دراساتدراسات كتابيةمقالات

علامات أساسية في الحياة المسيحية (1)

الاتزان مقابل الاختلال

الهدى 1218                                                                                                                                   فبراير 2020

الاتزان، تحمل الكلمة معنى: «الحصافة، الحلم، الحكمة، الوقار، الرزانة، المهابة، الاعتدال». وهي عكس: «التسرع، الرعونة، الجهالة، الطيش، الاختلال». وتأتي من (ميزان)، والمعنى التوافق والتعادل بين كفتين/ جانبين أو أكثر. أما ما نعنيه هنا بالتوازن فهو التوافق بين جوانب تبدو متعاكسة ومتعارضة فيما بينها، فلا يتفوق جانب على حساب الأخر.
ويعرف علماء النفس الشخصية المتزنة بأنها الحالة التي تتعادل فيها الميول، بحيث لا يغلب أحدها على الأخر، مثل ثبات حركة راكب الدراجة. وعليه، فالإنسان المتزن ليس هو الشخص الهادئ الصامت، أو صاحب الحلول الوسطية، لكنه الشخص «المتكامل». وهي الكلمة التي استخدمها بولس عن الشخصية المتوازنة «لِيَكُوْنَ إنْسَانُ اللهِ كَامِلاً (مُتَكَامِلاً/ مُتَوَازِناً) مُتَأهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تيموثاوس 3: 17)، «لتُحْفَظ رُوْحكُم ونَفْسكُم وجَسَدُكم كَامِلَة (مُتَكَامِلَة/ مُتَوَازِنَة) بِلا لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنا يَسُوعَ المسِيْح» (1تسالونيكي 5: 23). وهُوَ مَا قَصَدَهُ المسيح في قَوْلِه: «كُوْنُوا أنْتُمْ كَامِلِيْنَ» (متى 5: 48)، أي متكاملين متوازنين متزنين.
الشخصية المتزنة
إذن الشخص المتزن هو الذي يهتم بتنمية جوانب حياته الأساسية على حد سواء (الروحية، النفسية، الجسدية). أما المتطرف/ المختل، فإنه يهتم بجانب واحد منها، بينما يهمل الجانبين الأخرين. أما أكثرنا فيميل إلى تغليب جانب على حساب أخر في المقابل، حين يسعى ليتفوق في جانب واحد. المتزن يجمع ويوازن في شخصيته بين: {الروحي والجسدي، الديني والدنيوي، الخيالي والواقعي، الفكري والفعلي، النظري والعملي، العقلي والعاطفي.. الحكمة والبساطة، الحب والحزم، الرحمة والعدل، الطيبة والقوة، العبادة والخدمة}. أحيانًا نقول (فلان شخص عقلاني) ونقصد بذلك أنه يميل دائمًا إلى التفكير العقلاني، وهذا هو التطرف. أما الاتزان فيعني التعادل بين الصفتين، العقل والعاطفة.
والله يريدنا أن نكون شخصيات متزنة، توازن بين احتياجات وتقدم الروح والنفس والجسد، وما يتعلق بكل منها، كما علم بولس عن ذلك الكمال (1تسالونيكي 5: 23). الأمر الذي نراه بوضوح في شخصية المسيح {الشخصية المتزنة النموذجية}، فيقول عنه لوقا إنه «كَانَ يَتَقَدَّمُ في الحِكْمَةِ، والقَامَةِ، والنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ والنَّاسِ» (لوقا 2: 52)، أي أنه كان ينمو نموًا كاملًا متكاملًا متوازنًا، فكان (من حيث إنسانيته) ينمو فكريًا في الحكمة، وجسديًا في القامة، وروحيًا في النعمة.
مجالات التوازن
(1) بين الحكمة والبساطة
شبه المسيح تلاميذه وهم في العالم بأغنام وسط ذئاب. والعداوة دائمة ومخيفة وغير متعادلة بين الخروف والذئب. الأمر الذي يتطلب منهم أن يجمعوا بتوازن بين حكمة الحيات وبساطة الحمام. فالمفارقة الكبيرة جدًا بين الأغنام والذئاب، يقابلها مفارقة كبيرة أيضًا بين الحمام والحيات. أما حكمة الحية فتنصب في شدة دفاعها عن نفسها وحرصها من الأخطار المحيطة بها. فالمسيح يقول لتلاميذه هنا: {كونوا حكماء في مواجهة الصعوبات والمخاطر}. أما بساطة الحمام فتنصب في أنه طائر وديع لا يؤذي أحدًا ولا يهاجم أبدًا، حتى في دفاعه عن نفسه لا يؤذي إطلاقًا. كما أنه رمز للإخلاص والوفاء والسلام. وقد اتخذ الروح القدس الحمامة رمزًا له عند حلوله على المسيح وقت معموديته. فالمسيح يقول لتلاميذه {كونوا بسطاء، فلا تقابلوا الإساءة بمثلها، ولا تهاجموا أحدا. بل كونوا أوفياء مخلصين}. فكن مخلصا بحرص، وكن حريصا بإخلاص. اغفر للمسيئين إليك، لكن لا تنس أسماءهم. كما أن البساطة تعني وحدة الاتجاه والهدف. فالعين البسيطة هي التي تنظر في اتجاه واحد، أما العين المركبة فتنظر في عدة اتجاهات.
عند أهل العالم كثيرًا ما تتغلب الحكمة على البساطة، وعند أبناء الملكوت كثيرًا ما تتغلب البساطة على الحكمة. أما المسيح فيريد أن يوازن تلاميذه بين الحكمة والبساطة. فحذرهم بذلك من الحكمة العمياء ومن البساطة الحمقاء.
الشخص البسيط ليس هو الساذج الذي يمكن أن يقتنع بأي شيء يسمعه. بل البساطة هي عدم التعقيد، وعدم تصديق كل شيء من دون فحص. صحيح أن المحبة الحقيقية «تصدق كل شيء» (1كورنثوس 13: 7)، لكنه يقول أيضا: «لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله.. امتحنوا كل شيء، تمسكوا بالحسن» (1يوحنا 4: 1/ 1تسالونيكي 5: 21). فالإنسان البسيط في المفهوم الشائع الخاطئ فريسة للانخداع والانقياد، وليست هذه هي البساطة التي يدعونا إليها المسيح، بل المتوازنة مع الحكمة.
(2) بين الحب والحزم
كثيرًا ما نظن أن الشخص المحب الطيب هو المتهاون في حقوقه وحقوق غيره، ولا يستطيع اتخاذ المواقف الحازمة، وكأن الحب ضد الحزم، وأن للحزم نتائج سيئة، وهذا مفهوم خاطئ عن الحب. فالمسيح كان محبا وطيبا ولطيفًا، وفي الوقت نفسه كان حازمًا وقويًا وله هيبة. لقد أحب تلاميذه إلى المنتهى، لكن عندما كاد بطرس ينحرف عن الطريق الصحيح، كان المسيح حازما معه: «اذهب عني يا شيطان» (متى 16: 23). علم بكل رقة ودقة، وكان لطيفًا مع الخطاة والعشارين والزواني، لكنه كان شديدًا حازمًا مع الكتبة والفريسيين. هكذا يريد من تلاميذه أن يجمعوا بتوازن بين الحب والحزم.
(3) بين الوداعة والشجاعة
الشخص الوديع ليس هو الذي لا يرد ولا يصد ولا يتعصب، بل يظل ساكنًا هادئا لا ينفعل ولا يتفاعل مع الأحداث مهما حدث. هذه ليست فضيلة. فالمسيح كان وديعًا وقال: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (متى 11: 29)، ومع ذلك كان في منتهى القوة والشجاعة، فوقف ضد رجال الدين اليهودي وكشف رياءهم وفضح أعمالهم التي كانوا يتسترون فيها وراء التدين، ودافع عن المظلومين والمهمشين، ودافع عن حقوق المرأة والطفل والفقير بكل شجاعة. فالوداعة ليست الضعف والاستسلام وعدم الانفعال، الوداعة فضيلة بين رذيلتين (الغضب الباطل وبرودة الأعصاب). فالغضب واجب عندما يكون من الضروري أن تغضب، وانضباط انفعالك واجب عندما يكون الغضب باطلًا. فالوداعة ليست الضعف، والشجاعة ليست التهور، والمسيح يريد من تلاميذه أن يجمعوا بتوازن بين الوداعة والشجاعة.
(4) بين الكلام والصمت
هناك من يتكلم كثيرا، فيفقد فضائل الصمت والتأمل والتفكير السليم، فضلا عن قول الكتاب أن «كثرة الكلام لا تخلو من معصية» (أمثال 10: 19). وهناك من يصمت دائمًا، فلا يعبر إطلاقًا عن نفسه ولا يكشف عن أفكاره وأرائه، ربما حصيلته اللغوية فقيرة جدا، أو أنه يخجل من أي كلام يقوله أمام الناس، فتكون النتيجة أنه لا يعرفه أحد. بذلك يفقد فائدة الكلام النفسية والروحية. يقول داود: «لما سكت بليت عظامي» (مزمور 32: 3). فمن يصمت يفقد الشركة مع الاخرين، ويفقد الشهادة للحق. أما المسيح فيريد أن يجمع تلاميذه بتوازن بين الكلام والصمت. فإذا صمت، فاصمت عن حكمة، وإذا تكلمت، فتكلم للفائدة. استخدم الكلام والصمت كل في حينه وبشكل جيد.
(5) بين الرحمة والعدالة
أحيانًا نحب الله بطريقة متطرفة غير متوازنة، عندما نظن أنه فقط الإله المحب الرحوم، فنفقد بذلك فضيلة مخافته ومهابته، ونتحول إلى الاستهتار والاستهانة به وبأعماله. ظانين أن رحمة الله أكبر وأهم من عدالته. في حين أنه لولا عدالة الله المتوازنة مع رحمته، ما كان الصليب والفداء، الذي فيه التقت الرحمة بالعدالة بكل توازن. أو العكس، عندما نظن أن الله فقط إله عادل ينتقم من الخطاة أشر انتقام. أما بالنسبة لنا، فإننا أحيانا يتحول عدلنا إلى قسوة بلا رحمة، وأحيانًا تتحول رحمتنا إلى استهتار بقيمة العدالة. أما المسيح فيريد أن يجمع تلاميذه بتوازن بين الرحمة والعدالة، في العمل والبيت وكافة مجالات الحياة.
(6) بين الخدمة والعبادة
هناك من ينشغلون كثيرًا بأمور خدمة الرب، لدرجة يفقدون فيها أهمية عبادة الرب في حياتهم، بذلك تتحول خدمتهم إلى مجرد أنشطة دينية. وهناك من يعبدون الرب بالتزامهم بحضور اجتماعات الكنيسة، ويظنون أن هذه هي الحياة المسيحية، حياة العبادة للرب. لكنهم بذلك يكونوا كالمياه الراكدة التي لا تتحرك ولا تصل إلى أماكن أخرى، فتتحول إلى مستنقع. لقد كان المسيح يطوف المدن والقرى يكرز ببشارة الملكوت، وفي الوقت نفسه كان يواظب على حضور الخدمة التعبدية الأسبوعية في المجمع. وبذلك أعطانا مثالا في التوازن بين الخدمة والعبادة. فكل خادم للمسيح يجب أن يكون متعبدا حقيقيا للرب، وكل متعبد حقيقي يجب أن يكون خادما للرب. هذا هو الإنسان كما يريده الله، يوازن بين العبادة والخدمة.
ثلاث نصائح:
(1) الاتزان الحقيقي هو التشبه بالمسيح. فمن يريد أن يتعلم الاتزان في شخصيته، فليتمثل بالمسيح. هذا هو الكمال في معناه الحقيقي، وهذا أعظم وأقدس هدف يسعى المؤمن لتحقيقه في سلوكه وحياته، روحيًا وجسديًا ونفسيًا. فمعرفة شخصية المسيح، والتعرف على أفكاره وسلوكياته، تساعدنا على الوصول إلى التوازن في شخصياتنا.
(2) قراءة الكتاب المقدس ومطالعة الكتب الأخرى من شأنه أن يساعدنا كثيرًا في تحقيق ذلك الهدف المقدس. فالكتاب المقدس يعالج الكثير من الأمور الروحية بالتفصيل، لكنه يضع الأفكار الأساسية للأمور الأخرى، النفسية والجسدية.
(3) كون لنفسك مبادي أساسية، تحترمها وتلتزم بها. هذه سوف تحفظ حياتك من التلون والتطرف والتحايل، وتُشكِّل فكرك وضميرك وتوجهاتك.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى