دراساتدراسات كتابية

عناية الله

الهدى 1223                                                                                                                                 سبتمبر 2020

في دراستنا لسفر الرؤيا نجد أن النقطةَ المحوريةَ التي بُنيَ عليها السفر هي: الصراعُ الدائمُ بين الكنيسةِ، وقوى الشرِ في العالمِ. لذلك نرى أن السفرَ يُعَبِّر عن رسالةِ الكنيسةِ وفلسفةِ وجودِها من خلالِ قصةِ الإنجيل: بدايةً من ولادةِ المسيح إلى آلامهِ، وموتهِ، وقيامتهِ، وصعوده.
ويُعَبِّر أيضًا عن قوى الشرِ متمثلةً في قوتين: القوى الدينيةُ المضادةُ (كاليهوديةِ – الوثنيةِ …) الخ، ومعها القوى السياسيةُ مثلَ الملوكِ والأباطرةِ الذين يضطهدون الكنيسةَ. وقد عَبَّر عن هاتين القوتين بالنبي الكذابِ والوحشِ.
وقد قام كاتبُ السفرِ بتصويرِ الصراعِ بين الكنيسةِ وهذه القوى بست صورٍ مختلفةٍ بداية بالصراعِ في شكلِ فتحَ السفرِ المختومِ، فصورةِ الأبواق، ثم الصراع بين المرأةِ والتِنين، ثم الجامات، ثم صورة سقوطِ بابلَ الزانيةِ، وأخيرًا سقوط إبليسِ. وفي كلِّ صورةٍ من هذه الصور تبدأ القصةُ بالمجئ الأولِ للمسيح، ثم آلامِهِ وموتِهِ وقيامتِهِ، وصراعِ الكنيسةِ مع ابليسَ حيث يتصاعدُ هذا الصراعُ تدريجيًا، ثم تنتهي القصةُ بمجئِ الربِ والدينونةِ. وتتصاعد الأحداثُ في هذه الصورِ حتى تصلَ إلى ذروتِها في الأصحاحِ العشرين.
وسوف أتحدثُ اليومَ عن إحدى صورِ الصراعِ بين الكنيسةِ وقوى الشرِ. في دراما عن الصراعِ بين: المرأةِ والتنينِ تحت عنوان: «عنايةُ اللهِ بالكنيسةِ» وهذا بحسب سفر الرؤيا 12: 1-12 من خلالِ فكرتين: عناية الله تضمنُ وجودَ الكنيسة، وكذلك تؤكدُ النصرَ
عناية الله تضمن وجود الكنيسة
تظهرُ في بدايةِ المشهدِ: آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ، وهذه الآيةُ إمرأةٌ. وتختلفُ الأراءُ حول هُويتِها، فهناك من يقول: إنها إسرائيلُ، وهناك من يقول إنها السيدةُ العذراءُ، وغيرُ ذلك من الآراءِ المطروحةِ. ولكنَّ الرأيَ المرجحَ: أنها الكنيسةُ. إذ يقولُ عنها أنها مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً، وهذا لأنها مجيدةٌ ومرتفعةٌ، ولها سلطانٌ مُعطَى لها اذ انها مُنحتِ الانتصارُ.
ثم تنتقلُ بنا الصورةُ من منظرِ مجدٍ وبهاءٍ الى صورةِ: صراخٍ وتوجعٍ، فنجدُها: تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ. وهنا نرى أنه قد جاءَ الوصفُ مليئًا بالحيويةِ، فالولادُة لا تتمُ بسَهُولةٍ بل لابدَّ من أن يصاحبَها وجعٌ وألمٌ. وهذا الأمرُ يَدِلُّ على مدى المعاناةِ والألمِ للبقاءِ في الوجودِ.
هنا يظهرُ في المشهدِ: تِنِّينٌ عظيمٌ أحمرٌ له سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ وله عَشَرَةُ قُرُونٍ، وهذا تأكيدٌ على: مدى قوةِ وجبروتِ وبأسِ هذا التنينِ، فلديه سلطاتٌ واسعةٌ حيث يُكتب عنه أنه «رئيسُ سلطانِ العالمِ». فلذلك يصعبُ هزيمتُه.
وَكذلك نرى أن ذَنَبُ التِّنِّينِ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ فَطَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ وثلث هنا يريد أن يؤكدَ أنه قد جرَّ معه عددًا كبيرًا منها. فهو يريدُ أن يضربَ الترتيبَ الذي أسسَهُ اللهُ ويريدُ إحداثَ فوضى مظلمةٍ، فهو ضدُّ نموِ الكنيسةِ، الذي هو بمثابةِ نهايةٍ له.
لذلك فالتنينُ يشكلُ خطرًا ضدَ وجودِ الكنيسةِ، وضدَ نموِها فقد بدى قويًا وشرسًا في هجومِهِ ضدِها. وهذا ما يمكنُنا أن نلاحظَهُ على مرِ التاريخِ الكنسيّ، فهناك خطان متوازيان وهما: وجودُ الضيقِ والألمِ والشرِ، ووجودُ الكنيسةِ ونموُها وامتدادُها. فمنذُ بدايةِ الكنيسةِ نرى أن الهجومَ عليها يشتدُ ويهددُ وجودَها سواء كان هذا الهجومُ: من الخارجِ كما حدث في القرنِ الأولِ، أو هجومٌ من الداخلِ حينما دبَّ الفسادُ داخلَ الكنيسةِ في عصرِ الإصلاحِ لهدمِها. وحتى في يومِنا هذا نجدُ هذا الهجومَ ممتدٌ وموجودٌ ضدَّ الكنيسةِ.
وهذا ما قد عاصرناهُ بالفعلَ فيما حدث من حرقٍ وهدمٍ للكثيرِ من الكنائسِ أثناءَ أحداثِ فضِ إعتصامِ رابعة. مما جعلَ الخوفَ والذعرَ يدبُ في قلوبِنا. حيث رأينا أن ما قد حدثَ يمثلُ تهديدًا واضحًا لوجودِ الكنيسةِ ونموِها، وهذا ما جعل الكثيرون يتسألون: أين اللهُ من كلِ هذا؟ ولما لم يحفظْ كنيستَهُ؟
ولكننا قد رأينا يدَ اللهِ قد استخدمت كلَ هذه الأمورِ بالرغم من صعوبتِها لتؤولَ إلى خيرِ الكنيسةِ. فقد قدم المسيحيون لكلِ العالمِ نموذجًا للثباتِ والثقةِ في الله. فاللهُ هو القادرُ على ضمانِ وجودِ الكنيسةِ بالرغم من ما قد ظهرَ من شرٍ يحاربُها ويحاربُ وجودَها. فعلينا أن ندركَ أن اللهَ ليس بعيدًا عن هذا العالمِ المضطربِ، ولا يقفُ خائرَ القوى أمام أحداثِه، ولكنَّه دائمًا وسيظلُ أبدًا صانعُ التاريخِ، ومُشَكِّلُه موجهة إلى غايتِهِ والتي قَصَدَها، التي هي للخيرِ؛ إذ أنه الخيرُ الأسمى الذي يحفظُ وجودَ الكنيسةِ ويحققُ ثباتَها، ويضمنُ نصرتَها وهذه هي فكرتي الثانية.
عنايةُ اللهِ تؤكدُ النصرَ
ينتقلُ بنا الكاتبُ هنا في الاعداد من 7-12 إلى مشهدٍ جديدٍ، وهو حربٍ في السماء بين: ميخائيلَ وملائكتِهِ والتنينِ وملائكتِهِ، وكانتْ نتيجةُ هذه الحربِ هي: هزيمةُ التنينِ، مما نتجَ عنه فُقدانَهُ لمكانِهِ في السماءِ. فقد كان دائما المشتكي على شعبِ الله، أمّا الآن لم يَعُد له مكانٌ في السماءِ.
ويقوم يوحنا بوصفِ التنينِ المحكومِ عليه بأربعةِ أوصافَ أو ملامحَ هي: «… التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ»، وهذا أسلوبٌ خطابيٌّ وكأنه مقتبسٌ من النطقِ بالحكمِ، فيتمُ في البدايةِ سردُ البياناتِ الشخصيةِ للمحكومِ عليه، وأصلهِ، وفصلهِ، وأعمالِه بكلِ دقةٍ. فكلُ تعريفٍ من التعريفاتِ السابقةِ له مدلولُه الخاصُ. فيقولُ عنه: التنينُ العظيمُ حيث كان منظرُه أخَّاذًا، والحيةُ القديمةُ ويريدُ هنا تذكيرَنا بسفرِ التكوينِ الأصحاحِ الثالثِ وما فعلتُه الحيةُ من اغواءٍ، وكذبٍ، وتشكيكٍ، وتشويهٍ لصورةِ الله. وهو ابليسُ أي المفتريّ أو المشتكيّ أو مشوهُ السمعةِ. وهو الشيطانُ وهذا هو الاسمُ الأقدمُ ويَعني العدو أو الخَصمُ. المضادُ للجنسِ البشريِّ.
فهذا المشتكيُّ المضادُّ للجنسِ البشريِّ يعملُ دائمًا على تشويهِ صورةِ الله، فهو لديه نفسَ الفلسفةِ القديمةِ ولكن يستخدمُها بطرقٍ مختلفةٍ. فيشتكي ويشوهُ ليس فقط من خلالِ أفكارٍ خارجيةٍ من العالمِ، ولكن أيضًا من خلالِ أفكارٍ من داخلِ الكنيسةِ. فهو يساهمُ بشكلٍ أو بآخرَ على رسمِ صورةٍ زائفةٍ عن اللهِ، فمثلًا يقومُ بتصويرِ اللهِ كمستبدٍ يعاقبُ بالفقر والمرضِ والوباء الإنسانَ الذي يَبعُدُ عنه وهذا قد لمسناه في ظروف وباء الكورونا الذي يمر به العالم، فقد وصفه بعض الخدام انه من الله كعقاب لبعد الإنسان عنه مشددين على أن المؤمن لا يصاب به، ولكننا وجدنا ان المرض كان صوته شديد في الرد عليهم من خلال مرض الثير من المؤمنين والخدام به. أو يصور الله كملبيٍ ومسددٍ لجميعِ الإحتياجاتِ الماديةِ للمؤمنين، حيث يعتقدُ البعضُ أن المؤمنين لا يمرضون أو يعانون من الفقرِ وهذا ما يسمى باللاهوت الشعبي(إنجيل الرخاء).
وهناك الكثيرُ من الصورِ المشوهةِ الموجودةِ بكنائسِنا والتي تُعَدُ سببًا من أسبابِ إنتشارِ موجةِ الإلحادِ التي نعاني منها اليومَ. وهذا يجعلُنا نُدركُ مدى ضرورةِ التعليمِ الكتابيِّ المتزنِ. فها هي دعوةٌ لإحياِء المنبرِ الإنجيليِّ من جديدٍ ليقدمَ فكرًا عميقًا صحيحًا عن اللهِ.
وقد بدى لنا في المشهدِ الأولِ أن الشرَ: قويٌ، ومنتشرٌ، وبلا هوادةٍ، ويصعبُ التغلبُ عليه … لكنَّ بإكتمالِ الصورةِ اكتشفنا انه: محدودٌ، وهشٌ، وله نهايةٌ، ويمكن التغلبُ عليهِ. ويظهرُ كمالُ الانتصارِ من خلالِ الصيغةِ المستخدمةِ «هم غلبوه»: فالضميرُ التأكيديُّ(هم) يؤكدُ حقيقةَ انتصارِهم، والزمنُ الماضي للفعلِ يؤكدُ على تمامِ الفعلِ وكمالِ الانتصارِ. ونتيجةٌ لهذا الانتصارِ يشهدُ شعبُ اللهِ عن إيمانِهم في دمِ الخروفِ، ويبرهنون على حقيقتِهِ بالمثابرةِ على شهادتِهم حتى الموتِ والنصرِ «وَهُــمْ غَلَبُوهُ: بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ.» ولكن بسببِ هذه الهزيمةِ يمتلئ الشيطانُ بالغضبِ، وهو يعلمُ أن له زمانًا قليلًا. فهذه الهزيمةُ الثانيةُ له، وهي تنذرُهُ بالهزيمةِ الأخيرةِ في نهايةِ التاريخِ.
وكاتبُ سفرِ الرؤيا يريدُ أن يشجعَ الكنيسةَ اليومَ في مواجهتِها للضيقِ والألمِ، فقد قدمَ لنا يوحنا مثالًا عن تجربةٍ عمليةٍ لكنيسةٍ مضطهدةٍ، وفي صراعٍ مع الشرِ والألمِ ولكنها بالرغمِ من كلِّ هذا فهي كنيسةٌ منتصرةٌ هنا في الأرضِ على كلِ ضيقٍ وألمٍ. والكنيسةُ عندما تعاني من الشدةِ والضيقِ فلا يكونَ ذلك ضدَ الكنيسةِ في حدِ ذاتِها ولكن ضدَ المسيحِ الذي في الكنيسةِ. ولعل تعاملَ المسيحُ مع شاولَ هو مثالٌ صارخٌ عن هذه الفكرةِ، فينادي المسيحُ شاولَ الذي يضطهدُ الكنيسةَ: «لماذا تضطهدُني؟»
اذًا يدورُ الصراعُ ضدَ المسيحِ في الكنيسةِ، ومن ثَمَ ضدَ شهادتِها للمسيحِ. ولكنَّ نتيجةَ هذا الصراعِ محسومةٌ فهي كالمباراةِ المعادةِ، نحن نعلمُ نتيجتَها قبل انتهائِها فنحن عالمون ان الانتصارَ هو لله. فعندما نرى هذه الحربَ قائمةٌ في السماءِ – فالذي يحدثُ هنا في الارضِ هو انعكاسٌ لما يحدثُ في السماءِ، فاذا كان في السماءِ هناك انتصارٌ من ملائكةِ السماءِ على الشيطانِ فنحن نضمنُ حتى ولو كنّا نعاني او نجاهد، فعندما نجاهدُ لا نصارعُ الهواءَ، فلن نصارعْ ونحن لا نعلمُ النتيجةَ. فنحن نعلمُ ان لنا النصرةَ، فالمسيحُ يقودُنا في موكبِ نصرتِه كلَ حينٍ.
وختامًا نرى أن اللهَ يظهرُ ليس فقط كمتضمنٍ في الصراعِ بل يسودُ عليه. فكما رأينا أن يوحنا لا يوجهُ تركيزَنا على المرأةِ أو ميخائيلَ كبطلٍ للقصةِ، ولكن لله الذي يسودُ على المشهدِ. فلذلك مهما أن بدى الشرُ عظيمٌ وأقوى من الكنيسةِ. ولكن تظل عنايةُ اللهِ تحفظُ سلامَ ونموَ، وانتصارَ، وثباتَ الكنيسةِ. حينئذ نهتفُ ككنيسةٍ مع المرنمِ ونقولُ: اللهُ قوةٌ لنا وحمانا الوطيدُ، في الضيقِ عونٌ قادرٌ ونصيرٌ شديدٌ. فلذا لسنا نجزعُ، والقلبُ لا يفزعُ، ولماذا نزعزعُ والربُ معينٌ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى