الخطية التي لا تغتفر
الهدى 1238 ديسمبر 2021
هل يعقل أن غافر خطايا العالم، الذي غفر لصالبيه خطيّة صلبه، أن يقول، «كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ؟ (متى 12 :31). ماذا قصد المسيح بقوله الصادم هذا، بأنَّ خطيّة التجديف على الروح القدس لا تُغْتَفَر؟
كيما نفهم قول المسيح هذا، يجب علينا أن نحلّل المفاهيم والكلمات الواردة في قوله هذا، وأولها كلمة «تجديف». ماذا يعني التجديف؟ تعني كلمة «تجديف»، باللغة اليونانيّة: «محاولة إهانة الله، وعدم احترامه، والتكلّم عنه بالشّر». استخدم معنى الكلمة في نصوص أخرى من الكتاب المقدس. يذكر كاتب المزمور الرابع والسبعين، أن بعض الجهّال جدّفوا أو «أهانوا» الله. يذكر النص: «اُذْكُرْ هَذَا: أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ عَيَّرَ الرَّبَّ وَشَعْباً جَاهِلاً قَدْ أَهَانَ اسْمَكَ.» (مزمور 74: 18). رأى النبي إشعياء بعض المتسلّطين يجدفون على الله و»يهينون اسمه كل يوم. يذكر النص، «الْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِ يَصِيحُونَ يَقُولُ الرَّبُّ وَدَائِماً كُلَّ يَوْمٍ اسْمِي يُهَانُ.» (إشعياء 52: 5). وضعت شريعة التثنيّة، عقابًا قاسيًا بحق المجدّفين على اسم الربّ، هو الموت. تذكر الشريعة، «وَمَنْ جَدَّفَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. يَرْجُمُهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ رَجْماً. الْغَرِيبُ كَالْوَطَنِيِّ عِنْدَمَا يُجَدِّفُ عَلَى الاسْمِ يُقْتَلُ» (لاويين 24: 16). إلاّ أنّه بالرغم من سوء خطيّة التجديف، يقول المسيح بأنَّ «هذه الخطيّة تغتفر». «لذلك أقول لكم، كلّ خطيّة وتجديف يغفر للناس». إذن، ما هي هذه الخطيّة التي لا تُغْتَفَر؟ هل هي خطيّة الموت التي تحدّث عنها الرسول يوحنا في رسالته الاولى، عندما ميّز بين نوعين من الخطايا؟ «إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ، يَطْلُبُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئُونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ.» (1يوحنا 5: 16).
صنّفت الكنيسة الكاثوليكيّة الخطايا إلى صنفين: الصنف الاول هي الخطايا الأقل خطورة، لأنها لا تقود إلى انفصال المؤمن انفصالًا كاملًا عن الله. والصنف الثاني، هي الخطايا المميتة وعددها سبعة، هي: الغضب. الطمع. اللامبالاة. الكبرياء. الشهوة. الشراهة. وأيضًا خطيّة الحسد، التي اعتبرتها من ضمن الخطايا المميتة. وفي تعريفها للخطيّة المميتة، تذكر تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، أن الخطيّة تكون مميتة عندما تقوم بما يلي: تهاجم القيمة الجوهريّة في الحياة التي هي المحبة، وتدمّر تدريجيًا حياة النعمة الداخليّة، وتولّد بل تقود الإنسان إلى اقتراف خطايا أخرى. وبالتالي، فالخطيّة المميتة تهدّد الإنسان بالموت الأبدي. إلاّ أنّ الإنجيليين لا يقومون بتصنيف الخطايا إلى أصناف، اذ أنهم يؤمنون أن كل أنواع الخطايا تعيق علاقتنا بالله وتؤدي بنا إلى الهلاك. بالرغم من خطورة الخطايا السبعة المميتة، بحسب التصنيف الكاثوليكي، فإننا نؤمن، أنه إذا ما تاب الإنسان ورجع إلى الرب معترفًا بخطاياه، فإنها تغتفر، لأنَّ المسيح قال: «كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ» (متى 12: 31). أيضًا، تحدث الرسول بولس، عن خطايا تحزن الروح القدس. قال « وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ.» (أفسس 4: 30). ثمّ عدّد ما هي تلك الخطايا التي تحزن الروح القدس، بقوله: «لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ.» (أفسس 4: 31). فهذه الخطايا تجعل الروح القدس حزينًا. لكن عندما يدرك، الإنسان المؤمن إنها تسبب الحزن لروح الله، يعترف بها ويتوب، فيغفرها الله له.
إذن، ما هي خطيّة التجديف على الروح القدس التي لا تغتفر؟ حتّى نفهم ما هي هذه الخطيّة، لا بدّ لنا أن نتعرّف على طبيعة عمل الروح القدس. من الأدوار الرئيسيّة التي يلعبها الروح القدس، دور التبّكيت. يقول المسيح، «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي.» (يوحنا 16: 8). التبكيت، يعني: الإدانة، والتأنيب. من هذا المنطلق، نستطيع أن نفهم ماذا قصد المسيح في قوله: «وأما التجديف على الروح القدس فلن يغفر للناس». إن الفكرة الأساسيّة، من وراء خطيّة التجديف على الروح القدس، تكمن في موقفنا من الروح القدس. قال كاتب العبرانيين: «لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ. فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ.» (عبرانيين 3: 7-8). فقساوة القلب ضد الروح القدس، وعدم سماع صوته، هو السبب الأول والأخير، لخطيّة التجديف على الروح القدس. فإذا ما أدرنا ظهرنا إلى عمل الروح القدس في حياتنا، ولم نعد نسمح له بأن يعمل فينا، ويبكّتنا ويديننا عندما نخطئ، فإننا لن نقدر أن نختبر قوته في حياتنا. ونتيجة ذلك، أننا بإرادتنا نوقف عمل الله، لأننا نكون قد وصلنا إلى نقطة حاسمة، لم نعد فيها قادرين على التجاوب مع تأثير الروح القدس، فنبني سدًا منيعًا فاصلاً بيننا وبينه، كما قال النبي إشعياء: «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ». إن طريقة تجاوبنا مع الخطيّة هو الذي يحدّد مصيرنا الأبدي. المطلوب منا أن نكره خطايانا، ونذرف الدموع ندمًا عندما نقترفها، كما فعل الرسول بطرس، إذ أنه عندما أنكر المسيح بكى بكاءً مرًّا. إن وصول الإنسان إلى هذه المرحلة من قساوة القلب، التي يصبح فيها غير قادر على التوبة، قد اختبرها عيسو، الذي باع بكوريته إلى أخيه يعقوب، من أجل أكلة واحدة (طبخة عدس). يصف كاتب العبرانيين قساوة قلب عيسو قائلًا: «فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضاً بَعْدَ ذَلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ الْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ». (عبرانيين 12: 16-17). النقطة هنا، ليس أن عيسو أراد أن يتوب، الله لم يسمح له، ولم يقبل توبته ويغفر له، لأنّ الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. لكن مشكلة عيسو أنه وصل إلى مرحلة من: قساوة القلب، ونسيان الله، والتعلّق بالعالم، والاصرار على محبته، الأمر الذي ظهر في موقفه في بيع بكوريته، إلى حدّ أنه لم يعد قادرًا أن يجد في قلبه مكانًا للتوبة الحقيقيّة. فدموعه التي ذرفها، كما يذكر العبرانيون، لم تكن دموع التوبة، لكن دموع الندم لأنه لم يستطع أن يتوب.
في رسالته إلى العبرانيين، يتحدّث الكاتب عن بعض الناس، الذي أصّروا على الاستمرار في الخطيّة ورفض التوبة، فوصفهم قائلًا: «فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟» (عبرانيين 10: 29). فهذا الاصرار على التعلّق بالخطيّة، اعتبره كاتب العبرانيين على أنه بمثابة دوس ابن الله، وتدنيس لدم العهد المقدس، وازدراء لروح النعمة.
في هذا السياق بالتحديد، صرنا مهيّئين لفهم قول المسيح الصادم بأنّ خطيّة التجديف على الروح القدس لن تغفر للناس. أضف إلى ذلك، أن معرفتنا للحدث لذي سبق إطلاق المسيح لتلك العبارة يجعلنا نفهم بدقة ما قصده المسيح بقوله. فالحدث هو شفاء المسيح لإنسان، «مجنون أعمى أخرس»، بإخراج شياطين منه وشفائه. (متى12: 22-27) هذا الحدث أبهت الجموع، فتساءل البعض، ألعل هذا هو ابن داود؟ لكنّ تعجّب الجموع من ظهور قوّة وقدرة ونعمة الله في عمل المسيح العجائبي، أزعج الفريسيين المتواجدين، الذين أرادوا أن يحجبوا أنظار الشعب، عن إمكانيّة التفكير والسؤال إن كان المسيح هو ابن داود. لهذا، فإنهم أشاعوا بأن المعجزة التي قام بها المسيح من شفاء، لم تكن بقدرة الله، بل بقوّة بعلزبول رئيس الشياطين. قالوا: ««هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ». (متى 12: 24). وبالتالي، بموقفهم هذا، أصرّوا على الاستمرار في رفض الاعتراف بقدرة المسيح. رفضوا أن يعترفوا بما رأت عيونهم من آيّة عظيمة، أشارت إلى عظمة شخص المسيح ابن داود، الذي لم يكن همّه إلاّ شفاء الناس روحيًا وجسديًا. رفضوا وأصرّوا على رفض التوبة، بل أكثر من ذلك، حاولوا أن يمنعوا الناس من رؤيّة مجد الله في المسيح، من خلال اشاعة خبر أنه ببعلزبول أخرج الشياطين. وكلمة «بعلزبول»، تعني «الأمير بعل»، وكلمة «بعل» هي أحد أسماء إله وثني قديم. ساد تفكير قديم بين اليهود، بأن الآلهة الوثنيّة كانت شياطين مقنّعة، فسمّوا المسيح بأمير الشياطين. ان موقف الفريسيين الجاحد هذا، المتمثّل برفض الاعتراف بقدرة الله، ورفض الايمان بالمسيح. أضف إلى اعلانهم، أن ما قام به المسيح، لم يكن بقوة الله، بل بقوة الشياطين. وبالتالي، فان كل ما بدر منهم، هو بمثابة خطيّة التجديف على الروح القدس، الخطيّة التي لا تُغتفر. فسّر القديس أوغسطينوس، خطيّة التجديف على الروح القدس، بقوله، «انها الاصرار على الخطيّة، التي تؤدي، إلى الموت في حالة الخطيئة». ان خطيّة التجديف على الروح القدس، تعني مقاومة الروح القدس كما قال بطرس: «يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ أَنْتُمْ دَائِماً تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذَلِكَ أَنْتُمْ» (أعمال الرسل 7: 51). خطيّة التجديف على الروح القدس، تعني الالتصاق بالخطيّة باستمرار، والتصميم الارادي والفكري على الاستمرار في الخطيّة. خطيّة التجديف على الروح القدس، هو الفشل في التوبة ورفض الانضمام إلى عائلة المسيح.