دراساتدراسات كتابية

الابن الأكبر في الكنيسة

الهدى 1213- 1214                                                                                                          سبتمبر وأكتوبر 2019

مثل الابن الضال هو جوهرة الأمثال وهو أفضل قصة قصيرة كتبت في الأدب. ولا يزال معلمًا وملهمًا في كل مرة نقترب إليه بروح التعبد والتعلم. وهنا نقف أمام الابن الأكبر الذي يحتل مكانة مهمة في هذا المثل بل وهو قصد هذا المثل لأن المسيح كان يكلم به الكتبة والفريسيين الذين يمثلون هذا الابن الأكبر مقابل العشارين والخطاة الذين يمثلهم الابن الأصغر.
وحقيقة نجد أنفسنا أمام الابن الأكبر في حيرة. لأننا لو وضعنا أنفسنا مكانه لن يكون الأمر سهلا أو لو دعينا لحل مشكلة أسرية مشابهة سوف نجد أنفسنا في تعاطف غير متكلف مع هذا الابن وخصوصًا لأجل عدة أمور :
هو لم يجرح أبيه ولم يسبب له إهانة وسط القرية فهو لم يطلب ميراثه من أبيه وهو حي كما فعل الابن الأصغر بل كان محافظًا على صورة أبيه ولم تتشوه بسببه.
هو لم يذهب إلى كورة بعيدة ولم يبعد عن البيت ولا عن القرية ولا عن الأب بل ظل قريب من الأب وداخل البيت وفي قريته خلافا لما قام به الابن الأصغر في كل هذه الأمور.
هو لم يترك الخدمة فهو يخدم أبيه سنوات طويلة وظل أمينا على هذه الخدمة لم يتركها وحتى في هذا المثل نتقابل معه راجعا من الحقل. أما الابن الأصغر فترك كل شيء.
هو لم يتجاوز وصية الأب بل كان مطيعا وخاضعا لتوجيهات ورغبات الأب ولم يفعل مرة ما لا يريده الأب بخلاف الابن الذي تملكه العناد والرفض والتمرد.
هو لم يبدد ثروة أبيه مع الغرباء في عيش مسرف وحياة غير منضبطة بل كان حريصا على كل شيء بخلاف الأصغر وما بدده وأهدره.
هو لم يأخذ مقابل لخدمة أبيه طيلة السنوات الماضية فهو بحكم السن خدم أكثر من أخيه وبحكم الحالة التزم وبحكم الواقع تعب ولكن لم يكافأ ولم تكن له فرصة أن يفرح أو يحتفل مع أصدقائه حتى لو بحفلة صغيرة يذبح فيها ليس عجلًا مسمنًا بل جديًا صغيرا ليفرح به ويستمتع بعشرة أصدقائه.
هو لم يستشار فيما حدث من احتفالات وأفراح في المنزل بل لقد عرف من أحد الغلمان عندما سمع صوت الاحتفالات يضج به بيته.
وهنا يأتي سؤاله وسؤالنا: أليس أنا من يستحق التكريم؟ الأفراح والعجل المسمن والحلة الأولى والخاتم والحذاء والطرب والرقص يستحقهما الضال مبدد الأموال مهين الأب أم الخادم الملتزم المطيع الذي لم يأخذ شيئًا؟
من يُكرم الصغير أم الكبير؟ من أحق بهذا كله؟ أليس أنا؟
وهنا شعر الابن الأكبر بغضب شديد تجاه الظلم والتمييز الذي حدث. هل له أن يعبر عن هذه المشاعر في موقف رافض لما حدث؟! ماذا لو حدث معك شخصيا هذا الأمر هل ستكون أقل غضبًا وحزنًا ورفضا ورثاء لذاتك من هذا الابن؟! هل ستستطيع سريعا أن تغفر لأخيك وتستوعب عمل أبيك وتدخل البيت وتفرح وتقبل أخيك بالأحضان وتساهم في مزيد من الأفراح داخل البيت أم كنت ستتخذ موقفًا قد يكون موقف الابن الأكبر أكثر احترامًا منه؟ لا شك أنه أمر محير ويجعلنا نتعاطف مع هذا الابن المظلوم.
من فيهم أفضل حالًا الصغير أم الكبير؟ لا شك أن الصغير في بعده وتصرفه أكثر خطًأ بل وجرًما في حق أبيه وأخيه ونفسه وميراثه وبيته وكل شيء ولكن ما يصنع الفارق هو قرار بدونه كانت حياة الأصغر في اتجاه مختلف تماما وهو قرار التوبة. إن ما يصنع الفارق ليس إلا قرار التفكير في الخطأ والاعتراف به والندم عليه تغيير الاتجاه والاستعداد الحقيقي لدفع الثمن وهذا ما حسن جدًا من موقف الأصغر.
لقد أتى الصغير ليقول لأبيه أنا أخطأت فيما جاء الكبير ليقول لأبيه أنت أخطأت.
لقد أتى الصغير ليقول لأبيه أنا لا أستحق أي شيء فيما جاء الكبير ليقول لأبيه أنا استحق كل شيء.
لقد أتى الصغير ليقول لأبيه إن تفضلت على أجعلني كأحد أجرأك لكن جاء الكبير ليقول ابنك لا يقبل داخل البيت حتى ولو أجير.
لقد دخل الصغير البيت وبرغم فظاعة جرمه دخل البيت واتكل على نعمة ورحمة وقبول الأب بينما ظل الكبير خارج البيت واتهم الأب بالظلم والقسوة والتهور.
إن هذه المقابلات هي التي وضعت الفارق وهي التي أظهرت المخطئ المبرر والمبرر المخطئ. وهنا نقف أمام مشكلات الابن الأكبر التي جعلت منه هذه الصورة التي بالرغم من البر النظري الظاهري لكن الأصغر يظهر في صورة أكثر قبولا. فنحن نقبل أن نكون الابن الضال بكل خطأه ونرفض أن نكون الابن الأكبر بكل بره. وهنا نقف أمام أربعة مشكلات مع الابن الأكبر :
1) مشكلة مع أخيه :
– كان للابن الأكبر في كل أسرة ضعف الميراث وهذا امتياز يشمل مسؤولية جسيمة وهي أن الأكبر مسؤول عن أخوته وهذه المسئولية لم يدركها الابن الأكبر. فلم يشعر بمسئولية عن أخيه وهذا يستدعي أنه ليس فقط ينتظره أو يفرح برجوعه بل أيضا أن يخرج ويبحث عنه ويرده إلى بيت أبيه.
– مشكلة عدم قبول إمكانية التغيير فظل الأكبر ينظر للأصغر أنه الابن المستهتر المخطئ الطائش الخاطئ ولم يقبل إمكانية التغيير والخبرة التي حصل عليها من تجربته المريرة فظل يحبس أخيه في قالب معين وصورة غير قابلة للتغيير وأن الصورة السلبية هي التي تلتصق به طيلة حياته مهما حدث.
– لم يغذِ إحساس الأخوة بل كان يقول لأبيه ابنك هذا فلم يكن يملأ قلبه وفكره بأن هذا المخطئ البعيد الضال العائد هو أخيه وهذه علاقة لا يمكن أن تنفصل ولا يمكن للأخطاء مهما عظمت أن تهدمها وأن الموقف هو الإصلاح وليس البعد.
– لقد مارس نوعًا من التشويه لأخيه (الذي أكل معيشتك مع الزواني) وعايره بالماضي المؤلم وهو في هذا الوقت لا يحتاج إلى مزيد من التأنيب والتذكير بالخطأ فيكفيه ما شعر به وما عاشه هو يحتاج الآن إلى حضن يقبله ويشعره بالقيمة والقبول غير المشروط ولم يكن هناك أقرب من الأخ ليقوم بهذا الترحيب والأحضان المفتوحة ولكنه للأسف حزن جدا لرجوعه وتألم لعودته.
2) مشكلة مع أبيه :
– لقد تجاهل الابن مشاعر أبيه فلم يقدرها ولم يقدر لهفة أبيه على رجوع أخيه بل ولم يدرك أن الأب ينتظر الابن وذلك يظهر صورة البعد الحقيقي عن الأب بالرغم من التواجد الظاهري القريب في نفس البيت والحقل لكنه لا يعرف ما في قلب الأب وعندما رأى فرحة أبيه أفسدها ببعده وتمرده وغضبه.
– لم يسلك الابن مع أبيه كابن بل كعبد فقد وصفت العلاقة معه بعلاقة خدمة العبد سنوات هذا عددها. ووضح أنه لم يأخذ مقابل أو أجرة لقاء خدمته وهذا لا ينتظره الابن بل العبيد أيضا كان ينتظر القليل جدا من مجد وغني الأب «جديا» وهذا ليست انتظارات الأبناء فالابن له كل شيء. وهذا ما رد به الأب عليه فأكد له أنه ابنه «يا بنى» وأنه مالك وليس عبد كل ما للأب فهو له وأنه واحد من أفراد الأسرة الذي ينبغي أن يشاركهم الفرحة برجوع الضال ولكن هو لم يقدر ذلك.
– لم يحترم حرية أبيه في تقرير أملاكه بل حاول الحجر على أبيه نتيجة تصرفات يراها هو أنها غير عاقلة ومتهورة في حين أن ميراثه لم يكن سيتأثر بأي مما أخذه الابن الأصغر فالأب أغني جدًا جدًا مما أخذ الأصغر والأكبر له أكثر كثيرا مما يظن أو يتوقع لكنه بنظرة ضيقه لما يتوقعه اتخذ مواقف متسرعة وخاطئة.
– بالرغم من تقدير الأب له وخروجه خارج البيت ليرده هو أيضا. وأظهر الأب تفهما واحتواء ومحبة وشرح واقناع ودعوة وكرم وتأكيد البنوية والأخوة ولكن لم يعط أي اهتمام أو تقدير للأب بل تجاهل كل هذا وقاده غضبه إلى التمرد والعناد والرفض فلم يرفض أخيه فقط بل رفض أبيه أيضًا واتخذ موقفًا مغايرًا لما يقتضيه احترام وتقدير الأب سواء في الثقافة المجتمعية أو الدينية في ذلك الوقت.
3) مشكلة مع الأملاك والماديات:
– لقد كانت النظرة المادية لدى الابن الأكبر تحكم كل أفكاره وتوجهاته وأفعاله وردود أفعاله ومواقفه سواء مع الأب أو مع الأخ وكان يحسب كل شيء بمبدأ المكسب والخسارة المادية لذلك رأى أن رجوع الأخ يمثل خسارة مادية له وينقص من نصيبه الذي كان ينتظر أن يأخذه بلا شريك أو منازع وبعد الأخ هو فرصة لنوال كل شيء لكن رجوع الأخ حطم كل هذه الأحلام التي ظل طيلة سنوات غياب أخيه يحلم بها.
– بالإضافة أن هذا الأمر انعكس على تقييمه للأمور فقد كانت لديه قيمة الأملاك والماديات أغلى وأبقى من الأشخاص والعلاقات حتى لو كان الشخص هو أخوه. وكان لديه الفرح بأنّ يخسر أخيه ويكسب ماديات على أن يكسب أخيه ويخسر ماديات. مع العلم أنه بدراسة الأعراف المتبعة وطرق تقسيم الميراث والمعيشة لن يؤثر رجوع الأخ الأصغر على الأكبر في شيء ولن يأخذ من حقه أو ينقصه، فالأب أغنى من أن يؤثر رجوع الأصغر على نصيب وميراث الأكبر.
– تظهر أيضا هذه النزعة عندما كان يخدم أبيه وينتظر المكافأة المادية لقاء هذه الخدمة مع أن الابن لا ينتظر الأجر بل هو مالك لكن الانغماس في محبة المال وتعظيم دور الماديات يجعله ينتظر أي شيء حتى لو كان جديا صغيرا ويجعله يحزن ويكتئب عندما لا يأخذ هذا الشيء الصغير وأيضًا يفرح إذا أخذه بالرغم من أن الفرح العظيم في ذلك الوقت هو في استعادة إنسان ضال وعودة أخ مخطئ واكتمال الأسرة مرة أخرى ولا يعلو هذه الفرحة فرحة أخرى لكن عندما تتحكم النزعة المادية في حياتنا فأنها تشوه الحياة وتعكس المقاييس.
4) مشكلة مع نفسه:
قد تكون هذه هي بداية وأصل كل المشكلات السابقة فهذا الإنسان كان لديه مشكلة مع نفسه أو في نفسه انعكست على علاقاته مع أبيه وأخيه وسيطرت على نظرته للماديات. وهي مشكلة داخلية شخصية ظهرت في التفكير الأناني الذاتي الذي يضع الذات والمصلحة الشخصية المادية المباشرة فوق كل شيء وتحكم كل شيء. فالتفكير الأناني يقتل صاحبه ويقيد علاقاته ويحول فرحه إلى حزن. لم يستطع أن يفرح مع الباقين حتى العمال في بيت أبيه لأن تفكيره تسلط عليه وأفسد عليه فرحته وفرحة البيت.
وعندما جاء الابن لم يفكر فيه بقدر ما فكر في نفسه وبدأ الأب يتكلم عن الابن الراجع لكنه بدأ يتحدث عن نفسه وعن حقوقه وعن مصالحه وعن مكافأته وخدمته والتزامه وعن فرحه مع أصدقائه. إن التفكير الأناني يحول أية قضية إلى قضية شخصية ويجعل المقارنة دائما تجول في الفكر وعند كل موقف يقارن الشخص الأناني الآخر بنفسه وذلك دائما ما يتحول إلى ألم وحزن وشعور بالنقص بل والغضب.
بالإضافة إلى ذلك لقد كان لديه مشكلة مع نفسه وهو إحساس الأفضلية فقد كان يحكمه إحساس إنه أفضل من هذا الابن الأصغر الضال والمستهتر وبدأ يقدم نفسه النموذج الأفضل من خلال ذكر حسناته بل وصل الأمر إلى تشويه صورة أخيه لكي تبقى صورته هي الأفضل.
هناك أيضًا مشكلة أنه كان يحسب ويفكر في نفسه دون أن يدري كأنه أجير عند أبيه وهذا ما حاول الأب تصحيحه عنه ولكن دون جدوى.
فقد ظل خارج البيت يطالب بالحقوق ويعرض مظلوميته وينتظر القرار الحاسم من الأب لعله كان ينتظر طرد الابن الأصغر ليعود للتيه والضلال وهذا أفضل بالنسبة له من الأمر الواقع ولكن لن يرضي الأب أبدا بهذا الحل ولكنه عرض عليه الدخول للبيت والشركة والعشرة الحلوة مع أخيه ومع الأب.
في وسط الأفراح حزن واكتئب وغضب، وفي وسط الإكرام للأصغر ظل يعاتب ويجاهر بنفسه واستحقاقاته، وحينما كان الجميع داخل البيت ظل هو خارجا. فهو ابن لكنه سلك كعبد ومالك لكنه تصرف كأجير وخادم للأب لكنه كان بعيدًا عن فكر الأب ومشاعره والشركة الحلوة معه وداخل البيت لكنه خارجه فكرًا وتوجهًا.
هناك نهايات مختلفة لهذه القصة كلها افتراضية منها من ذهب إلى أن الابن الأكبر تجرأ علي الأب وحاول ضربه بعصا كانت في يده فاستقبلها الأب بعصا في يده ليصد بها الضربة فأخذت العصاوان شكل الصليب
ومنها أنه ظل خارجا أو قد يكون له فرصة للدخول.
لكن ما يهمنا الآن هو أن موقف الابن الأكبر كثيرا ما يمثل أشخاص كثيرين داخل الكنيسة أعضاء وخدام. إن مثل هذه الطريقة من التفكير تجدها لدى كثيرين من الكنسيين والمتدينين في مجتمعاتنا الكنسية في هذه الأيام. وهي على سبيل المثال لا الحصر :
عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه الأخر بل وعدم الفرح لأجل رجوع الضال.
عدم قبول إمكانية تغيير الأشخاص وحبسهم داخل خبرات سابقة قد تكون حقيقية أو افتراضية.
تشويه ومعايرة الأخر بالماضي القديم.
محاولة التحكم في توجهات الله تجاه الأخرين ورسم طريقة لنعمة الله كيف تعمل وكيف لا تعمل. ومحاولة الحجر على تعاملات الله مع الآخرين.
التعامل مع الله بمبدأ الأجر والمكافأة والمقابل وليس الابن المالك.
النظرة المادية وشهوة الامتلاك التي تجعلنا نخسر علاقات وأشخاص ونحسب كل الأمور بمبدأ المكسب والخسارة المادية.
التفكير الأناني الذي يفكر دائمًا في النفس والمصلحة والمقارنة دائما بالأخر وتشويه الأخرين لتحسين صورتي والتركيز والتعالي على الآخرين والمجاهرة بما أعمل وإظهار نقائص الأخرين.
كل هذا وأكثر هي انعكاسات لصورة الابن الأكبر في الكنيسة هذه الأيام.
ليت كل ابن أكبر يتخذ طريق الابن الأصغر في العودة إلى النفس والإحساس الصادق بالخطية والرجوع إلى الأب وبيت الأب والاعتراف بالخطأ حينها سيفرح الأب وكل البيت وحتى الابن الأصغر ويذبح عجلًا مسمنًا وحلة أولى وخاتم وحذاء وطرب ورقص لأنه حياة بعد موت وعودة بعد ضلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى