لا هوية بلا انتماء
الهدى 1235 سبتمبر 2021
تَعَدَّدَتِ الأزمات الَّتِي تواجه اِستقْرار المُجتمَع الدّيني، وتَعدّ أُولىَ هذه الأزمات الَّتي تُهدَد المُجتمَع الدّيني بصورة خاصة ووجود أيّ جماعة بصورة عامة: هِيَ أزمة فُقدان الهُويَّة والسَبَب المباشر لَهذه الأزمة هو غِياب الانتماء! فالَّذي يُهدَد أيّ هُويَّة أنّ تَستمر أو أنّ تُوجَد مِن الأساس هو غِياب الانتماء، وما حاول التيار الفكريّ العالمي غير المُحدد اليوم الَّذي يَدعي الأفضلية البحثية والعقلية صياغتهُ وتصديرهُ لجيل اليوم: هو تَشكيل مجتمع بلَا انتماء، جيل بلَا انتماء، عقيدة بلا مرجعية؛ هذا يَعني إنسان بلا هُويَّة. مُدعي هذا التيار بقوة بأن هذا هو التنوير والإصلاح الَّذي نَحتاجهُ لكي نتجه صَوبَ المستقبل! فيُواجه الانتماء الَّذي يَصنع هُويتنا تيارات هادمة تُشوه المَفهوم الجوهري للانتماء والهدف الأسمى له.
فالتَّيَّار الأول الَّذي يُحاول أنّ يَهدم الانتماء: هو تيار المقاربة بين الانتماء والتعصب! فأصبح بعض المفكرين يُصدرونَ لنا أنَّ الانتماء الديني أو العقيديّ هو مرادف للتعصب، فَنتج جيل يَظن في الانتماء خطر عليهِ وخطر يُهدد الإصلاح والتقدم. ولكن الانتماء ليسَ هو التعصب، بَل الانتماء المُعلن المُنفتح للآخر هو رفض للتعصب وترسيخ لمبدأ قبول الآخر المختلف. مثال: «أنا أؤمن بإن الفكر المشيخيّ هو الفهم الأقرب لغرض الكتاب المقدس لحياة الإنسان، كيفَ يحيا وكيفً يَخلص. فأنتمي فكرًا وقلبًا للفكر المشيخيّ، وفي ذات الوقت لا أُكفر الآخرين ولا أقول أنهم على خطأ! بل أقبل بكل الحب واعتراف بباقي المعتقدات المختلفة المتفرعة من الكنيسة العامة الكتابية، وأخدم وأتعلم معهم وأقبل إيمانهم كطريق للخلاص.» التيار الثاني لهدم مفهوم الانتماء: يوجه أنظارنا هذا التيار إلى أنَّ الانتماء مرادف للمحدودية الفكرية النظرية. فيعتقد البعض أنّ الانتماء يجعلنا مَحدوديّ الآفاق لنظرية واحدة وتوجه فكري واحد! ومِن ثُمَّ نفقد الكنوز الَّتي في الرأي الآخر. ولكن بأيّ مفهوم يومًا كان الانتماء محدودية! فالانتماء الَّذي أُشير إليه هو نافذة أَنظر مِن خلالها إلى النوافذ الأخرى. ننتقل للتيار الثالث: يُعتبر هذا الاعتقاد هو أخطر التفسيرات للانتماء، فيؤمن ويعيش البعض علَى أنَّ الانتماء هو التَكيُف الظرفيّ أو الموقفيّ! وهذا التوجه الفكري هو غير منطقيّ وغير كتابيّ. نعم، نحتاج أن نحيا في العالم ولكن ليسَ كما يَهوى أنّ نكون! ليسَ كما يُريد أن يُشكلنا! ولكن نحيا بمبادئ لا تتغير في ذاتها وتتنوع في تطبيقها وتفسيرها. فلا تظن عزيزي القارئ بأن التكيف المُتغير المرتبط بالظروف هو انتماء، بل هو دفن للهُويَّة تخوفًا من المواجهة والتغيير والإصلاح. بعد تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة عن الانتماء، نتسأل هنا: لماذا الانتماء هو الخطوة الأولى نحو وجود الهُويَّة؟! ولماذا أُعلن بأنه بدون انتماء لا هُويَّة؟! أُقدمْ ثلاثة أسباب لأهمية وضرورية الانتماء في وجود الهُويَّة. أولًا: الانتماء يصنع الهُوِيَّةُ. ثانيًا: الانتماء يُرسخ الهُوِيَّةُ. ثالثًا: الانتماء يَقود هُوِيَّةُ الإصلاح والتغيير.
أولًا: الانتماء يصنع الهُوِيَّةُ.
إنَّ الانتماء حاجة كل إنسان، وهذا الانتماء يتخلل الإنسان بكل كيانه وتوجهاته: نفسيًا وفكريًا وعمليًا. فنحتاج بشدة للانتماء لكيان ما، سواء كان كيان مادي أو معنوي. هذا الانتماء بدوره يَقود لصياغة الهُويَّة الجوهرية والمُعلنة للشخص أو للجماعة أو للمؤسسة، وهنا ينبغي أن نُدرك أنَّ الانتماء والهُويَّة وجهان لعملة واحدة! فلا هُوية بلا انتماء، فما يُصيغ الكيان الإنساني أو الكيان المؤسسي هو الانتماء لتوجه ما أو لمرجعية ما. فالإنسان لا تُعرف هُويتهُ في صحراء خاوية! بل في مجموعة ما وفي منظومة ما، سواء مجموعة بشرية أو منظومة فكرية. فالَّذي صنع الكيان اليهودي أمام العالم في القديم وسطر تاريخهم هو الانتماء إلى الشريعة اليهودية وإلى الإله الَّذي يقودهم وينقذهم ويحكمهم. والَّذي صَنع الهُويَّة اليونانية قبل مجيء المسيح هو الانتماء للعقل الفلسفي، وصياغة الثقافة اليونانية العالمية الَّتي صداها مازال إلى اليوم وسيستمر. فهُناك العديد من الأمثلة الَّتي تؤكد على أن الانتماء هو ما يصنع الهُويَّة، فكل مَن (ما) هو بلا انتماء اندثر وفقد هُويته الواضحة المُعلنة. وهذا التوجه الفكري ينطبق على الفكر الديني أيضًا، وبدوره على الكنيسة العامة، وعلى العقائد المتنوعة داخل الكنيسة؛ فكل كنيسة أو معتقد بلا انتماء يُصبح بلا هُويَّة ويُدفَن في ظلمة التاريخ، ويأتي مكانه كيان آخر ذو انتماء لتيار ما. فالانتماء يصنع الهوية بلا شك، والانتماء لعقيدة ما يصنع كيان الجماعة، فلَم تقوم وتستمر كنيسة أو مؤسسة بلا انتماء. فلكي نصنع معتقد يُغير ويقود الإصلاح والتنوير، ينبغي علينا أنّ ننتمي لمعتقد ما، فالفكر الَّذي يُوجهنا ناحية لا انتماء لمجموعة ما أو لمعتقد ما أو لنظرية ما هو فكر سيجعلنا نندثر فنُصبح كيانات لا وجود لها. فقال أسقف كانتربرى روبرت رانكي: إذا أردنا للتيار الإنجيلي الحالي الَّذي يُنادي بتجديد كنيسة إنجلترا أن يكون له تأثير مستمر، ينبغي علينا أن نعطي مزيدًا من الاهتمام لعقيدة الكنيسة. فلكي نُغير ينبغي أنّ ننتمي لعقيدة لهدف ما وطريق ما، وهذا بدوره يقودنا لصنع الهُويَّة.
ثانيًا: الانتماء يرسخ الهُوِيَّةُ.
نَتسأَلَ دائمًا: لماذا تذوب الهُويَّة سريعًا؟! لماذا قَبلما نُنتج إرثًا فكريًا وكيانًا مُعلن نجد أننا سريعًا ما نُعولم في العالم؟! لماذا كُلما حاولنا أنّ نصنع هُوية نجدها دُفنت في طيّ النسيان؟! وتكون مثل شجرة صغيره بلا جذور، فقط جذور سطيحة فجاءت بعض الرياح فاقتلعتها سريعًا! الحل هنا أنه إذا أردنا لجماعة ما أو منظومة أن تُؤسَس وتقف بثبات في الحاضر؛ ونَنظر فيها المستقبل الَّذي يقوى على العواصف، فعلينا بالانتماء. فالفكر اللاهوتيّ ذاته لا يحدث بلا انتماء، كتب القمص متى المسكين، قائلًا: «الفكر اللاهوتي في الكنيسة يعمل على مستويين: مستوى الكنيسة، هذا هو لاهوت العقيدة (انتماء ما) ومستوى الفرد أيّ الحياة الباطنية.» فلا اعتراض على وجود التوجه الشخصي بل هو أمر كتابيّ، ولكن التوجه الشخصي بلا انتماء لمعتقد ما وجماعة ما هو محض توجه فردي بلا مرجعية لا يقود لشيء ولا يقوى على الصمود. فالانتماء يُرسخ الهُويَّة: فانتماء التلاميذ للمسيح الَّذي صُلب ومات وقام في اليوم الثالث، هو جزء مما صنع لهم هُويَّة كمسحيين وسط العالم، فإذا لم يكن التلاميذ بلا انتماء لذلك لأصبحوا كالعصافة الَّتي تُذريها الريح. فقد شَهدَ العالم في زمنهم أنهم كيانًا مختلفًا وقويًا، لأن كان لهم انتماء قوي بإعلان يسوع هو المسيح.
يقول الكتاب المقدس في (رسالة أفسس 6: 14 _ 16): «فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ، وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ. حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.» فلكي نَهزم قوى الشر من أفكار وأعمال علينا بالثبات في الإيمان، وهذا الثبات لا يحدث سوى بالانتماء، فلا نجد مَن هو دَافع وثبت على معتقد ما أو هُوية ولَم يكن بلا انتماء. فيقول السيد المسيح في (البشارة حسب يوحنا 15: 4 _ 5): «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ، كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا.» فلكي نأتي بثمر ينبغي أن نثبت في المسيح فلا ثمر بلا ثبات والثبات يبدأ بالانتماء، وعلى هذا المنوال لا هُويَّة ولا ثبات ولا ثمر سوى بالانتماء فالعشوائية والانقسام الفكري لا يأتي بثمر.
ثالثًا: الانتماء يقود الهُوِيَّةُ الإصلاح.
إنَّ الإصلاح لا يبدأ مِن عشوائية الطرق، ولا يقود الإصلاح هذا الفكر المتردد ناحية معتقد ما أو توجه ما. فلكي نُدرك الإصلاح ونقود المجتمع إليه، ينبغي أنَّ يكون لنا انتماء فكري _ وانتماء جماعي _ وانتماء مؤسسي واضح ومُعلن للجميع. فالانتماء يقود للهُويَّة الواضحة والهوية الواضحة تَقود لهدف ما، وهذا الهدف ينبغي في كل جيل أن يتضمن الإصلاح والتغيير. أتعجب مِن هؤلاء الَّذين يُنادون بالإصلاح وهُم بلا هُوية وبلا انتماء واضح، فأيّ مرجعية تُنادون بها! دعونا ننظر للمسيح منذ بداية خدمته وهو له انتماء واضح، وهذا الانتماء أدي بالتدرج لهُويَّة المسيح ومِن ثُمَّ تكشف للجميع هدف المسيح من خلال هُويته. فجاء ليُكمل الناموس بالفداء فهو ينتمي ويحقق كمال الناموس، فلَم ينكر الشريعة بل كان يَعلم الأساس الَّذي منه يذهب لهدفه. أدى هذا الانتماء في عيون الشعب لوضع المسيح في قلب العهد القديم: فهو نبي وكاهن وملك، ونرى في رسائل بولس كيف يجعل انتماء المسيح قوي بالعهد القديم. هذا الانتماء وضح لنا طريق الخلاص من خلال إعلان هُويَّة يسوع المسيح بانه الطريق الوحيد للخلاص، وهذا ما أعلنه جميع الرسل بعد ذلك: بأن يسوع كان يعلم مَن هو ولماذا أتى وهو لَم يساوم يومًا على هذه الهُويَّة. ومن هنا حقق المسيح ثورة في المجتمع قادت التاريخ، لأنه كان ذو انتماء واضح محقق ومثبت هويته المعلنة للعالم أجمع. فما جعل الفلاسفة واللاهوتيين يقولون بأن المسيح لا يمكن سوى أن يكون ابن الله هو انتماءه الَّذي أظهر هويته وأعلن هدفه ورسالته. فعندما ميَّز جون كالفن بين الكنيسة الزائفة والكنيسة الحقيقة قال: «الحيْدُ عن العقيدة (الانتماء لتوجه ما) والعبادة الصحيحة (المبنية على العقيدة الكتابية) يُبطل ادّعاء الكنيسة الرومانية بأنَّها الكنيسة الحقيقية.» فلكي نُحقق التغيير ينبغي أن نذهب بالانتماء لعقيدة ما، ومن ثُمَّ ينتج عمل عبادة صحيح يقود الحياة العملية، وبالتالي تظهر هُويَّة واضحة (عقائديًا ومؤسسيًا) تقود الإصلاح والتغيير.
إنَّ الانتماء مرجعية وليسَ رجعية، فَفي الانتماء نجد الهُويَّة وليسَ الفردية، في الانتماء انطلاق للمستقبل وليسَ العيش في الماضي. فالانتماء ضرورة لأيّ كيان فكري أو مادي، فالانتماء هو ما يصنع الهُوِيَّةُ الَّتي بدونها لا نكون، وهو الَّذي يُرسخ الهُوِيَّةُ أمام تيارات العالم، وهو الَّذي يَقود هُوِيَّةُ الإصلاح والتغيير في وسط ظلمة الأفكار الَّتي تقف عائق أمام الإنسانية الَّتي يرغبها الله لنا.