الهدى 1254-1255 مارس وأبريل 2024
يأخذنا كريغ أ. إيفانز، وإن تي ريت في مسيرة لمواجهة الشكوك والأسئلة التي تواجه الإيمان بموت يسوع ودفنه وقيامته. قُدِّم هذا المحتوى كمحاضرات أكاديميّة، ولكنه عُولِجَ ليكون قريبًا أيضًا من الكنيسة والعبادة.
يدور الكتاب حول مكونات قانون الإيمان الرسولي —وهو أول تعبير رسمي عن العقيدة وعن اعتراف إيمانها— الثلاث الرئيسة: موت يسوع ودفنه وقيامته. فموت يسوع ودفنه وقيامته، ليست مجرد أفكار لاهوتيّة، ولكنها أحداث فاعلة، أحداث أنهضت وايقظت الإيمان وأثارت التساؤلات.
سأقوم بعرض أهم الأفكار بإيجاز ثم اتوسع في طرح فكرة “الجسد كشريك في التجلي الأبدي للحياة الجديدة”. يقع الكتاب في 164 صفحة من القطع المتوسط، مترجم وصادر عن مدرسة الإسكندرية للدراسات اللّاهوتيّة عام 2022.
حقيقة موت يسوع
ناقش هذا العنوان الادعاءات التي تُشير إلى أن يسوع لم يمت، بل أغمي عليه، ليؤكد أن موت يسوع حقيقة مؤكدة؛ ليس فقط في كل كتابات العهد الجديد، وكتابات المسيحيّة المبكرة، ولكن أيضًا من خلال الكُتَّاب الرّومان واليهود. كذلك لم يكن متوقعًا أبدًا من اتباع يسوع أنه سيموت، لأنهم نظروا إليه على أنه المسيا الذي سيحكم وسيجلسون عن يمينه، لذا موت يسوع فعليًا كان مُحرجًا لاتباعه الأوائل، خاصة وهناك اعتقاد سائد بأن أبناء الله المخلصين والأبطال لا يمكن أن يموتوا مصلوبين. ومن خلال هذا الطّرح أكد الكاتب أنّه لو لم يكن يسوع قد صُلب ومات؛ فما الدّاعي لاختلاق مثل هذه القصة غير الواقعيّة والتي لا يمكن لأحد أن يصدقها أو يتخيل أحداثها. فموت يسوع حقيقة تاريخية مروعة كانت معروفة لغير المؤمنين وكان حدثًا مُحبطًا لاتباعه.
أسباب موت يسوع
هناك أسباب كثيرة دفعت اليهود بعنف وبغضب للانتقام من يسوع ودفعه للموت، وتتلخص هذه الأسباب في دعوة الملكوت التي أتى يسوع ليُنادي بها، ولكن للأسف فُهمت هذه الدعوة على أنها أرضية حالية وهذا أدى إلى:
- التّصادم مع السلطة الرّومانية بسبب دخوله الانتصاري إلى أورشليم بصفته داود الجديد، الملك المنتظر الذي يُشير إليه زكريا 9: 9، فهو الملك وليس قيصر. وقد ظهر ذلك بوضوح في طريقة استهزاء الجنود الرّومان بيسوع، حيث تعاملوا معه كما كانوا يتعاملون مع قيصر، فقد استبدلوا تاج قيصر بتاج الشوك، والتّحية التي يقدمونها لقيصر قدموها باستهزاء ليسوع ملك اليهود، هذا بخلاف الضّرب والبصق.
- تصرفاته في الهيكل التي تعارضت مع مصالح رؤساء الكهنة، فقد عرقل التجارة القائمة على تقديم الذبائح، لذا استاء الكهنة والكتبة والشيوخ بشدة من أفعال يسوع وكلماته الناقدة والمُعنِّفة لهم.
- كذلك أثار مثل الكرم مر12: 1-12 المقاومة ضدّ يسوع، حيث قُدِّم هذا المثل كإجابة غير مباشرة عن سؤال رؤساء الكهنة عندما طلبوا أن يعرفوا بأي سلطانٍ يفعل هذا بالهيكل؟ وقد بنى يسوع مثل الكرم على إشعياء 5: 1-7 والذي جعل المثل مزعجًا، كونه مفهومًا أنَّ كلام إشعياء موجه بالأساس ضد مبنى الهيكل.
لقد دخل يسوع إلى أورشليم كابن داود الممسوح، وتصرف بسلطان في الهيكل كما لو كان له سلطان المسيا. لذا، سعى القادة اليهود لقتل يسوع ليس لكونه شخصًا طيبًا، ولكن لأنهم ظنوا أنه مصدر تهديد سياسي خطير، فرسائله هددت الوضع الرّاهن الذي رفض الكهنة -المتحكمين- أن يتغير.
صلب يسوع
الصلب ممارسة كانت معروفة في الشرق الأوسط قبل استخدام الرّومان لها. حيث كانت الوسيلة المخصصة للقتلة والمتمردين من العبيد، لهذا عُرف الصلب على أنه عقاب العبيد، وكان الهدف الأساسي منه قمع الثورات وردع الجموع، وكان يجري اختيار مكان الصلب بحيث يمكن لأكبر عدد من الجموع أن ترى المشهد وتتأثر بهذا الرعب. ومن هنا نرى أن مثل هذه العقوبة لا ترتبط بالقصاص مثلما تهدف إلى تقديم نموذج مروّع.
موت يسوع
صرخ يسوع وأسلم الرّوح. وكانت هذه الصرخة هي لحظة الموت، ولأن لحظة موت الشخص تقدم برهانًا على ضعفه وعدم الجدوى من تبعيته، فإن موت يسوع على العكس من ذلك، يعلن قوته، فكونه يُسلم الروح هو أمر مجيد، وهذا ظهر في رد فعل قائد المئة الرّوماني الذي أعلن قائلاً: “حقًا كان هذا الإنسان ابن الله”. ينسب قائد المئة الروماني بسبب اندهاشه من طريقة موت يسوع، وما لحق بها من علامات ما لا يُنسب للإمبراطور الرّوماني، فقيصر ليس هو ابن الله، ولكن يسوع المسيا المصلوب هو ابن الله وبهذا التصريح ينقل هذا القائد ولاءه من قيصر ليسوع الذي هو بحق ابن الله.
ربما نظر بعضٌ إلى يسوع على أنه ليس المسيا بسبب موته بهذه الطريقة البشعة التي يموت بها العبيد والأشرار، ولكن من منظور يسوع —ذلك المنظور الذي سيقتنع به تلاميذه بعد القيامة— فموته قدم فهمًا جديدًا للذبيحة والكفارة. بموت الواحد قد كفر عن خطيّة كثيرين. لقد أُسِّس العهد الجديد الذي وعد الله به. كما أن فداء إسرائيل المنتظر أصبح حقيقة الآن لكن دون عنف. وسيجري غزو الأمم من خلال الخبر السار عن مُلك الله وعن موت ابنه الكفاري وقيامته وليس من خلال السّيف.
مفاجأة القيامة
صاغ المسيحيون الأوائل إيمانهم بالقيامة في إطار نظام المعتقدات اليهوديّة السائدة آنذاك. ولكن بإدخال بعض التبديلات أو إحداث بعض الطفرات. فيمكننا تتبع سبع من هذه الطفرات، ولكنني سأركز فقط على واحدة منها أرى أننا نحتاج أن نتوقف قليلاً أمامها لوعي وإدراك أعمق.
الطّفرة الأولى: تبلور فكرة القيامة وتطورها بالمقارنة بالإيمان اليهودي، فلم يشترك كل اليهود في إيمان الفريسيين بالقيامة.
الطفرة الثانية: تحوّل القيامة لمعتقد محوريّ ومركزيّ وله حيويّة في المسيحيّة، بينما في يهودية الهيكل الثاني القيامة ليست معتقد مهم، فموضوع القيامة لم يحظ بمساحة وأهمية في الفكر اليهودي بالمقارنة بموضوعات أخرى. فقد عمل المسيحيين الأوائل على جعل القيامة مركزيّة وتحظى بأكبر مساحة في الفكر المسيحيّ. وقد استمرت القيامة كموضوع أساسي وحيوي وكواحد من الأشياء الرئيسة التي تُضطهد الكنيسة من أجلها.
الطفرة الثالثة: كانت القيامة في المفهوم اليهودي حدث جماعي سيتحقق في النهاية. المسيحيون أعادوا صياغة الطريقة اليهودية في سرد قصة الله وإسرائيل والعالم لتُأخذ على محمل الجد الحقيقة أن خليقة الله الجديدة قد بدأت فعليًا بقيامة المسيح. إن هذه الحقيقة اليوم، هي واحدة من النّقاط الأساسية التي على المسيحيين استيعابها حينما يفكرون في أهمية أمر القيامة.
الطفرة الرابعة: استخدم المسيحيون الأوائل رؤية حزقيال 37 وادي العظام اليابسة، ليعبِّروا عن استرداد إسرائيل والعودة من السّبي والخروج الجديد.
الطفرة الخامسة: ارتباط القيامة بالمسيانية. لم يتوقع اليهود أن يقوم المسيا من بين الأموات، لأنه ببساطة لم يتوقع أحد أن يُقتل المسيا. هذا الأمر جديد كليًا وهو يقودنا إلى التفكير قليلاً في كيف أنه من المستحيل على المسيحيين إثبات أن المسيح هو المسيا ما لم يكن شيئًا مثل القيامة قد حدث. بسبب الإيمان المسيحيّ المبكر بأن يسوع هو المسيا، بدأ المعتقد المسيحيّ بأن يسوع هو رب يُستخدم بشكل متطور، وبالتالي فإن قيصر ليس رب فانتماء المسيحيين لملك مختلف ولسيد مختلف.
الطفرة السّادسة: الأُخرويات التعاضدية. فبقيامة يسوع آمن المسيحيون الأوائل ليس فقط أن الله قد بدأ الخليقة الجديدة التي طال انتظارها، ولكن قد جعل لهم دورًا في الأمر، من خلال روح يسوع، بأن يكونوا مساعدين في هذا المشروع. فبعد أحد القيامة أصبحت الخليقة الجديدة ليست شيئًا ينتظره المسيحيون، ولكن شيئًا قد دُعُوا ليساعدوا فيه.
الطفرة السّابعة: الجسد شريك
لا تعني كلمة القيامة فقط النعيم غير المتجسد، “النعيم الروحي”. كلمة القيامة وسيلة للإشارة إلى حياة ماديّة جديدة “بأجساد نورانية جديدة”. فلا يدور الأمر حول أين ستكون مباشرةً حالما تموت؛ ولكن الأمر يدور حول أين سيكون موقعك في عالم الله الجديد، الخليقة الجديدة في السماوات الجديدة والأرض الجديدة؟ والإجابة المسيحية على هذا التساؤل: أنك ستكون عبارة عن نفس ذات جسد جديد. فقد تمسك المسيحيون الأوائل بشدة بمعتقد ذي خطوتين عن المستقبل: الأولى فترة انتظار انتقاليّة، والثّانية وجود جسماني جديد في عالم أُعيدت خِلقته.
لقد عمل المسيحيون الأوائل على وجود نظرة تفصيليّة عن القيامة. فنجد دقة ووضوح بشأن نوع الجسد الذي سيكون عليه الجسد المُقام، ببساطة سيكون جسدًا ممجَّدًا، سيظل جسدًا ماديًا، ولكن سيحظى بخصائص جديدةٍ. وقد أشار الكاتب إلى 1 كو 15: 44 ليؤكد أن ترجمة (جسدًا روحيًا) ترجمة غير دقيقة. فإننا مضطرون إلى تفسيرها في ضوء التّمييز الأفلاطوني بين العالم المادي والذي يشمل الفضاء والزمن والمادة، وعلى الجانب الآخر، شيء هو الأقرب إلى الشبح أو الروح، شيء لا يمكن رؤيته ولمسه، ولكن يمكنك أن تكون مدركًا لوجوده بصورة تفوق الحواس الطبيعية، وهذا بالضبط ما لم يكن بولس يقصده.
إنّ التمييز الذي يقدمه بولس هنا بين المادي والروحي ليس وفقًا لمفهومنا عنهما. ولكن يميز بين جسد مادي: أي الذي يحركه وتدفعه الطاقة البشرية العادية. الجسد الذي يسوده قانون الموت، والذي يرتبط بالفساد في علاقة متجذّرة في وجوده ومتعته وسلوكه، الجسد الذي أصبح آلات إثمٍ لخدمة مذابح الموت والفساد؛ وبين الجسد الجديد الذي سيكون روح الله هو محركه ودافعه. بكلمات أخرى: روحي بمعنى كونه جسدًا قوته الدافعة والمحركة وما يعطيه الحياة هو الرّوح.
يمكننا أن نرى ذلك بوضوح في رومية 8: 9-11. يشير بولس إلى الحياة الجديدة للأجساد المائتة وليس إلى حياة جديدة بعيدة عن الجسد. فحينما يقول بولس: إن لحمًا ودمًا لا يرثان ملكوت الله 1كو 15: 5 فلا يعني ذلك الذي نقصده نحن بالحالة الماديّة التي يمكنها أن ترث ملكوت الله. فهو يتكلم عن الجسد المادي الحالي، ذلك الفاسد الذي سيموت ويتحلل وعن جسد مستقبلي لن يكون في فساد ولن يكون قابلًا للموت أو التحلُّل.
بالنسبة لبولس لا تعني عبارة “لحمًا ودمًا” الحالة المادية، ولكنها تعني “الفساد، التحلُّل والموت”. من الصعب علينا أن نتخيل وجود حالة مادية غير قابلة للفساد، ولكن هذا ما يقوله بولس بأن الخليقة الجديدة ستكون عليه.
يقول تيموثي كلر: “آمن المسيحيون الأوائل بأن ليسوع جسدًا مُحوَّلاً يمكنه أن يخترق الجدران، ومع ذلك يأكل الطعام. فلم يكن هذا جسدًا محيًى كالذي تصوره اليهود، ولا وجودًا روحيًا فقط كالذي تخيله اليونانيين.”[1]
علينا أن نتيقن هنا أن القيامة الجسدية محورية للغاية في الإيمان المسيحي، فما ظهر للتلاميذ والرسل ليس روح المسيح في حالة الانتصار، ولكن جسد المسيح المُمَجد في حالة التجلي الأبدي. ويشارك سارافيم البرموسي ليقول: القيامة تكشف لنا إذًا أن الجسد الذي نلبسه ليس هو السجن الذي يمنع الروح من الانطلاق بحسب المفهوم الغنوسي/الماني القديم، ولكن شريك في التجلي الأبدي في المستقبل الأبدي لماهيتنا الجديدة. فنحن لن نكون أرواحًا في الوجود الأبدي، ولكننا سنكون خليقة جديدة، بكل ما تحمله كلمة “خليقة” من مضمون يشمل الجسدي والروحي معًا.2]
القيامة هي نصرة الخليقة الجديدة، وتجليها في الروح والجسد معًا، وهذا ما يشكل هويتنا الجديدة في الأبدية. الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ. في 3: 21.
القيامة تعلن قدرة المسيح على كل عناصر الخليقة معًا، ليخضعها إلى نفسه، وليقوم فيها بهذا التغيير الذي سيحول الترابي إلى سمائي والمنفي والمغترب إلى ممجد.
أخيرًا، أرى أن فكرة رفض قيامة الجسد وتصور القيامة وكأنها قيامة روحية فقط يُكرس للفصل بين المادي والروحي، وبالتالي يتحدى النظرة الكتابية للخليقة بأنها حسنة. لذا، علينا أن نستحضر هذا الوعي لنعيد تقييم رؤيتنا للجسد والمادة بشكل مختلف، غير متأثرين بالفلسفات والهرطقات التي تفصل بين المادي والروحي. الجسد ليس هو المشكلة وإنما فساد القلب وعمى النفس بالخطيئة هم مشكلة الإنسان الحقيقيّة. فالجسد الذي ينقاد بالروح ويملك عليه المسيح القائم بقوته، يكون جسد الحرية التي يحياها أولاد الله.
الحواشي
[1] تيموثي كلر، الإيمان في عصر التشكيك، ترجمة سعيد الباز (الأُردن: أوفير، 2010)، 288.
[2] سارافيم البرموسي، القيامة والعالم الجديد (القاهرة: مدرسة اسكندرية، 2022)، 67.