أسلوبان للتفكير والقرار، أيهما تختار؟
الهدى 1250-1251 يوليو وأغسطس 2023
من المعروف والثابت أن سلوكيات الأفراد في المجتمعات المختلفة -في الأغلب والأعم- تنطلق من أفكار وقيم تسكنهم وتحركهم حتى مع عدم إدراكهم لتلك الحقيقة. ومن الطبيعي أن تلك الحقائق الثابتة تنطبق على أي مجتمع بشري، ولا يوجد ما يحول من أن نلمسها ونراها في مجتمعاتنا الكنسية المختلفة والمتنوعة، سواء بجانبها الإيجابي أو -بكل الألم والأسف- السلبي أيضًا.
نعلم أن الكنيسة هي جماعة المؤمنين الذين قبلوا الرب يسوع مخلصًا شخصيًّا لحياتهم وبذلك تكون الكنيسة هي جسد المسيح في كل موقع تعيش فيه الذي يجب أن يعيش ويحقق مشيئة الرأس الرب يسوع، الأمر الذي يستلزم أن تكون القيم والأفكار الحاكمة لذلك الجسد والتي تقود سلوكياته وقراراته، هي قيم وفكر كلمة الله المقدسة، لكن، وآه من تلك «اللاكن» -أحيانًا لا تنطلق الكنيسة في سلوكياتها وقراراتها وتعاملاتها من قيم الكلمة المقدسة، بل تتأثر وتتحرك وفق قيم وأفكار العالم الذي تعيش فيه.
في مشهد شديد الشبه من تلك الحالة، لمسه الرسول يعقوب في جماعة من اليهود، يعيشون خارج فلسطين وكانوا قد قبلوا المسيح مخلصًا لهم وتأسست منهم كنيسة في الشتات، لكن عديد من هؤلاء المؤمنين فشلوا في أن يعيشوا نوع الحياة الصحيحة وفق كلمة الله سواء في ما يواجهون من مشاكل شخصية أو في علاقاتهم وشركتهم معًا كأعضاء في الكنيسة. الأمر الذي حرك الرسول يعقوب بقيادة الروح القدس إلى إرسال رسالته إلى تلك الكنيسة، حيث ضمنها معالجة جذرية لتلك الظواهر السيئة مثل الانشقاقات والصراعات بين شعب الكنيسة، وتحديدًا نجد في الإصحاح الثالث من رسالته والأعداد من ١٣- ١٨ يضع أصبعه على أصل الداء ويصف الدواء.
السر يكمن في «نوع الحكمة» التي تملأ عقل المؤمن وبالتبعية التي تنتج دوافعه وتحرك سلوكه، هل هي حكمة سماوية «نازلة من فوق» (عدد ١٥أ) أم هي حكمة بشرية «أرضية، نفسانية، شيطانية» (عدد ١٥ب)؟ وبالتبعية يتحدد نوع الحياة والسلوك وفق نوع الحكمة الحاكمة والمحركة لسلوكيات المؤمن.
الحكمة البشرية والتي يصفها الرسول يعقوب بأنها «شيطانية» ومعلوم أن الشيطان بطبيعته يعمل دائمًا ضد مشيئة الله، أما الحكمة السماوية فمصدرها المسيح لأن فيه مذخر لنا جميع كنوز الحكمة والعلم (كو ٢: ٣). وتستطيع أن تنالها عندما تطلبها بإيمان «إنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيُعطى له» (يعقوب ١: ٥).
وواضح أن تأثير كل نوع حكمة، ينبع من مصدرها، ويستعرض الرسول يعقوب ثمار كل نوع من نوعي الحكمة. فالحكمة البشرية تقود إلى «غيرة مرة» (١٤ أ). وهذه الغيرة تنبع من الطمع -وبكل الأسف- يوجد كثير من الأنانية والطمع بين أولاد الله، الأمر الذي يقود من يسيطر عليه ذلك النوع من الطموح الأناني إلى الأحقاد والحسد والصراع على المقاعد والسعي إلى التشويه والإطاحة بكل من يرى فيه منافسًا له. الحكمة البشرية تنتج أيضًا «تحزب» (١٤ب). والكلمة في الأصل اليوناني تصف السياسي الذي يسعى لكسب أصوات الناخبين بكل السبل والوسائل بغض النظر عن صحتها، مما يخلق التحزب والانشقاق في الكنيسة، لذا نسمع مناشدة الرسول بولس لمؤمني كنيسة فيلبي «لا شيئًا بتحزب أو بعجب، بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم» (فيلبي ٢: ٣). الحكمة البشرية تنتج أيضًا «افتخارًا» (١٤ج) فالمنتج الطبيعي والتلقائي للكبرياء هو الافتخار والمباهاة ومحاولة إبراز ما يراه الشخص يمثل تميزًا له. والحكمة البشرية تنتج أيضًا «كذبًا» (١٤د). فاللجوء للكذب منتج طبيعي للغيرة المرة والطموح الأناني والذي يقود بدوره إلى روح التحزب والصراع.
لكن، ما أبهج الجانب الآخر من المشهد حينما تسيطر الحكمة السماوية على فكر وقلب أعضاء الجسد الواحد. حيث سنجد «الوداعة» (عدد١٣). والكلمة في الأصل اليوناني، كانت تستخدم لوصف الخيل الذي تم ترويضه وبالتالي يسهل التحكم فيه، ومن هنا فالوداعة ليست مرادفة للضعف بل هي «القوة تحت السيطرة» والشخص الوديع يسعى فقط لمجد الله وليس لتضخيم الذات وتحقيق الشعبية والشهرة، فنحن ندرك أن الوداعة ثمرة من ثمر الروح القدس (غلاطية ٥: ٢٣)، لذا فالسبيل الوحيد لنعيشها بصدق هو ديمومة الامتلاء والسلوك بالروح القدوس. والحكمة السماوية تنتج أيضًا «الطهارة» (١٧أ). والحكمة السماوية طاهرة. أي خالية من الدنس، والحكمة السماوية تنتج أيضًا «سلامًا» (١٧ب) وفي ذلك هي على النقيض من الحكمة البشرية التي تقود إلى إشعال مناخ الصراعات والحروب والخصومات (يعقوب ٤: ١، ٢). والحكمة السماوية تنتج أيضًا «الترفق» (عدد ١٧ج)، والكملة في أصلها اليوناني تعني الرقة دون ضعف والاعتدال من دون مواءمات أو مهادنة مع الخطية. الحكمة السماوية تثمر أيضًا «الإذعان» (١٧د). فهو قادر أن يشيع مناخ الرقة والسلاسة في تعاملات الأعضاء معًا، الأمر الذي يقود إلى قبول حق الاختلاف في الرأي من دون أن يؤدي ذلك إلى الخلاف والانقسام، بينما تقود الحكمة البشرية إلى التصلب والعناد. وأيضًا تثمر الحكمة السماوية «رحمة» (١٧هـ). فالمؤمن الذي يُقاد بحكمة الله يسلك بمعايير الرحمة والتعاطف والإحساس بالآخرين. وتثمر الحكمة السماوية في عطائها، فهي تنتج «أثمار صالحة» (١٧و) كنتاج طبيعي للمصدر السماوي وهي أيضًا «عديمة الريب» (١٧ز) وتلك الصفة تعني وحدانية الفكر، فعندما تتمتع بالحكمة السماوية لن تحتاج إلى سلوكيات إمساك العصا من المنتصف أو محاولة إرضاء جميع الأطراف على حساب الحق والحقيقة، لكن ستكون قادرًا على الحسم من دون حدة أو عنف. وأخيرًا، وفق ما سجله الوحي المقدس في هذا الفصل من كلمة الله، نجد الحكمة السماوية «عديمة الرياء» (١٧ح). والكلمة «الرياء» في الأصل اليوناني تصف شخصًا يلبس قناعًا، الحكمة البشرية تقود إلى حياة التظاهر بغير ما نبطن، لكن الحكمة السماوية تقود إلي حياة الأمانة والصدق والوضوح.
بعد تلك الجولة السريعة في هذا النص (يعقوب ٣: ١٣- ١٨) أثق -عزيزي القارئ- أنك تشاركني في ضرورة وجود وقفة تقييم أمين لدوافع وسلوكيات حياتنا وخدمتنا وعلاقاتنا معًا كجسد المسيح لتحديد واضح أمام إلهنا لنوع الحكمة التي تملأ عقولنا وبالتبعية تقود أفعالنا وردود أفعالنا، في إدراك واعٍ للفارق الضخم بين الحكمة السماوية والتي مصدرها قيادة الروح القدس لكل جوانب حياتنا، وبين الحكمة البشرية التي مصدرها الشيطان في كل أشكاله الخادعة، وليكن قرارك -بالاتكال على عمل نعمة إلهنا- هو التحلي الدائم بالحكمة السماوية والتخلي الكامل عن الحكمة البشرية.