هل كنيستنا مصلحة؟
الهدى 1225 نوفمبر 2020
«راحت ترددات صوت مِطرقة لوثر وهو يَدُق اللائحةِ فى باب الكنيسة تهدِر كالرعدِ، موقظة أوروبا من سُباتها الروحىّ فانتشر إنجيل الإصلاح فيها ومنها إلى كل أنحاء العالم».
في صبيحة آخر أيام شهر أكتوبر عام 1517م، لم تكن مدينة ويتنبرچ الألمانية التي نامت ليلتها في هدوءٍ تتوقع أن تصحو على صوتِ مِطرقة الراهب الأوغسطينيّ مارتن لوثر، وهو يدُق لائحة طويلة من الأسئلة والاعتراضات على باب كنيسة جميع القديسين، بل ما كان يخطُر على بال أحد أن يتجرأ كائن من كان ليُسائل أو يعترض على ما أقره بابا روما، الذي قيل عنه بحسب البابا إنوسنت الثالث (1161 – 1216م): «البابا هو نائب يسوع المسيح، هو وسيط بين الله والناس!»، بل أن البابا بونيفاس الثامن (1235 – 1303م) قد تمادى قائلًا: «لابُد أن يخضع للبابا كل من يُريد الخلاص!» لكن الله أراد أن يضع في هذا اليوم نهايةً لهذا التعدي، وتصحيحًا لهذا المسار المُنحَرِف؛ فكَتب للوثر النجاح فيما رمى إليه من إصلاحٍ، انتشر في كل أرجاء أوروبا مُقوّمًا الحياة الروحيّة، بل والاقتصاديّة، والسياسيّة أيضًا.
ونحن نحتفل –أو هكذا كان يجب- بذكرى مرور ثلاثة أعوام بعد المئة الخامسة للإصلاح الإنجيليّ، وقد غضت الغالبية الطرف عنه، أو ربما نسوه، أو تناسوه، فلست هنا لأحكي لك -كعادتي- عمّا كان وما جرى من أمر لوثر ورفاقه؛ فكُتب التاريخ ملئى بآلاف الصفحات، وإن شئت أحلتُكَ لكتاب تاريخ الإصلاح للعلَّامة ميرل دوبينياه، فهو يسرد الكثير والكثير؛ لكنني هنا لأطرح هذا السؤال الذي هو عنوان مقالتي لك «هل كنيستنا مُصلَحة؟» ولعلك تتعجب من سذاجة السؤال، أو تتخوف من لغم مخفي بين أحرفه، وكلها أمور مشروعة لك؛ أما أنا فلست أقصد إلّا السؤال والبحث، فبدء الإصلاح كان سؤالًا! ودعني هنا أستعير إحدى تعابير الكاتب والأديب يوسف زيدان في إحدى رواياته، إذ قال: «تبقى الحياة حيَّةً، مادام السؤال دائِرًا!»
وللتفكير في إجابة هذا السؤال، تعالى معي إلى غرض هذا المقال، ألا وهو إدراك سِمات الكنيسة المُصلَحة. أحدثك هنا –باختصار غرضه العرض لا الشرح- عن ست سِماتٍ، أترك بعدها لفطنتك القياس والحُكم. فهيا بنا -يا عزيزي- نضع اللَبِنة الأولى معًا.
أوَّلاً: السُلطة (الكتاب المُقدّس/ الإكليروس)
شهدت العصور الوسطى شِبه قطيعة بين الكنيسة والمؤمنين من ناحية، والكتاب المُقدّس من ناحية أخرى، حين أصرّت الكنيسة مُتمثلة في باباواتها أن يبقى الكتاب بعيدًا عن الشعب، حِكرًا على الإكليروس وحدهم، وكان السبيل لذلك هو إبقاءه في لغته اللاتينيّة، حتى تحول إلى طلاسم لشعب يجهل اللاتينيّة؛ على أن هذه النسخة لم تكُن سوى ترجمة حررها القديس جيروم (347- 420م)، فلو أنهم أصروا على إبقاء الكتاب في لغتيه الأصليتين لكان الأمر مفهومًا، أما الإصرار على رفع ترجمة ما إلى هذه العِصمة ماهو إلا إصرارًا على غلق الأبواب في وجه طارقيها! واحتكارهم هذا فتح الأبواب الخلفيّة للتعاليم الغريبة عن صكوك الغُفران، والمطهر، وعصمة الباباوات، وما إلى ذلك.
لكن ما فعله مارتن لوثر ورفاقه، قد أعاد الكتاب إلى أيدي المؤمنين، وقلوبهم، وعقولهم؛ فأصبح الكتاب المُقدّس وتفسيره ليس حِكرًا على أحدٍ، وصارت سُلطة الكتاب المُقدّس هي الأسمى بين الكنيسة، وتراجعت إلى جانبه باقي سُلطات التقليد والإكليروس، وانطلقت الترجمات تحمل إعلان الله، وتُجَسِّدُ كلمته لكافة المؤمنين؛ غير أنَّ ما قدمه الإصلاح من تكريسٍ لسمو مكانة الكتاب المقدّس، ماكان غرضه أبدًا إهمال التقليد أو التقليل من شأنه، إنما القصد هو ألا يتساوى تعليم الله وتعليم البشر، ولا كان هدفه أن ينال الكتاب المُقدّس –على رِفعَتهِ- مكانة المسيح!
والسؤال الأول هو: هل ما تزال كنيستنا اليوم تسمو بمكانة الكتاب رأسيًا، وتتسع بترجماته وتفسيره -في كل قرينة- أفقيًا، وفي هذا وذاك تُدرك دور التقليد، وتفرُّد مكانة المسيح، أم لا؟
ثانيًا: المركزيّة (المسيح/ الوسائط)
ما قبل الإصلاح، كان الطريق إلى الله يمر عبر الحياة الزاهدة المتقشفة، والعمل الصالح، والطاعة العمياء للإكليروس. وما كان من الممكن قبله أن يتقدم أحد ليقول أن الخلاص بالمسيح وحده، ولسنا بحاجة لتكميل عمله بوساطة القديسين والإكليروس، أو الأعمال الصالحة، أو حتى الأسرار الكنسيّة! ما فعله الإصلاح أنه أعاد المسيح إلى مركزيّة الخلاص، وأعاد الخلاص إلى تمام عمل المسيح، لنفهم ما قصده المسيح إذ قال: «قد أُكمِل» (يو19: 30). لقد علَّم كالڨن –في إطار هذه العقيدة- بتحرير خلاص المسيح للمؤمن من القلق بشأن خلاصه، أو الحاجة لمزيد من الأعمال الصالحة، إنما الأعمال هي ثمار الخلاص، التي سبق وأعدها لنا (أف2: 10). أما عن القديسين، فقد علَّم المصلحون أنهم أمثلة يُقتدى بها. لا نُصلي إليهم، لكن هذا لا يعني أن لا دور أو أهميّة لهم.
تبرز أكبر التحديات لهذه السِمة المُصلَحة في توجهين فكريين، أولهما: (المحبَّة العبثيّة)، ومفادها أننا جميعًا سنخلُص في النهاية، لأن محبَّة الله لن تقبل برفض أحدٍ ؛ وثانيهما: (الوحدة المغلوطة)، وهي تُفيد أن جميع الأديان ما هي إلا فكرة واحدة، تؤدي إلى وجهة واحدة في النهاية. وبالرغم مما تبدو عليه هاتين الفكرتين من الأرجحية والتسامح، إلا إننا لا يُمكن أن نغض الطرف عما تنطوي عليه الأولى من عبثيّة خفيّة، ولا عن مُغالطة الثانية التي ساوت مثلًا بين النظرة الأخرويّة للمسيحيّة، والبوذيّة مثلًا.
بين مركزيّة المسيح، وكفاية ولزوم عمله من جهة، وتقدير الأعمال الصالحة، وتوقير رجال الله القديسين، والمحبَّة العبثيّة والوحدة المغلوطة من جهة أخرى؛ هل تُدرك كنائسنا دورها إزاء الإصلاح؟ كان هذا هو سؤالنا الثاني.
ثالثًا: التبرير (الإيمان/ الأعمال)
إنَّ مبدأ التبرير بالإيمان وحده (أفسس 2: 8-9) الذي نادى به لوثر، ولاقى في سبيله الحُرم في مجمع ترنت (1545-1563م)، لم يقم فقط في مواجهة الميراث الثقيل من التعليم بالخلاص بالأعمال، وغيره من الوسائط؛ لكنه قاوم أيضًا ميراث الهرطقات التي ذاعت في القرون الأولى للمسيحيّة كالبلاجيّة التي علَّمت بإمكانية أن يرتقى الإنسان بخطواته نحو الخلاص بعيدًا عن النعمة، وشِبة البلاجيّة التي أشركت إرادة الإنسان مع نعمة الله، والتآزريّة التي قالت بأن النعمة الإلهيّة، والأعمال البشريّة تعملان معًا لخلاص الإنسان. إن نداءات الإصلاح الثلاثة (المسيح، الإيمان، النعمة وحدهم) قد حررت المؤمن من رُبُطٍ ناء بها كاهله، لا سيما الماديّة منها التي تفاقمت مع جشع وفساد الإكليروس.
وللتنويه وجب عليَّ التأكيد أن التبرير بالإيمان هي واحدة من العقائد التي لم يختلف عليها إثنان من المُصلحين، إلا أن ذلك لم يدفعهم لإذدراء الأعمال الصالحة أو المُناداة بعدم لزومها، لكنهم نادوا وعلَّموا بأنها ثمار الإيمان العامل؛ وهذا ما يوصلنا لسؤالنا الثالث وهو: هل تستقيم كنائسنا في إعلان التبرير بالإيمان، دون انحرافٍ لليمين تصلّفًا في صف الأعمال، أو إلى اليسار تفريطًا بإذدراء مكانتها في حياة المؤمن؟
رابعًا: المساواة ونسف الهرميّة
ساهمت دعاوى الإصلاح بكهنوت جميع المؤمنين في تحطيم أغلال السُلطة، بل إنها قد ضربت منظومة السُلطة الهَرميّة للكنيسة الرومانيّة في مقتلٍ، وقد تعدى تأثير هذه النداءات حدود الكنيسة لينسحب إلى المجتمع والحياة السياسيّة، فيكون مُحرِكًا للحركات التحرريّة، والانتفاضات الشعبيّة، وباعثًا للنزعة القوميّة لدى الشعوب. كما كان لنظام تأسيس الكنيسة الديموقراطيّ الذي وضع لبِنَته الأولى المُصلحون، تأثيرًا لا يُمكن إنكاره على سائر الأنظمة السياسيّة الأوربيّة، التي استقرت فيها فكرة المساواة، والتمثيل؛ فلا يُمكن أن يَظِنُ ظَانٌ مثلًا أن دعائم الديموقراطيّة المُتأصلة في أرجاء أوروبا الآن، والتي لم تكن معروفة في القرون الوسطى، لم يكُن للإصلاح الإنجيليّ دورًا في إرساءها!
غير أن الأمر أيضًا لم يسلم من التشويه، فمع تقدم المسيرة، وانحِراف البعض عن المسار الأصيل، ظهرت الفرديّة لتضرب كنائسنا كمتلازمة لمبدأ كهنوت جميع المؤمنين، ونظرًا لسوء الفهم، أو التطرف -ربما- ظهرت نزعات تُنادي بعدم احتياج الفرد للجماعة، فما دور الجماعة إن كنت أنا كاهن نفسي! مُتناسين أن دور الكاهن يتخطى ذلك في أن يكون الفرد كاهنًا للآخر، يحمل له البِشارة، ويُصلي لأجله، ويُشاركه، ويتبادلان التعليم، والمشورة!
فهل تُقدم كنائسنا تعليمًا واضحًا، يوضح علاقة الفرد بالجماعة، ولا يكرِّس لسُلطة هرميّة فوقيّة، أو يُهادِن فوضويّة شعبيّة، أو دعاوى الإنعزاليّة والشرذمة؟
خامسًا: الصوت النبويّ
كما رأينا سويًّا – يا عزيزي- فيما سبق كيف تعدى الإصلاح حدود الكنيسة، بتقديمه النموذج والتأصيل؛ بإظهاره فكر الله من ناحية حُريّة الإنسان، والسُلطة الفوقيّة، والحياة التكامليّة، والبناء الديموقراطيّ؛ إلى جانب تغييره للنظرة القديمة للعمل، كونه لعنة أو عقابًا لأجل الخطيّة، بل هو شُكرنا وامتنانا لله بمعاونة وخدمة شركاءنا أبناء الله، فالوجه الآخر للعبادة بحسب كالڨن هو العمل.
ولمَّا تعدى الإصلاح حدود الكنيسة لم يتعداه طلبًا لسُطلة سياسيّة، إنما سعيًا لخدمة الإنسان؛ فاستطاع بقيّمه التي أرساها أن يكون الصوت النبوي الذي ارتفع أمام السُلطة الدينيّة والمدنيّة من أجل حُريّة الإنسان، والعدل والمساواة. وقد تجلى ذلك في العشرينات -مثلًا- حين قدم المصلحون الأوربيون إعلان بارمن، الذي انتقدوا فيه سياسات النازيّة الألمانيّة، والحزب النازيّ في قتل وتهجير وتهميش فئة من المجتمع، مُعلنيين بقوة صوت الكنيسة المُصلَحة النبوي في وجه الحاكم الزمني، أن السُلطان للمسيح وحده، .بل وبعض الرعاة والكهنة الذين هادنوهم آنذاك.
وسؤالنا هنا: هل أخرست دعاوى انعزال الكنيسة عن العمل السياسي لسانها النبويّ عن الاشتباك مع قضايا العمل، والمرأة، والديموقراطية، والتعليم، والعدالة الاجتماعيّة، والمواطنة؛ لتتوقف عن خدمة الإنسان خارج جُدرانها؟
سادسًا: ديمومة الإصلاح
«تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ…» (رو12: 2) إن هذه الآية التي تبلورت في الفكر الإصلاحيّ تحت مفوم «دائمًا مُصلَحَة» لهي السبيل والضمان لاستمراريّة الإصلاح وديمومته. وهو ما يعني استمراريّة الكنيسة لمُمارسة النقد الذاتي لعقيدتها، وعبادتها، وإرساليتها في ضوء كلمة الله، هذا النقد هو سبيل الكنيسة للبُعد عن التكلُّس والتحجر والجمود، الذي يُبعدها مع الوقت عن لمسات الله المُهَذِبة والهادية لها، هو الإطار الذي يُبقي الكنيسة مُتحركةً، ساعيةً نحو الله، من خلال السعي تجاه فهم الله، وتوقفها عن هذا السعي لا يعني شيئًا إلا أنها فجأة قد أدركت أنها قد انتهى إليها الأمر، وامتلكت زمام الحق، وبامتلاكه صارت لها السُلطة، وليست للمسيح! وارتباطًا بالنقطة السابقة، فما قدمه ديترتش بنهوفر من تصحيحٍ، ورأب للصدع الذي ضرب جسد المجتمع الألمانيّ، يُمكننا فهمه في ضوء ديمومة الإصلاح كتصحيح وإصلاحٍ للفهم المأخوذ عمّا كتبه لوثر عن اليهود، واعتبره البعض نواة الأزمة في المجتمع الألمانيّ.
هل تُمارس كنائسنا بشكل دائم نقد الذات وتقييم الأداء، أم انشغلت بنقد أو نقض الآخر؟
إنَّ الخطورة في التوقف عن نقد الذات، هي في التحول إلى نقد الآخر، ومُمارسة السُلطة عليه، كنتيجة للشعور بالفوقيّة؛ ولهذا السبب اخترت أن أجعلها ختام حديثنا معًا؛ فهذا المقال ما هو إلا مُمارسة للنقد الذاتيّ، وما محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة الستة إلا مُمارسة للنقد الذاتيّ بهدف تطبيق إحدى سِمات الكنيسة المُصلَحَة أن تبقى دائمًا مُصلَحَة.
لم يكُن استنكاري في بداية حديثنا لغياب الاحتفال بالإصلاح، طلبًا لمظاهر الاحتفال المألوفة، إنما طلبًا لتفعيل الإصلاح في كنائسنا لنكون مُستعدين دائمًا لإجابة كل من يسألنا عن صورة الإصلاح التي فينا.