الإعلام بين التجسيد والتصعيد
الهدى 1225 نوفمبر 2020
لاحظت في الآونة الأخيرة كثرة الأعمال الفنية التي يقدمها التليفزيون المصري والسينما المصرية، والتي تناولت في معظمها أعمال العنف والبلطجة بالحارة المصرية الشعبية، وأكثر من جسَّدَها كان محمد رمضان، كما لاحظت تباين الآراء حول بعض القضايا.
منها ما يُتهم الإعلام المصري –بسببها- بالتستر عليها، أو على الأقل تناولها على استحياء، ومنها ما يكون حديث الساعة وكل ساعة، كذلك الإحصائيات التي تُقدَّم بخصوص إصابات ووفيات ڤيروس كورونا هل هي دقيقة أم يشوبها عيب؟ كذلك بخصوص «حالات الخطف» هل هي حقيقية أم يُصعِّد لها البعض لستر أمور خفية؟!
فاختمرت في عقلي بعض الأسئلة: هل يُجَسِّدْ الإعلام الواقع، أم يُصَعِّدْ من بعض الحالات الفردية لتكون قضايا رأي عام؟ وهكذا الأعمال الفنية هل تُجَسِّدْ الواقع، أم تُحَرِّضْ لأجل إثارة المشاهد على التقليد الأعمى لأعمال العنف؟ وكذلك أثناء جائحة كورونا –التي لم تنتهِ بعد- هل الإحصائيات تُجَسِّدْ أم تُصَعِّدْ أم تُخَفِّفْ؟!
وبصفتي رئيسًا للجنة الإعلام والنشر بمجمع المنيا الإنجيلي انشغلت بكل هذه الأسئلة وغيرها، ولهذا نظمنا كلجنة إعلام بمجمع المنيا يوم الجمعة الموافق 2 أكتوبر 2020، لقاءًا تثقيفيًا تحت عنوان «الإعلام بين التجسيد والتحريض»، كان المتكلم فيه أ/ هاني لبيب (رئيس تحرير موقع مبتدا)، وعندما أقول «إعلام» فأنا أقصد الإعلام بكل صوره: المرئي (نشرات إخبارية، برامج، أعمال فنية… الخ)، المسموع (الراديو وغيره)، المقروء (الصحف والمجلات)، الإلكتروني (السوشيال ميديا)، ولديَّ بعض النقاط في هذا الصدد، ولكن معظم حديثي سيكون عن «المصب» أكثر من «النبع»! عن «المتلقي» أكثر من «المُرسل».
أولاً: وعي المشاهد
هناك فارق كبير بين عقل «إناء» وعقل «فلتر»، فالأول يقبل ما يُصَبْ فيه آيًا كان هذا السائل، نظيفًا كان أم عَكرًا، أما الثاني فيُنَقي المُدخلات إليه، ولا يوجد حَجْر على ما يُقدَّم، فالرهان الأول –إن جاز التعبير- على وعي المشاهد، وأن تكون لديه العقلية النقدية التحليلية.
فعلى سبيل المثال ساهم الفن –بكل صوره وأشكاله- في رقي البشرية وتهذيب الذوق العام، ولكن في مرات كثيرة أدى إلى العكس، كأعمال العنف والبلطجة وغيرها، فبسبب أعمال فنية ناجحة، حدث تقليد أعمى لها، نعم. أقول «ناجحة»، وأقصد أن لها نسبة مشاهدة عالية، فاعتُبِرَتْ تحريضًا لا وصفًا! مع أنها في الحقيقة لم تُحَرِّضْ على ذلك، فمثلاً مسرحية «مدرسة المشاغبين»، والتي تحولت لفيلم أيضًا، لم يكن الهدف منها التركيز على الطلاب المشاغبين، وإنما التركيز على دور المُدَرِّسة التي شكلت في تفكيرهم وسلوكهم، ولكن –وبكل آسف- أصبحت معظم مدارسنا «مدارس مشاغبين»!
كذلك ما تتناوله الصحف والقنوات الفضائية والكتابات المختلفة، والتباين في الآراء حول القضية الواحدة والحدث الواحد، على القارئ أن يُمسك بالصحيفة ولا تُمسك الصحيفة به! فيتابع ويلاحظ ويحلل ويكوِّن رأيه. وعلى المشاهد أن يدقق ويحلل خصوصًا وسط هذا الصخب والضجيج اللذان تُحدثه بعض القنوات الفضائية، كذلك فحص الشائعات، فليس كل ما يتم تداوله صحيح دائمًا، وهذا ما يسميه فرنسيس بيكون بـ «وهم السوق» ضمن الأوهام الأربعة التي تعوق التفكير، فالناس يذهبون للأسواق ويتبادلون الكلام غير الموثق ثم يتناقلونه باعتباره حقائق مؤكدة، وهذا ما يقود بدوره للفكرة التالية:
ثانيًا: تنوع المصادر
في حقيقة الأمر فإن الإعلام المُهَدَّفْ لا يكون حياديًا، وإنما موضوعيًا! كيف يكون هذا؟ الحيادية هي إمساك العصا من المنتصف، أما الموضوعية فهي إمساكها من الطرف وإن كان شائكًا! والحيادية قد تكون مطلوبة وقد تكون مرفوضة، أما الموضوعية فهي مطلوبة دائمًا، ومن هذا المنطلق فإن كنَّا بحاجة للحيادية بعض الوقت، فإننا بحاجة للموضوعية كل الوقت! ويمكنني القول أن الحيادية أقرب إلى الترمومتر الذي يقيس درجة الحرارة، أما الموضوعية فهي أقرب إلى الثرموستات الذي يغير ويُكيِّف درجة الحرارة.
لذلك فلكل مصدرٍ واعٍ توجُّه وهدف مرجو، وليس مجرد تشخيص، وبالتالي تختلف التوجهات والأهداف، ولذلك يمكن أن أقول أن الوعي نتيجة التنوع! بمعنى: وعي المشاهد نتيجة تنوع مصادره، وهذا يمنع من أن يصنع (المشاهد أو القارئ) «كهفًا ضيقًا خاصًا به»! واستعير هذا الوصف من فرنسيس بيكون الذي تحدث عن «وهم الكهف»، وقد استعار بيكون هو أيضًا هذا المسمى من «أسطورة الكهف» لأفلاطون، وفى هذا الوهم تتحكم التجارب الشخصية الضيقة التي نمر بها في نظرتنا للأمور دون موضوعية (تبني وجهات نظر ضيقة الأفق نتيجة قناعات شخصية أو محاولة إيجاد حلول لمشكلات كبيرة، قياساً على خبرات شخصية ضئيلة).
وكما يؤكد كثيرون أنك لو قرأت كتابًا واحدًا؛ ربما ستتبع صاحبه وأن مُغمض العينين، ولو قرأت كتابين؛ ستحتار بينهما، أما إذا قرأت مئة كتاب؛ سيكون لك رأيك الحر!
ثالثًا: تداخل الألوان
وأقصد بها تداخل الألوان بالنسبة للمصدر الواحد، فعلى سبيل المثال تقديم كافة النماذج من خلال الأعمال الفنية مثلاً. تقديم الخير والشر، الطبيعة الساحرة والمناطق العشوائية، وإني أزعم أن الفن المصري (أقصد فن التمثيل) لم يعد ماهرًا في تسويق الأماكن السياحية والطبيعة الجميلة ببعض المناطق بمصر، لكنه ركَّز على المناطق العشوائية وما يحدث فيها من أعمال عنف وبلطجة، عكس الأعمال الفنية التركية فمع أنها مطاطة ومملة دون داع، لكني أزعم أنها نجحت في تقديم طبيعة خلاَّبة ببعض الأماكن بتركيا.
كذلك من المناسب أن يقدم المصدر الإعلامي الواحد الرأي والرأي الآخر، نعم يتبنى وجهة نظر واتجاه خاص به فهذا حقه، لكن يعرض ولا يتجاهل، يُفَنِّدْ ولا يتنصل، مع السماح بمساحة الاختلاف وسط مناخ صحي، قال الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.»، كذلك قال فولتير لﭼان ﭼاك روسو: «أختلف معك في كل كلمة تقولها، لكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا، من أجل أن تقول رأيك.»
رابعًا: أسلوبٌ أمثل
كل ما فات دون مراعاة الأسلوب الأمثل، هو جهدٌ ضائع وطاقة مستنزفة، لذلك فلا داعي من الخطاب التهكمي أو التكفيري مقابل الفكر المختلف، أو لغة التصنيف السائدة على الساحة هذه الأيام، أو مسايرة الشارع في الألفاظ الخارجة عن حدود اللياقة والأدب، كل هذا يُصَعِّدْ ولا يُجسِّدْ، يجعلنا نخسر مواقفنا بالرغم من صحتها في مرات كثيرة، بل ونزيد الأزمة اشتعالاً.
فلنفحص ما نسمعه وما نقرأه، ولا نسير في سكة القطيع، لأن الأغلبية ليست دائمًا على صواب. فلنُصغي بإنصات، ونقبل بعضنا البعض بحب، ولنبدأ بأنفسنا دائمًا، فلنفكر ولا نُكفِّر!