو التَّجْديْد. فالتَّلْمَذَة للمسيح هي أنْ تُصْبِح للتِّلميذ طَبيعَة جَديْدَة، فيُنْكِر ذاتَه ويُضَحِّي بعَلاقاتِه التي تُعَطِّله في طَريْق التَّلْمَذَة، ليكون شَخْصاً سَماويَّاً رُوحانِيَّاً مَوْلوداً مِنْ فَوْق.
(2) حَمْل الصَّلِيْب، أي التَّضْحِيَة واحْتِمال التَّوتُّر بَيْن الجاذِبِيَّة الأرْضِيَّة والجاذِبِيَّة السَّماوِيَّة، الاتِّجاه الرَّأسي والاتِّجاه الأُفُقِي (بحَسَب علامَة الصَّلِيْب، تَقاطُع بَيْن اتِّجاهَين رَأسِي وأُفُقِي). فحَمْل الصَّليب هو احْتِمال تلك المُعاناة والصُّعوبات والأحْزان النَّاتِجَة عن ذلِك التَّوتُّر، بَيْن اتِّجاهاتي الأرْضِيَّة واتِّجاهاتي السَّماوِيَّة، وعَلاقَاتِي الأرْضِيَّة وعَلاقَتِي السَّماوِيَّة.
(3) أنْ يُصْبِح الإنْسان تِلْمِيْذاً بكُلّ ما تَحْمِله الكَلِمَة مِنْ مَعْنىً. وكَلِمَة «تِلْمِيْذ» تَفْتَرِض وجُود مُعَلِّم يُعَلِّم وطالِب يتعلَّم ويَمْشي على خُطوات مُعَلّمه، في الفِكْر والقَوْل والفِعْل، ومِِنْهاج يَتِمّ تَعْلِيْمه. والمسِيْح هو المُعَلِّم، وهو المَدْرَسَة، وهو المِنْهاج الذي نتَعلَّمه. هَذه هي التَّلْمَذَة.
أمَّا شروط التلمذة بحسب لوقا ص 14 فهي:
(1) يُبْغِض أهْلَه (ع 26).
(2) يَحْمِل صَلِيْبَه (ع 27).
(3) يَحْسِب حَساب النَّفَقَة، أي تَكْلِفَة إتِّباعِه المسيح (ع 28 – 35).
صعوبة التلمذة
جُموع كَثِيْرَة كانَت تَسِيْر مَع المسيح ووراءَه، عِنْدما الْتَفَت إلَيْهِم وقال لهُم: «مَن يَتْبَعني يَجِبْ أنْ يُبْغِض أهْلَه، ويَحْمِل صَلِيْبَه، ويَحْسِب حساباتِه جَيِّداً. لأنَّ اتِّباعي مُكْلِّف جدَّاً. قَدْ تكون التَّكْلِفَة أنْ يَتْرُك التِّلْمِيْذ، أو يُقَدِّم، أعَزّ ما لَدَيْه. قَدْ يَقِف أمام اخْتيارات صَعْبَة، كالاخْتِيار بَيْن الانْتِماء لي والانْتِماء لأهْلِه». وتَكْمُن الصُّعوبَة هُنا في أمرَيْن: الأول، صُعُوبَةٌ في أنْ يَكُون البُغْض شَرْط التَّلْمَذَة. والثَّاني، صُعوبَةٌ في أنَّ هَذا الشَّرْط يَبْدو مُتناقِضاً مَع تعالِيْم أخْرى واضِحَة عَلَّم بها المسِيْح عَن محَبَّة الأهْل والأقارِب!
فكَيْفَ يُعَلِّم عن البُغْض للأهْل، وهو الذي جَعَلَ وصِيَّة مَحَبَّة القَرِيْب جَوْهَراً وأساساً لكُلِّ النَّاموس والأنْبياء؟ كيف يُعلِّم عن البُغْض للأهْل، وقد وَسَّع مَفْهوم القَرِيْب ليَشْمَل حتَّى الأعْدَاء، بحَسَب مَثَل السَّامِري الصَّالِح؟ كيف يُعلِّم عن البُغْض للأهْل، وهو الذي عَلَّم أنَّ اهْتمام الإنْسان بأهْلِه ضَروري وعَظِيْم، وأنَّ إهْمالِه أهْلَهُ لا يُعَدُّ نُبْلاً ولا مِنْ التَّرْبِيَة والإنْسانِيَّة؟ ألَمْ يَنْقُد اليَهود لأنَّهم كانُوا يُجادِلون حَوْل مُسَاعَدَة الأهْل، عِنْدما قالوا له: «إذا نَذَر إنْسان أنْ يُقَدِّم مَبْلغاً مِن المال لله، واكْتَشَف فِيْما بَعْد أنَّ والِدَيْه في حاجَة لَهُ، فَلَيْس حُرَّاً في تَحْويل ذلك المال مِن الغَرَض الدِّيْني إلى تَلْبِيَة حاجَة الوالِدَيْن» (مرقس 7: 10- 13)؟ ألَمْ يُصادِق المسيح على وَصِيَّة «أكْرِم أباكَ وأمَّكَ لِكَيْ تَطُول أيامُكَ على الأرْض»، وقال إنَّها الوَصِيَّة الوَحِيْدَة المقْرونَة بوَعْد؟ ألَمْ يَكُن هَذَا هُو تَصَرُّفه الشَّخْصي مع أمِّه، فكان نموذَجاً في إكْرام الوَالِدَيْن والاهْتِمام والاعْتِناء بِهِما والطَّاعة لهُما؟ فكَيْف يُعَلّم في هذا النَّصّ عَن البُغْضَ للأهْل؟
كما نَقْرأ في (اتيموثاوس 8:5) «إنْ كانَ أحَدٌ لا يَعْتَني بخَاصَّتِه، ولا سِيَّما أهْلُ بَيْتِه، فَقَدْ أنْكَرَ الإيْمان وهُو شَرٌّ مِنْ غَيْر المؤمِنِيْن». إنَّ فِكْرَة بُغْضِ المَرْء لأقْربائِه تُصِيْبُ مَنْ يَسْمَعها بصَدْمَةٍ. والحَقِيْقَة أنَّ المسيح أرادَ فِعْلاً أنْ تَكون صَدْمَة لسامِعِيْه، ليَشْعُروا بأهَمِّيَّة الانْتِماء إلى مَلَكوت الله وشَرْط إتّباعِه والتَّلْمَذَة له. فكَثِيْراً ما يكون الإيْمان بالمسيح سَبَبَ اخْتلافات بَيْن الأقارِب، فيَضْطَرُّ الإنْسان أنْ يَخْتار بَيْن أنْ يَتْرُكَ أقارِبَهُ ويَتْبَعَ المسيح، وبَيْن أنْ يَتْبَع أقارِبَه ويَتْرُك المسيح. ذلك امْتِحانٌ صَعْبٌ جِدَّاً على الطَّبيْعَة البشَريَّة، لكنَّه يُبَيِّن حَقِيْقة الإيمان بالمسيح والمحبَّة له. فمَا أصْعَب أنْ يَتْرك إنْسانٌ والِدَيْه أو أوْلادَه، لأجْل المسيح. الأمْر الذي عاشَه مُؤمِنُوا الجِيْل الأوَّل المسَيِحْي بصِراعاتِه وتَحدِّياتِه.
البناء النفسي لأتباع المسيح
أشَارَ المسيح هُنا إلى أكْبَر عَقَبَة في طَرِيْق النُّموّ الرُّوحي للمُؤمِنِيْن عامَّةً، وللخُدَّام خاصَّةً، هي ضُعْف المُسْتَويَيْن الرُّوحي والنَّفْسي. ولهَذا الضّعْف ثلاثة أسْباب:
(1) روح التَّبَعِيَّة لشَخْص أو لنِظام.
(2) روح التَّحَزُّب الفِكْري والعَاطِفي. فالضّعْف الفِكْري والعَاطفي للخَادِم يَدْفَعه إلى البَحْث عَنْ شَخْص آخَر يَمْشِي في ظِلِّه، لأنَّ ذلك الأخِيْر يُؤَمِّن لَهُ كِيانَه ووُجودَه، على حِدِّ زَعْمِه. مِمَّا يُؤثِّر على مَوْقِفِه كخَادِم.
(3) عَدَم القُدْرَة على الانْسِلاخ عَنْ أخْلاق وعادات وتَقاليد الأسْرَة. فهُو غَيْر قادِرٍ على التَخَلُّص مِنْ رواسِب آبائِه وأجْداده، فيَدْخُلُ الخِدْمَة ويَجْلِبُ مَعَه تِلْك الجَراثِيْم التي تَظْهَر عَلَيْه أثْناء تَأْدِيه خِدْمَته: في طَريْقَة تَفْكِيْره عِنْدما يَتباهَى بأصْل أسْرَتِه وَحَسَبه ونَسَبه ولَقَبِه وعِلْمه. وفي روح التَّسَلُّط وإصْدار الأوامِر في مُعامَلَتِه مَع المَخْدومِيْن.
إنَّ انْتماء الخادِم الشَّديد لأسْرَته يُؤثِّر سَلْباً على خِدْمَتِه. فلْنَنْتَبِه، إنَّ أحَدَ أهَمّ شَرُوط التَّلْمَذَة للمَسِيْح يُوجِب عَلَيْنا اكْتِشاف ومَعْرِفَة أخْطائنا الشَّخْصِيَّة، ومَعْرِفَة ما إذا كان مَصْدَرها عائِليَّاً. فإنْ كان كَذَلِك، عَلَيْه أنْ «يُبْغِض» أهْلَه. لأنَّ مَنْ يُرِيْد أنْ يَتَعَلَّم كَيْفَ يُحِبّ يَجِب أنْ يَتَعَلَّم أولاً كَيْفَ يُبْغِض! هَذا هُو الشَّرْط الذي وَضَعَهُ المسيح لمَنْ يُريْد أنْ يَكون لَهُ تِلْمِيْذاً وخادِماً. فكيف يكون ذلك عمليَّاً؟
تَعلَّم كَيْفَ تُبْغِض لتَعْرِف كَيْف تُحِبّ
إنَّ كلمة «يُبْغِض» هنا لا تَعْني يَكْره أو يُعادي أو يَحْقد، بَلْ تَعْني مَحَبَّة أقَلّ. كما في قَوْل الرَّبِّ: «أحْبَبْتُ يَعْقوب وأبْغَضْتُ عِيْسو»، فالرَّبُّ لا يُبْغِض أحَداً، ولَمْ يُبْغِض عِيْسُو كشَخْصٍ. لكِنَّ الكَلِمَة عِنْدما نُسِبَت لعِيْسُو فإنَّها تَعْني يُحَبّه مَحَبَّةً أقَلّ مِنْ مَحَبَّتِه ليَعْقوب. هذا ما يَظْهَر في النَّصّ الموازي (متى 10: 37) «مَنْ أحَبَّ أباً أوْ أمَّاً أكْثَرَ مِنّي فلا يَسْتَحِقّني، ومَنْ أحَبَّ ابْنا أو ابْنَة أكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقّني». فما قَصَده لوقا بكَلِمَة «يُبْغِض» تَرْجَمَه متَّى بالتَّعبير: «يُحِبّ أقَلّ».
إذاً، ما كان يُعَلِّمه المسيح هو أنَّ مَحَبَّة تلامِيذه لَهُ يَجِب أنْ تَتَقَوَّى حتَّى تَصِل إلى دَرَجَةٍ تُحْسَب فِيْها أيَّة مَحَبَّة أخْرَى، حتَّى لأعَزِّ النَّاس وأقْرَبَهُم، كأنَّها بُغْضٌ. إنّ بَعْضاً مِنْ تلامِيْذ يسوع كانُوا عائلِيْنَ لوالِدَيْهم وقَد تَركوهُم ليَتْبَعوا يسُوع، فقال لهم: «لَيْس أحَدٌ قَدْ تَرَكَ بَيْتاً أو إخْوَة أو أخَوات أو أبَاً أو أمَّاً أو امْرَأةً أو أوْلاداً أو حُقُولاً لأجْلي ولأجْل الإنْجِيْل، إلاَّ ويأخُذَ مِئْةَ ضِعْفٍ..» (مرقس 10: 28 -30)، لأنَّ مَحَبَّتهم لَهُ كانَت أكْبَر وأعْظَم. فبُطرس مَثَلاً تَرَك عائِلَتَه وزَوْجَتَه حوالي 25 سَنَة، وبَعْد هَذه المدَّة، انْضَمَّت زَوْجَتَه إلَيْه في الخِدْمَة. والتَّرْك هُنا لَيْس انْفِصالاً، بَلْ فِطَاماً عَنْ أولئك الأقرباء الأعزَّاء، وهن تلك الأشياء الغالية.
إذاً، فكَلِمَة «يُبْغِض» هُنا تَعْني أنْ يَكون الانْتماء للمَسِيْح هو الأقْوَى والأكْبَر، وأنْ تُعْطَى الأوْلويَّة لإتِّباعه وَحْده. هَذا ما يُوضِّحه أيْضاً ذِكْر البُغْض للنَّفْس مَع بُغْض الأقْرباء. فمَاذا يَعْني بُغْض النَّفْس «حتَّى نَفْسَهُ أيْضاً»؟ إنّ الإنْسان في حاجَة للحُبِّ دائماً. لكِنَّك عِنْدما تُحِبّ الآخَرين ليُحِبُّوكَ وتُصْبح وَحْدَك مَرْكَز تلك المحَبَّة، فإنَّ ذَلِك يَعْني أنَّكَ أنانيّ وغَيْر مُحِبٍّ، لأنَّك تَحْصُر مَنافِع المحَبَّة في شَخْصِك. لِذَلِك، عَلَّم المسيح أنَّ شَرْط التَّلْمَذَة هُو بُغْض النَّفْس أيضاً. الأمر الذي يَسْتَوْجِب مِنْكَ أنَّك عِنْدما تُحِبّ شَخْصاً يَجِب أنْ تُحِبَّه لشَخْصِه ولحِسابِه ولمَصْلَحَتِه هُوَ، ولَيْس لمَنْفَعَتِكَ ومَصْلَحَتِكَ أنْتَ.. هَذا ما أسْماه المسِيْح بُغْض النَّفْس.
أمَّا قَوْله «أعْداء الإنْسان أهْلُ بَيْتِه» فهو لَيْسَ تَحْرِيْضاً لكَراهِيَة الأهْل، بَلْ كان يُوجِّه كلامه إلى الشَّخْص المُنْساق مع عَواطِفِه البَشَريَّة، ذلك الذي يَنْحاز إلى صِلَة الَّلحْم والدَّم. كما كان يُعَلِّم كَيْف تَتَهَذَّب النَّفْس البَشَريَّة، بِحَيْثُ تَتَوَجَّه العَواطِف الإنْسانِيَّة إلى الله أوَلاً ثُمَّ للأهْل.
فَمَن يُريد أنْ يَكون تِلْمِيْذاً للمَسِيْح، يَجِب أنْ يَتَعَلَّم كَيْفَ يُبْغِض. إنِّ فِعْل البُغْض هُنا لا يَقَعُ على الأهْل في أنْفُسِهِم مُباشَرَةً، بَلْ يَقَعُ عَلَيْهِم في أنْفُسِنا نَحْنُ. يَجِبُ أنْ أتَحَكَّم في عَواطِفِي ومَشاعِري تُجاهَ أهْلي، فَلا أنْحازُ إلَيْهِم، وأحْرِم نَفْسي مِنْ التَّلَذُّذ والاسْتِغْراق في مَحَبَّتِهم، لأنَّ الاسْتِرْسال في مِثْلِ تِلْكَ المشَاعِر يُبْعِدُني ويُنْسِيْني مَحبَّتي لإلَهِي. إنَّ أهْلَنا يَمْتَلِكون عَواطِفَنا ويَتَسَلَّطون عَلَيْها بحُكْم صِلَة الدَّم، مِنْ دُون إرادَتِنا ودُون أنْ نَشْعُر بذلك. فنُصْبِح أسْرَى أخْلاقيَّاتِهِم وعاداتِهِم وأحْلامِهِم ومَخاوِفِهِم.
لذَلِكَ، يَدْعونا المسِيْح أنْ نَقِف ونَتأمَّل ونَفْحَص أنْفُسَنا ونَتَعَرَّف على ضُعْفنا، فَلَنْ نَعْرف كَيْفَ نُحِبّ مَحبَّة حَقِيْقِيَّة صادِقَة، ما لَمْ نَتَعَلَّم أولاً كَيْف نُبْغِض هَذَا النَّوع مِنَ التَّعَلُّق بالأهْل والانْحِياز لهُم، وليس لأشْخاصِهِم. هَذا البُغْض هو في حقيقته مَشاعِرَ طاهِرَة ومُطَهِّرَة وإيْجابِيَّة. تُطَهِّرُ النَّفْسَ مِن تلك الدَّوافِع الخاطِئَة والميول غَيْر المَوْضوعِيَّة. فمَن يُحِبُّ أهْلَه أكْثَر مِنْ المسِيْح، أو يُحِبُ نَفْسَه أكْثَر مِنَ المسِيْح، غَيْرُ جَدِيْرٍ بحُبِّ المسِيْح وإتِّباعِه. لذلك، فإنَّ البُغْضَ الذي يتَحَدَّث عَنْه المسِيْح هُنا هُو العِلاجُ الفَعَّال الذي يُدَاوي الذَّات التي تَتَغَذَّى على الأنانِيَّة.
المحبة مع البُغض صليبٌ مُؤلم
كان الرُّومانيُّون يُلْزِمون المَحْكُوم عَلَيْه بالصَّلْب أنْ يَحْمِل صَلِيْبَه ويَسِيْر بِه في الشَّوارع، حتَّى يَصِل إلى المَكان الذي سيُصْلَبَ فِيْه. فَصار حَمْل الصَّلِيْب كِنايَةً عَنْ حَمْل الخِزْي والعَار والآلام عَلَناً. هَذا ما كان يَعْنِيْه المسِيح: «كُلّ تِلْمِيْذٍ يَسِيْرُ ورَائي يَجِبْ أنْ يَحْمِل صَلِيْبَه، ويَتَحَمَّل العَار والآلام إكْراماً لِي» (ع 27). هَذا هُو الصِّراع الذي يَحْمِله ويَتَحَمَّله كُلّ تِلْمِيذ في قَلْبِه، صِراعٌ وتَوتُّر بَيْنَ حَرَكَتَيْن مُتَضادتَيْن: حَرَكَةٌ رأسِيَّةٌ، وأخْرى أفُقِيَّة، تُشَكِّلان مَعاً صَلِيْباً يَحْمِله تِلْميذ يسُوع. فعِنْدما تُحِبّ الرَّبَّ أكْثَر مِنْ أهْلك، سوف تَسْكُن مَحَبَّته في قَلْبِك وتَبْدأ عَمَلَها، فتُحِبّ الآخَريْن محَبَّة صادِقَة مُؤسَّسَة على محَبَّة المسِيْح، وتكون مَحَبَّة «في الرَّبِّ».. فالصِّراع قائِمٌ دائماً بَيْن محَبَّة المسِيْح وخِدْمَته، مِنْ جِهَة، وطُغْيان حَنان الَّلحْم والدَّم، مِنْ جِهَة أخْرَى، فيَتَشَكَّل الصَّلِيْب الذي يَنْبَغي حَمْلَه.
فكُلُّ تِلْمِيْذ للمَسِيْح يَجِب أنْ يُحِبّ أقْرباءه، ولكِنْ يَجِب أنْ يُحِبّهم محَبَّة نِسْبِيَّة، أقَلّ مِنْ محَبَّته للمسيح، حتَّى يكُون تِلْمِيذاً حقيقياً للمسيح. هذا ما فَعَله الشُّهَداء الذين قال عنهم يوحنا الرَّائي: «لَمْ يُحِبُّوا حياتَهُم حتَّى المَوْت» (رؤيا 12: 11). فعِنْدَما تتعارَض واجِباتُنا نَحْوَ والِدَيْنا مع واجِباتِنا نَحْوَ المسِيْح، يَجِبُ أنْ تُعْطَى الأفْضَلِيَّة للمَسِيْح، فنُفَضِّل أنْ نَتْرُكَهُم عَنْ أنْ نَتْرُك المسِيْح، لأنَّه ينبغي أن يُطاعَ الله أكثر مِن النَّاس.
يا لَيْتَنا نَنْتَبِه، فقَد نَكونُ مِنْ أتْباع المسِيْح دُونَ أنْ نكون مِنْ تَلامِيْذه. قيل لأحَدِ أساتِذَة الجامِعَة العُظَماء: «أيُّها المُعَلِّم العَظِيْم، أخْبَرَنا فُلانٌ أنَّه مِنْ تلامِيْذِكَ». فأجابَ: «رُبَّما كان يَحْضُر بَعْضَ مُحاضَراتي، لكِنَّه لَيْس مِنْ تلامِيْذي». هَذا هُوَ الفارِق الكَبِيْر بَيْنَ مَنْ يَحْضُرون الكنيسَة ويَتردَّدون عَلَيْها، وبَيْنَ الذين يَتْبَعُون المسِيْح بحَسَب تِلْك الشًّروط التي وَضَعَها.