دراسات كتابية

الموعظة على الجبل

الهدى 1250-1251                                                                                                          يوليو وأغسطس 2023

تحتل الموعظة على الجبل مكانة مركزية في الإيمان المسيحي. فهي ذروة تعاليم المسيح، قدَّمها منذ أكثر من ألفي عام، فبُهتت الجموع من تعليمه، ولا تزال الموعظة تسبي قلب كل مَنْ يقرأها، وتؤثر فيه تأثيرًا إيجابيًا. لذلك حظيت الموعظة باهتمام كبير من المسيحيين وغير المسيحيين عبر الزمن، وأفاض الباحثون ودارسو الكتاب المقدس في دراستها وتفسيرها.
أثار المسيح في عظته، قضايا حياتية ولاهوتية هامة. ناقس هذه القضايا مع سامعيه في ضوء عصرهم. وكان تعليمه ثورة فكرية على التقاليد البالية والقشور الدينية، فأحْدَث نقلة نوعية في سامعيه.
أظْهَرَ المسيحُ معرفةً كاملة بالعهد القديم، وقدَّمَ تفسيره وتحليله اللاهوتي المُخالف لتفسير الكتبة والفريسيين، فصحَّح مفاهيم الناس عن الشريعة، إذ أعادهم إلى المفهوم الصحيح الذي قصده الله لشريعته. ويقول هانترHunter: «إن المسيح قدَّم فكره وتعليمه، تاجًا جديدًا، يُكمِّل التعليم القديم إلى درجة الكمال. وبذلك انتقل من مرحلة العهد القديم في تطورات شريعته، إلى مرحلة العهد الجديد، في كمال تعليمه، في مجده وروعته».
قَصَدَ المسيح من عظته أن يثير عقول وأفكار سامعيه، ليغرس بداخلهم رغبة في التغيير. كما قصد منها أن تُحفظ في قلوبنا وتُعاش في سلوكنا. فهي مبادئ حياتية وضعها المسيح بهدف أن تُعاش. وحين نحياها تُحدِثُ تغييرًا فينا وفي المجتمع. فلقد اختار المسيح كنيسته لتكون جماعته المقدسة المفرزة له من العالم، لتحيا له وتسلك بحسب هذه الدعوة المقدسة، وتعيش بحسب المبادئ المعطاة في الكلمة المقدسة عامة، والموعظة على الجبل بصفة خاصة.
وهكذا يُسمّى إنجيل متى «كتاب التعليم» إذ يحتوي على كمية وافرة من تعاليم المسيح. ويتفق عالِما العهد الجدي ديفيد أ. دِه سيلفا وفهيم عزيز على أن الإنجيل ينقسم إلى خمسة أقسام رئيسية، يتضمن كلٌّ منها تسجيلاً لأحداث تاريخية في حياة المسيح وخدمته، وأعمالًا معجزية أجراها، ثم مجموعة كبيرة من التعاليم تتناول موضوعًا أساسيًا، ويُختمُ كل قسم بعبارة انتقالية. وقد جمع البشير متى تعاليم المسيح في خمس وحدات (مجموعات) كبيرة، هي:
1-الموعظة على الجبل (مت 5-7).
2-خطاب الإرسالية (مت 10).
3-أمثال الملكوت (مت 13).
4-العلاقات داخل مجتمع الكنيسة (مت 18).
5-الخطاب الأخير (مت 23-25).
جاءت عظة الجبل في القسم الأول من البشارة، إذ نجد قطوفًا من قصة السيد المسيح منذ الطفولة، حتى المعمودية والتجربة، وبداية خدمته الكرازية وقيامه بعمل معجزات (1: 1-4: 25). ثم يُورد العظة على الجبل (مت 5-7). ويُختم هذا القسم بالعبارة الانتقالية: «فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ» (7: 28، 11: 1، 13: 53، 19: 1، 26: 1).
ويرى دونالد أ. هانغنر Hagner Donald أن وضع البشير للموعظة على الجبل في بدايات البشارة يعني إدراكه لأهمية التعليم المتضمن فيها. وقد لاحظ ليون موريسMorris Leon والدكتور القس فهيم عزيز تداخُل تعاليم المسيح مع أعماله، فكل وحدة من التعاليم تسبقها مجموعة من أعمال الرحمة التي عملها المسيح. فقبل الموعظة على الجبل سجَّل متى كرازة المسيح وأعماله المعجزية (مت 4: 12-25). وقبل خطاب الإرسالية، يذكر أيضًا مجموعة كبيرة من المعجزات (مت 8، 9). وهكذا قبل كل وحدة من التعاليم. فتعاليم وأعمال المسيح وحدة متكاملة، فهو يُعلِّم ويعمل، يكرز ويشفي.
في بداية خدمته لخَّص المسيح رسالته في القول: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» (مت 4: 17). وملكوت الله هو الموضوع المحوري في خدمة وتعليم المسيح. فقد جاء ليؤسس مجتمع الملكوت، الذي فيه تسود مشيئة الله على الأرض كما هي في السماء. ويورد متى عبارة هامة: «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب» (مت 4:23). ويرى د. أوسم وصفي أن الهدف الأقصى لأعمال المسيح المعجزية هو أن تكون «وسيلة إيضاح» أن الملكوت قد أتى بالفعل. وأنه هو «المسيّا» – تجسيدُ الملكوت». وقبل المسيح جاء يوحنا المعمدان ليعد طريق المسيا، ورسم طريق الدخول إلى الملكوت في خطوتين هما التوبة والإيمان بالإنجيل: “وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مر 1: 14-15). وهو ما أكَّده المسيح (مت 4: 17). ولهذا يرى كثيرون من دارسي الكتاب المقدس أن عظة الجبل تشرح لنا الحياة النموذجية التي يعيشها بنو الملكوت. ويقول دِه سيلفا: “يُخاطب متى في الموعظة على الجبل بشكل مباشر وكامل الشخصيَّةَ والذهنية التي ينبغي على المسيحيين أن يتبنوها «. ويقول كريج. س. كينر: «إن إنحيل متى (الأصحاحات 5-7) يوضح لنا، أسلوب حياة التوبة، الذي يميز شعوب الملكوت».
يرى دارسون أن وحدات التعليم الخمس توازي أسفار موسى الخمسة، فمَتَّى يصوِّر يسوع أنه «موسى الجديد» الذي سنَّ الشريعة الجديدة لأبناء الملكوت. وكما أجرى موسى أعمالاً معجزية لشعبه قبل إعطائهم الناموس، هكذا المسيح «موسى الجديد» قام بأعمال مجيدة ليبرهن أنه المسيا الذي يُعلِّم تعاليم ملكوت الله، ويعمل الأعمال التي تبرهن ذلك الملكوت. إلا أننا نعتقد أن هذا الاستنتاج لم يكن في ذهن مَتَّى. فالموعظة على الجبل ليست لموسى الثاني، مقابل موسى الأول، وليست شريعة جديدة في مقابل الشريعة الموسوية.
عظة أم عظات؟
وردت عظة المسيح في (مت 5-7) (111 آية) بينما دُونِّت في (لو 6: 20-49) (30 آية). وعظة «لوقا في السهل» توازي (مت 5: 1-12، 38-48، 7: 1-5، 12، 16-21، 24-27). لكن هناك مادة أُخرى متناثرة في إنجيل لوقا (مت 5: 13 مع لو 14: 34-35، مت 5: 14 مع لوقا 16: 18، مت 6: 9-13 مع لو 11: 2-4، مت 6: 19-21 مع لو 12: 33-34، مت 6: 21-23 مع لو 11: 34-36، مت 6: 24 مع لو 16: 13، مت 6: 25-34 مع لو 12: 22-32، مت 7: 7-11 مع لو 11: 9-13، مت 7: 13-14 مع لو 13: 23-24، مت 7: 22-23 مع لو 13: 25-27).
دراسة هذه النصوص تُثِيرُ مناقشاتٍ كثيرة، إذ يرى بعض الدارسين أنها ليست عظة واحدة بل عظات ألقاها المسيح في أماكن مختلفة وفي مناسبات مختلفة، وتناولت كل عظة موضوعًا محددًا. ربما كانت التطويبات (مت 5: 3-12) مع مثل البيتين (مت 7: 24-27) قد ألقيا في وقت واحد. وباقي العظة في مناسبات أخرى. فقد تكون مقارنة القديم بالجديد (مت 5: 21-48) عظة مستقلة، وممارسات العبادة (مت 6: 1-18) عظة أُخرى مستقلة. ثم جَمَع مَتَّى هذه العظات والتعاليم في وحدة واحدة، من وحدات التعليم الخمس التي أشرنا إليها في إنجيله. وقد كان جون كلفن يعتقد بهذا الرأي، فقال: “إن خطة كل من البشيرين هي جَمْعُ التعاليم الرائدة للمسيح التي تتعلق بحياة التقوى والقداسة في مكان واحد. وعلى هذا تكون الموعظة موجزًا مختصرًا جامعًا من أحاديث مختلفة للمسيح». ويقول أ. ب. بروس: «إن ما كُتِبَ في (مت 5-7) يُمثِّلُ تعليمات قيلت ليس في ساعة من الزمن، أو في يوم واحد، لكن على فترات متقطعة. وأعتقد أن المسيح يمكن أن يكون قد أخذ تلاميذه معه على الجبل لقضاء نوع من مدرسة صيفية». لذلك فإن بروس يُسمِّي (مت 5-7) لا «موعظة الرب على الجبل» بل «التعليم الذي على الجبل». ويرى ليون موريسMorris Leon أن عظة (مت 5-7) ربما تكون خلاصة لدورة مُوسعّة من التعليم امتدت لبضعة أيام، في إحدى المناسبات التي كان فيها الناس مع يسوع بدون طعام، ليسمعوا تعاليمه، قارن (مت 15: 32).

 

القس محسن نعيم

حاصل على بكالوريوس علوم لاهوتية ۱۹۸۸.
* ليسانس فلسفة وعلم نفس ۱۹۹۳م.
* دبلوم علم نفس ۱۹۹۷م.
* له أكثر من ۲۰ مؤلف في مجالات اللاهوت والدراسات الكتابية.
* راعي الكنيسة الإنجيلية في شبرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى