الهدى 1208 أبريل 2019
نواجه في حياتنا اليومية، الكثير من التقلبات والتغيرات المفصلية، التي تقلقنا وتقض مضجعنا وتؤثر على نوعية حياتنا. لهذا فالسؤال الذي يطرح نفسه علينا، ونحن نعيش في فصل الصوم، هو: كيف نواجه هذه المتغيرات الكثيرة؟
وهل يقدم لنا الكتاب المقدس، تصوراً ما للمواجهة والتأقلم والتكيّف مع هذه المتغيرات؟ أحد الرسل البارزين الذين يقدمون جواباً على هذا السؤال المصيري هو الرسول بولس. فهو من اختباراته المتنوعة وحياته الروحية الغنية يقدم إلينا تصوراً في كـيفية مـواجهة التقلبات. فهو يقول لكنيسة فيلبي: “فإني قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه“ (فيلبي 4 :11) والأصل اليوناني للكلمة المترجمة باللغة العربية “مكتفياً» تحمل معناً آخر هو“مقتنعاً» وكأن بولس يريد أن يقول لنا: «فإني قد تعلمت أن أكون مقتنعاً بما أنا فيه“. وبالتالي إن تصور بولس لمواجهة تقلبات الحياة هو بالقناعة المسيحية.
وقبل الخوض في تصور بولس هذا، لا بد من التوقف لفهم أهمية فضيلة القناعة عند الحضارة اليونانية التي سادت على زمن الرسول بولس والتي قد يكون تأثر بها بولس إلى حد بعيد. فالقناعة كانت من أسمى الفضائل التي تمسّك بها ونادى بعيشها أصحاب المذهب الرواقي اليوناني، الذين حاورهم الرسول بولس عندما دخل أثينا (كما يخبرنا الإصحاح السابع عشر من سفر أعمال الرسل): «فقابله قوم من الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين» (أعمال 17: 18). فبحسب التعريف الرواقي اليوناني للقناعة، فهي حالة من السكينة واستقرار القلب والضمير بغض النظر أو باستقلالية كاملة عن الظروف الخارجية أو الأشخاص الخارجيين الذين يؤثرون على حياتنا. ومصدر هذا الاستقرار كما آمن الرواقيون ينبع من الذات الإنسانية من اعتماد الإنسان على قدراته الذاتية وقوة إرادته في مقاومة ظروف الحياة المتقلبة. لقد نظر الرواقيون إلى الفيلسوف سقراط على أنه المثال في القناعة والقدرة على مواجهة الحياة والموت بصبر ورباطة جأش. فاعتبرت الفلسفة اليونانية القناعة سمة الحكماء. عندما سئل سقراط: “من هو الإنسان الأكثر ثراء؟“ أجاب: “الذي يقتنع بالقليل الذي لديه“. من هنا ينبع القول المأثور “القناعة كنز لا يفنى“. وعندما سئل الفيلسوف سينيكا الذي عاش في القرن الأول “من هو الإنسان السعيد؟ أجاب: “الذي يقتنع بحالته الحاضرة ويتصالح مع نفسه مهما تكن حالته وظروفه“. وبالتالي فالقناعة اليونانية هي حالة من السكينة واستقرار القلب والضمير واكتفاء الإنسان بحالته الحاضرة والمصالحة مع نفسه وظروفه مهما تكن. ومصدر هذه القناعة هو القوى الذاتية التي يملكها الإنسان في داخله.
إلا أن الرسول بولس الذي قد يكون تأثر إلى حد بعيد بهذا الفكر قد أخذ الجزء الأول من تعريف القناعة اليونانية الذي ركز في السكينة واستقرار القلب والضمير ومصالحة الإنسان مع نفسه وظروفه مهما تكن، ورفض الجزء الثاني الذي ركز في أن مصدر هذه القناعة قوة الإنسان الذاتية الداخلية، ليستبدلها بأن مصدر هذه القناعة والاكتفاء ليس الإنسان، بل الرب يسوع المسيح الذي يمنح بالإيمان قوة روحية كبيرة للإنسان المؤمن ليستطيع أن يعيش حياته بقناعة وسط تقلّبات ظروف الحياة المتنوعة: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني“(فيلبي 4 : 13) يقول الرسول بولس.
أيضاً يقول: “فإني قد تعلمت أن أكون مكتفياً (مقتنعاً) بما أنا فيه“وبقوله “تعلمت“ يشدد بولس على عملية التعلم للقناعة والاكتفاء. فهذا المبدأ السامي لمواجهة تقلبات الحياة لم يرثه من أحد بل تعلمه، ولكن ممن تعلمه؟ هل تعلمه على يدي معلمه الكبير غمالائيل الذي كان من أعظم معلمي الشريعة الذي علم بولس؟ “كلا“، يقول بولس. هل تعلمه في مدرسة الطبيعة البشرية والمنطق البشري؟ فالرسول بولس يسجل رايه في الذهن البشري والطبيعة البشرية فيقول في (رومية 3 : 10 ) “ليس بار ولا واحد لـيس من يفهم ليس من يـطلب اللَّه. الجمـيع زاغـوا وفسدوا معاً ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد“. فبولـس يعتقد أن الطبيعة البشرية فاسدة والذهن البشري مظلم. وبالتالي بولس لم يتعلم القناعة المسيحية من الطبيعة البشرية الساقطة. فممّن تعلم الاكتفاء المسيحي إذن؟ نفهم من بولس أنه تعـلـمها مباشرة مـن الـمسيح الرب الـذي غـير حياته على طريق دمشق وجعل منه إناءً مختاراً ليحمل اسمه أمام أمم وملـوك. لـقد تعلم بولس القناعـة المسيحية من الطـبيعة الجـديـدة الـتي منحه إيـاهـا المـسيح بالإيمان فـكـرز بـها بـولـس قائلاً لكنيسة كورنثوس: “إذاً إن كان أحد فـي المسيح فـهـو خـلـيقـة جـديـدة الأشياء الـعتـيقـة قـد مـضت هـوذا الكـل قـد صـار جـديـداً (2كورنثوس 5 :17). تـعلـم بـولـس الاكــتـفـاء الـمـسيحي مـن إعـلانات الـمسيح لـه. فـبولـس يـتـحـدث في رسائـله عـن إعـلانـات الـمسـيـح الـمـتعـددة لـه. فـفي الرسالة الـثـانـية إلـى كـنيسة كـورنـثـوس يـقـول بـولـس: “فـإني آتـي إلـى مناظـر الـرب وإعـلانـاتــه (2كورنثوس 12 :1). تعلم بولس الاكتفاء المسيحي من الروح القدس الذي امتلأ منه محققاً وعد المسيح “وأما المعزي الـروح الـقدس الـذي سيرسـله الآب باسمي فـهـو يـعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم“(يوحنا 14: 16) فالرسول بولس يردد في عددين أربعة أفعال تؤكد عملية التعلم فيقول: “فإني قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه. أعرف أن أتضع وأعرف أيضاً أن أستفضل في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدربت (فيلبي 4: 12و13). فالأفعال الأربعة هي (تعلمت، أعرف، أعرف، تدربت). كما أن كلمة “أعرف“ والتي هي بالأصل اليوناني ORDA تشير إلى المعرفة النابعة عن الاختبار الشخصي وليس المعرفة النظرية والفكرية. وبالتالي فمعرفة بولس للقناعة المسيحية أتت بعد اختبارات تعلّمية متعددة. يقول بولس: “أعرف أن أتضع وأعرف أيضاً أن أستفضل“(فيلبي 4: 13) يذكر أحد المفسرين أن جذور الكلمة اليونانية المترجمة بالعربية “أتضع“ قد استخدمها الرسول بولس في رسالته إلى أهل فيلبي الإصحاح الثاني العدد الثامن “وضع نفسه“ لوصف اتضاع المسيح الذي إذ كان في صورة اللَّه لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً للَّه لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب“. وبالتالي من اتضاع المسيح وتركه السماء ومواجهة ظروف الصليب الصعبة، تعلم الرسول بولس الاتضاع لمواجهة ظروف الحياة القاسية والمتقلبة والمتناقضة أحياناً. في العدد 12 و13 من فيليبي 4 يذكر الرسول بولس الظروف المتناقضة التي مر بها واستطاع أن يحافظ على السكينة والاستقرار والاكتفاء والقناعة المسيحية. يقول بولس: “في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل وأن أنقص“(فيلبي 4: 12). فبولس مر بأيام مريحة وأيام صعبة، أيام رخاء وأيام شقاء. فقد مرّ بأيام كان فيها يشبع، فالطعام كان متوفراً بكثرة فاستفضل وفضل عنه الطعام. وجذور كلمة “أشبع“ باليونانية تستخدم لوصف تسمين الحيوانات وتغذيتها بالطعام الكثير لتسمن فتجهز للذبح كما ذبح العجل المسمن للابن الضال في (لوقا 15: 23) لكن بعد أن مر بولس بأيام شبع لتوفر الطعام الكثير وكان مقتنعاً، فإنه بعد ذلك مرّ بأيام صعبة كان فيها يجوع إذ لم يكن الطعام متوفراً لسد جوعه وكان ينقص عنه. بالرغم من ذلك كان بولس أيضاً مكتفياً بما هو فيه وراضياً ومقتنعاً بالقليل الذي لديه.
يقول بولس: “فإني قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه… في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدربت… أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني“. وبالتالي، تعلم الرسول بولس من مدرسة المسيح، أن يعيش في سكينة واستقرار وراحة ضمير، بالاكتفاء بما هو فيه، والتصالح مع نفسه وظروفه المتغيرة. وهو لا يعتبر ذلك بفضل إنجازاته وقوة إرادته الشخصية، بل يُرجِع كل الفضل إلى المسيح الذي يقويه. وكلمة “يقويني“ باليونانية endynamounti منحدرة من الاسم dynamos أي قوة، وهو الاسم نفسه الذي يطلق على الديناميت بمعناه الإيجابي الذي قصده مخترع الديناميت ألفرد نوبل الذي، وجد قوة هائلة في الديناميت ليستخدم لا للتفجيرات والحروب، ولكن للسلام وبناء المجتمع. وبمعنى آخر، بولس يريد أن يقول لنا، أن من يسكن المسيح في حياته، فانه يستمد منه قوة هائلة، تشبه قوة الديناميت، تساعده ليتأقلم مع كافة ظروف حياته.
كتب اللاهوتي والقس رينهولد نيبور عام 1943 صلاة سميت بصلاة السكينة، وهي صلاة الطلب من الله ليمدنا بقوة المسيح لنتأقلم مع ظروف الحياة المتقلبة. فقد قال القس نيبور في صلاته: “اللهم امنحني السكينة (وسلام الضمير) لأقبل الأمور التي لا أستطيع تغييرها، الشجاعة لأغير الأمور التي أستطيع تغييرها، والحكمة كيما أميز بين الاثنين».