الإصلاح الإنجيليقضايا وملفات

31 أكتوبر 1517

الهدى 1237                                                                                                                               نوفمبر 2021

التاريخ الذي وضعته عنوانًا لمقالي لم يكن تاريخًا عاديًا في تاريخ البشرية ولكنه كان يومًا فاصلًا وحاسمًا في تاريخ أوروبا والعالم، ففي هذا اليوم التاريخي قام الراهب الألماني «مارتن لوثر» (١٠ نوفمبر ١٤٨٣ – ١٨ فبراير ١٥٤٦)، بكتابة احتجاجاته ضد كنيسة العصور المظلمة والتي تضمنت خمسة وتسعين قضية وعلقها على باب كنيسة وتنبرج في ألمانيا، وعن هذا الفعل قال أحد المؤرخين: «راحت ترددات صوت مطرقة لوثر وهو يدق اللائحة في باب الكنيسة تهدر كالرعد، موقظة أوروبا من سباتها الروحي فانتشر إنجيل الإصلاح فيها ومنها إلى كل أنحاء العالم».
وما دفع لوثر للقيام بثورته هو الابتعاد عن التعاليم النقية والمبادئ السامية التي جاء بها السيد المسيح، فانتشر الشر، وساد الفساد المالي والأخلاقي لبعض قادة الكنيسة في القرون الوسطى، وكذلك بقيام عدد من رجال الدين بببع صكوك الغفران بغية جمع الأموال، وانتشار محاكم التفتيش ومحاكمة الآلاف ممن اعتبرهم قادة الكنيسة آنذاك من الهراطقة، وكذلك لوقوف باباوات ذلك العصر بمحاربة العلم والعلماء ومحاكمة جيوردانو برونو ونيقولا كوبرنيكوس وجاليليو وغيرهم، وأيضًا لاحتكار رجال الدين لأنفسهم حق فهم وتفسير الكتاب المقدس وعدم سماحهم بترجمته من اللغة اللاتينية إلى اللغات التي يتقنها عامة الناس حتى لا يفهموا الوصايا الإلهية ويظلوا تابعين لرجال الدين دون فهم ودون حوار أو نقاش .
والفترة التي ظهرت فيها حركة الإصلاح الديني في أوروبا (القرنان الخامس عشر، والسادس عشر)، تعتبر هي الفترة الانتقالية للفكر الديني الغربي من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وهذه الفترة كان لها الأثر الكبير في الحياة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، وهذه المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي هي التي دعمت تطور الديمقراطية، والعلاقة بين الدين والسياسة.
فقبل ظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، كان الإنسان خاضعًا لسلطة الكنيسة خضوعًا تامًا، فتمكن الإصلاح الديني من تحريره بصورة كبيرة من السيطرة المزدوجة للكنيسة، ورجال الحكم المدني، وحقق له كسبًا في كثير من الميادين، كان أبرزها: الحرية، والفردية، بوصفهما مقدمتين ضروريتين للديمقراطية التي حملها وبشر بها العصر الحديث، فلقد أطلقت حرية العبادة، وأضحت تتسم بطابع فردي يتمثل في جعل العلاقة مباشرة بين الإنسان وربه، وأصبحت سلطة الضمير الفردية تحل محل سلطة الكنيسة والبابا، وجُعل الدين أمرًا شخصيًا، وخاضعًا لضوابط أخلاقية محددة، والدعوة إلى قيام علاقة متوازية بين الحاكم والمحكوم، وعلاقة الفرد بالدولة، لقد أحدث الإصلاح الديني نقلة حقيقية في حياة الفرد والمجتمع من حالة الهيمنة الكنسية باسم الدين، إلى حالة تحرير الفرد نسبيًا من تلك الهيمنة، وإعادة الاعتبار إلى الإنسان بوصفه كائنًا إنسانيًا وروحيًا ينبغي أن يكون حرًا من الناحية العقائدية والروحية، ولا يخضع لسلطة أحد إلا الله، ولا لمراقبة أحد إلا الضمير، فقد جنحت المجتمعات الأوربية الحديثة إلى الفصل بين الدين والنظم السياسية، ومجالات الحياة المختلفة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأخلاق، فأصبحت السلطة الوحيدة هي سلطة الإنسان العاقل، وليست سلطة الدين ومؤسساته الروحية، فأصبح الإنسان مركزًا للكون بلا منازع.
والمبادئ الأساسية التي قام عليها الإصلاح الإنجيلي، هي التي «مهدت لترسيخ الديموقراطية والمساواة بين الناس، وكانت العامل الأول في ازدهار مبادئ الحرية الدينية، فمنذ أن قال نبلاء الإنجيليين عبارتهم المشهورة:» we protest « وهي قد تعني إننا نشهد أو إننا نحتج على الظلم، وعلى وضع القوانين الجائرة التي تعيق تقدم الفكر، ومنذ ذلك الوقت ظهرت كلمة «البروتستانتية»، التي ترمز إلى القيادة والريادة في المناداة بحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد، هذه الحرية التي فتحت أمام العالم باب الحضارة والتقدم في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية، وأصبحت الحرية منذ ذلك الحين حقًا أساسيًا تكفله دساتير العالم المتحضر، الحرية التي هي حق لكل إنسان سواء كان ضمن الأغلبية أو الأقلية بغض النظر عن دينه، وانتهى زمن المحرمات الثقافية التي تعيق حرية الإبداع، وبدأ عصر الإصلاحات الدينية.
ويتفق المؤرخون على أن البلدان ذات الأكثرية الإنجيلية سبقت غيرها في إنشاء المؤسسات الديموقراطية، ونشر روح المساواة بين المواطنين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، فما كادت البروتستانتية تظهر إلى حيز الوجود حتى ابتدأت أفكار الناس تتجه إلى الحرية والديمقراطية، حتى إن أحد المفكرين المشهورين ويدعى «ماكس فيبر» قال: «إن التطورات العظيمة التي طرأت على تفكير العالم سياسيًا واقتصاديًا، كانت نتيجة لما قدمه لوثر وكالفن من فكر، وكتب المؤرخ الشهير والكاتب الإنجليزي العظيم «ماكولي» عن أثر البروتستانتية في القرون السادس عشر إلى التاسع عشر فقال:» كانت أجمل وأخصب مقاطعات أوروبا وهي تحت حكم الكنيسة قبل الإصلاح غارقة في الفقر، والرق السياسي، والسُبات العقلي، وقد تحولت البلدان البروتستانتية التي كانت يومًا مًا مثالًا صارخًا للقحط والبربرية، إلى حدائق غَنَاء بفضل نشاط ومهارة أبناء الكنيسة المصلحة، وصار من بين سكانها النخبة الممتازة من الفلاسفة والشعراء وأبطال السياسة».
وجدير بالذكر أن حركة الإصلاح الإنجيلي كانت مواكبة للتقدم العلمي، وجاء عبء التقدم العلمي وتشجيعه لقرون على عاتق الإنجيليين، ففي الوقت الذي تم فيه كتم أنفاس جاليليو، كان العالِم الكبير «كبلر» صديق جاليليو وشريكه في البحث العلمي، يعيش في جو الحركة الإنجيلية، وبذلك فإنها حقيقة ثابتة إن الإنجيليين هم الذين احتضنوا التقدم العلمي لقرون، كما أنهم هم الذين قدموا للعالم الكتاب المقدس بمختلف لغاته ولهجاته مع جوانب أخرى كثيرة.
والسؤال: هل يحتاج الشرق الغارق في الماضوية والسابح في الدماء إلى إصلاح ديني مماثل؟!!

القس رفعت فكري

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونية بالكنيسة الإنجيلية بمصر الأمين العام المشارك بمجلس كنائس الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى