دراسات

المسيحي والعمل

الهدى 1212                                                                                                                              أغسطس 2019

تحتل قضية العمل مكانة كبيرة في تفكيرنا بل وفي حياتنا. فللسواد الأعظم منا العمل هو مصدر الدخل لتسديد الاحتياجات الأساسية وغير الأساسية وهو أيضًا عامل رئيسي في تسديد حاجاتِ نفسية مثل الإحساس بالقيمة والنجاح والإنجاز والأهمية وتحقيق الذات.
ولا شك أيضًا أن كثيرًا من الضغوط والمشكلات في جوانب حياتنا المختلفة يمثل العمل فيها ركنًا أساسيًا. فمن منا ليس لديه مشكلة تخص العمل سواء كان عملًا تطوعيًا أو عملًا بأجر، سواء كان عملًا عامًا أم خاصًا. نحن عادة ما نتنقل في حياتنا بين ثلاث حجرات هامة الأولى هي حجرة العبادة والخدمة وكل ما يخص هذا الجانب والثانية هي حجرة العلاقات الاجتماعية وهي تشمل علاقتي بالأخر سواء القريب أو الصديق أو الجار أو الزميل أو حتى العدو والحجرة الثالثة هي حجرة العمل بكل ما يخصه من تفاصيل. ونلاحظ هنا أن البعض يتحرك في هذه الحجرات بمبادئ مختلفة في كل حجرة عن غيرها. فمثلًا نركز على الأمانة في العبادة والخدمة وفي نفس الوقت نترك ونهمل العمل، وكأننا في كل حجرة نرتدي الثوب الخاص بها الذي يختلف عن ثوب الحجرة الأخرى. ومرات يصنف البعض الحجرات ما بين ما هو روحي، وما هو جسدي. وهذا ينعكس ويظهر في إجابتنا على سؤال هام ألا وهو في أية غرفة يوجد الله؟
والمبدأ هنا الذي يقدمه الكتاب المقدس وخصوصًا في أفسس 6: 5 – 9 هو أن المسيحي في كل مجالات حياته (الغرف الثلاثة) من عبادة وخدمة وعلاقات وعمل (بكل أنواعه) هو يعمل هذه الأشياء جميعها للرب. ومن خلال النص السابق نرى مبادئ هامة تحكم العمل مع الوضع في الاعتبار اختلاف القرينة والظروف.
1) الله هو صاحب العمل.
العمل هو للرب ويُكرر بولس: كما للمسيح –كعبيد المسيح– عاملين مشيئة الله – كما للرب ليس للناس. وهنا لابد أن ننظر إلى العمل نظرة مختلفة فأيا كان عملنا لابد أن ندرك أننا نعمل للرب ونقدم عملنا للرب لا للناس فالعمل منذ القديم هو تكليف لآدم أن يعمل الجنة ويحفظها وكل الأعمال الجيدة هي مقاصد الله في حياة البشر سواء تعليم أو صحة أو تنمية أو نظافة أو خدمات للناس فهي مقاصد إلهية للحياة قبل أن تُقدّم لحكومةٍ أو لصاحب العمل. والمسيحي يعمل وكأن المسيح هو رئيسه في العمل وهذا يفرق كثيرًا عندما نقدم العمل كما للرب وليس للناس. فكل عمل تؤديه، أو شغل تنتجه، يجب أن يكون جيدًا بالقدر الذي يمكنك أن تقدمه بين يدي الرب وتسر به قلبه.
2) دعوة الرب لي في مكان عملي.
يرى المسيحي أن العمل ليس فقط وسيلة لكسب المال أو لتحقيق الذات بل فوق ذلك هي دعوة الرب نلبيها لتتميم مقاصده فالمسيحي خادم مكرس للرب في مكان عمله، القس في الكنيسة، والمعلم في المدرسة، والطبيب في المستشفى، والتاجر في متجره، والعامل في مصنعه، وهكذا. فمن خلال الكنيسة والخدمات الكنسية يصل الله إلى 1% من الشعب وبناء عليه كيف يصل المسيح لباقي الشعب. لنا أن نتخيل كيف سيكون الحال إذا شعر كل مسيحي بدعوته للخدمة في مكان عمله؟ كم سيصل المسيح إلى شعبه؟! وهل يمكن أن تتغير نظرتك لعملك إذا أدركت أنه دعوتك. على ماذا ستركز؟ هل على المشاكل أم الحلول؟ هل على الأزمات أم الفرص؟ على الماديات أم الثمر؟ عن التقدير أم عن الجودة؟ على التعب والمشقة والتأفف أم على البذل والعطاء؟ هل سنصنف العمل إلى روحي وجسدي؟
3) نعمل لنرضى الرب:
إن كنا قد اتفقنا أننا نقدم العمل للرب كما نقدم له عبادتنا وخدمتنا فلذلك يجب أن نقدمه بالأسلوب الذي يرضيه ويبهجه. ويذكر بولس أن يكون هناك بساطة قلب وطاعة واجتهاد كما للمسيح وذلك يضمن أمانة القصد والإخلاص في العمل وأيضًا بنية صالحة وهذا يصف الروح الطيبة والدوافع النقية ثم يقول أيضا من القلب أي بحب واتقان لا بخدمة العين كمن يرضى الناس أي لا لأجل مراقبة عين بشرية لنا في العمل بل لأجل الرب لأننا نقدم هذا العمل لله أصلًا ليس للناس. وهنا يجب علينا كمسيحيين أن نعمل مشيئة الله (العمل) بسرور وحب واتقان ودوافع نقية وبإخلاص وخدمة. هذا يقف صارخًا أمام قضايا الفساد الذي يشوه العمل. هل نحن كمسيحيين متورطين في هذا الفساد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟ ألا يحتاج المسيحي وهو يبدأ عمله أن يطلب امتلاء الروح القدس لكي يعمل العمل بطريقة تبهج الله؟
4) ننتظر المكافأة من الرب:
من أكبر المشاكل في العمل هي المقابل المادي أو الأجر الذي نتلقاه عن هذا العمل ويظل المال لاعبًا أساسيًا في اختيار نوعية العمل بل وللحماس للعمل أو التقاعس عنه. لا شك أن التقدير المادي أمر هام ويجب على المجتمع أن يقدر كل من يعمل فنحن في العمل نعطي جهدًا ووقتًا والوقت هو الحياة ففي العمل نعطي الصحة والحياة وننتظر تقديرًا مناسبًا لكن مرات لا يحدث هذا التقدير ونجد أن المقابل لا يتوقف على أمور العمل بل ظروف محيطة به مثل أراء أشخاص أو سياسات أو ظروف خاصة لكن علينا نعمل بمفهوم مختلف ونحقق دعوته الله إلينا في العمل ونعمل لكي نرضيه وهو لديه مكافأة شخصية لكل واحد لأجل هذا النوع من العمل. قد تكون هذه المكافأة مادية، أو معنوية داخلية، مثل الفرح بالثمر والخدمة أو مكافأة مستقبلية، أرضية أو أبدية لكن نثق أن الله يكافئ في العمل الأمين بطريقته الخاصة وأن كنا نعمل له فمكافأتنا من عنده هو.

كم سيختلف الوضع عندما يفكر المسيحي في عمله سواء الخاص أو العام في أي مهمة يقوم بها أنه يقدم هذا العمل للرب فيطلب المعونة والقوة من الله قبل أن يبدأ وعندما يعمل فأنه يعمل بطريقة وأسلوب يتوافق مع المبادئ المسيحية في كل تفصيله من تفصيلات العمل من أمانة واجتهاد واتقان وإخلاص وعدل وأيضًا انجاز وإبداع وجمال وأن يتعامل مع من معه سواء تابعين أو رؤساء بهذه المبادئ التي توضح رسالته ودعوته في عمله وأيضًا مصداقيته ونجاحه في هذا الدور. إن ديوان العمل أوسع بما لا يقاس عن دوائر الخدمات والأنشطة الكنسية والتعبدية. والأشخاص الذين يمكن أن يصل إليهم من خلال العمل سواء العاملين أو الجمهور الذي يتعامل مع هذه الأعمال أكثر جدًا بما لا يقاس عمن تصل إليهم الخدمات والأنشطة الكنيسة. ومن هنا يستطيع المسيحيون أن يغيروا العالم ويفتنوا المسكونة ويؤثرون أكثر جدًا كملح ونور لهذا العالم إذا كانت لهم نظرة مختلفة للعمل. قال ار. سي. سبرول أي مهنة تسدد احتياج في العالم الذي خلقه الله يمكن اعتبارها دعوة إلهية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى