الهدى 1210 يونيو 2019
عندما كنت أتجول في شوارع حي شبرا بالقاهرة، وكان ذلك منذ أكثر من ربع قرن، كنت أقف طويلاً أمام إحدى اللافتات الانتخابية لأحد المرشحين لعضوية مجلس الشعب، ويكمن سر وقوفي كثيراً أمام هذه اللافتة بالذات في إنها كانت لافتة متميزة عن بقية اللافتات التي حولها.
كانت اللافتة تُظهر شخصاً سمين البدن قوياً يرفع يديه إلى أعلى وهو ممسك بهما بقوة، وفوق صورته كُتب بخط كبير وواضح «الوحدة الوطنية هي الحل» مع صورة لهلال يحتضن صليباً. ولكم أعجبتني هذه اللافتة وأنا في سن صغيرة لم أكن أعرف بعد ماهي الدولة المدنية ولا الدولة الدينية ولا العلمانية ولا مثل هذه المصطلحات، التي تعج بها الصالونات الفكرية والمنتديات الثقافية، ولكنني وأنا صبي صغير أدركت أن هذا الرجل يختلف عن الكثيرين ممن حوله، ولكم أُعجبت به، وبشجاعته وببسالته وبسباحته ضد تيار التعصب والتخلف في المجتمع المصري، فالرجل رفع هذا الشعار في ذات الوقت الذي ارتفعت فيه لافتات أخرى زرقاء اللون كتب عليها «الإسلام هو الحل» وغيرها من الشعارات الدينية التي تدغدغ عواطف ومشاعر البسطاء.
لعلك عزيزي القارئ تريد أن تعرف من هو هذا الرجل الذي سبح ضد تيار التخلف في حملته الانتخابية منذ أكثر من ربع قرن تقريباً؟ إنه المفكر الراحل الدكتور فرج علي فوده الذي ولد في الزرقاء محافظة دمياط في 20 أغسطس 1945 وأُغتيل برصاص الغدر في الساعة السادسة والربع يوم 8 يونيو 1992.
وفرج فوده شخصية عظيمة جديرة بالتقدير والاحترام فالرجل في حياته لم ينافق أحداً، وكان شجاعاً بفكره وبقلمه في مواجهة التعصب والتطرف ودعاة الدولة المدنية، والرجل كان سابقاً لعصره لأنه رأى مالم يره غيره من مفكري ومثقفي عصره، ولقد تنبأ فرج فوده بما نحن فيه اليوم من فوضى وأصولية ومناخ طائفي محتقن.
فمن يقرأ كتبه ومقالاته يدرك أن هذا الرجل بعقليته الثاقبه وذهنه المستنير كان يستشرف المستقبل، وكان يتنبأ بما نجتاز فيه اليوم من محن بسبب الأصولية الدينة وقادة الإرهاب، وقاتلوه كانوا يعتقدون أنهم بقتله سوف يميتون أفكاره ويقضون على كلماته، ونسي هؤلاء أن للأفكار أجنحة تطير وتحلق بها في أجواء الجو العليا، ففرج فوده لايزال بيننا حياً رغم موته، وبعد كل هذه السنوات ونحن نسترجع ما كتبه في كتبه، نتيقن أنه كان يقرأ المستقبل جيداً، ومن ثم فهو سبق وتنبأ بالواقع المرير الذي نعيشه في يومنا هذا، فشهيد الكلمة الدكتور فرج فوده كتب عدة كتب منها: الحقيقة الغائبة، زواج المتعة، حوارات حول الشريعة، الطائفية إلى أين؟، الملعوب، نكون أو لا نكون، الوفد والمستقبل، حتى لا يكون كلاماً في الهواء، النذير، الإرهاب، حوار حول العلمانية، قبل السقوط.
وفي إعلائه لمبدأ المواطنة كان يقول فرج فوده «في مصر أناس وأنا منهم لو خيروهم بين العقيدة والوطن لاختاروا الوطن» وعن الانتماء للوطن قال «إن انتماء الوطن للمواطن هو المدخل لانتماء المواطن للوطن»
وفرج فودة لم يكن ضد الدين ولكنه كان ضد الأصولية الدينية، وضد الأحادية وضد السمع والطاعة فقال: «إن تنامي الجماعات الإسلامية وتيارات التطرف السياسي الديني في مصر، يعكس تأثير التربية والتعليم والإعلام في مجتمعاتنا، حيث التفكير دائماً خاضع للتوجيه، والمنهج دائماً أحادي التوجه والاتجاه، والوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها… الأمر الذي يدعو إلى التفكير، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعلامياً، والذي لا يعرض من الحقيقة إلا الجانب المضيء، ولا يعلن من الآراء إلا رأياً واحداً، ولا يدفع المواطنين إلا إلى اتجاه واحد، وهو من خلال ذلك كله يهيء الوجدان لقبول التطرف، ويغلق الأذهان أمام منطق الحوار».
وعن غياب المثقفين والقوى المدنية الحقيقية في أي دولة قال فوده:» تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة، ففي غياب المعارضة المدنية سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الإنقلاب العسكري، الذي يسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر، إلى سلطة دينية جديدة.. وهكذا، وأحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري كما حدث ويحدث في السودان».
وفرج فوده لم يكن ضد الإسلام كما زعم قاتلوه والمحرضون على قتله، ولكنه كان ضد خلط الدين بالسياسة، فهو قال: «لا أحدَ يختلفُ حول الإسلام/الدين، لكننا نتناقشُ ونجتهد حول: الإسلام/الدولة. الإسلامُ/الدين فى أعلى عِليّين، أما الدولةُ فهى كيانٌ سياسىّ، وكيان اقتصادى، وكيان اجتماعىّ، يلزمه برنامجٌ تفصيلى يحدد أسلوب الحكم».
وفي موقفه من العلمانية قال: «ليست العلمانية إنكاراً للأديان، وإنما هي إنكار لدور رجال الدين- بصفتهم رجال دين- في إدارة سياسة الدولة أو توجيهها» لقد طالب فوده منذ أكثر من ربع قرن بفصل الدين عن الدولة، وكان يرى أن الدولة المدنية لا شأن لها بالدين، وكان فرج فودة يرى أن الدولة المدنية الحديثة لا سيطرة فيها لرجال الدين، لذلك قال في كتابه «الحقيقة الغائبة»: إننا نقبل بمنطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي، لأن قضاياه خلافية، يبدو فيها الحق نسبياً، والباطل نسبياً أيضاً، ونرفض أن يٌدار الحوار السياسي على أساس الحلال والحرام، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً، وحيث تبعة الخلاف في الرأي قاسية لكونه كفراً، وتبعة الاتفاق والمتابعة قاسية أيضاً لمجرد كونها في رأي أصحابها حلالاً، حتى وإن خالفت المنطق، بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين، ويؤازره سلطان العقيدة في ساحة غير ساحتها بالقطع. وقال أيضا «إننا جميعا في حاجة إلى إعادة توزيع الأدوار، ليتكلم رجال الدين في الدين، و ليتكلم رجال السياسة في السياسة، أما أن يرفع رجال الدين شعارات سياسية إرهاباً، ويرفع رجال السياسة شعارات دينية استقطاباً، فهذا هو الخطر الذي يجب أن ننتبه إليه». كما أكد فودة في كتابه «قبل السقوط» إن فصل الدين عن السياسة وأمور الحكم، إنما يُحقق صالح الدين وصالح السياسة معاً، وإن من ينادون بعودة الخلافة، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وان أعجزهم حكم مصر هدموا مصر.
والدكتور فوده وكأنه يقرأ الواقع الثقافي المخزي الذي تعيشه مصر في هذه الأيام قال عن الأصوليين المتعصبين:»سيصرخون ضد الغناء، وسيغني الشعب، سيصرخون ضد الموسيقي، وسيطرب الشعب، سيصرخون ضد التمثيل، وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون، وسيملأون الدنيا صراخاً، وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستنفجر قنابلهم، وتتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غالياً حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع».
تصدى الدكتور فوده بقوة لشركات توظيف الأموال، ودافع عن الدولة المدنية بكل ما أوتي من قوة وقال «إن تسييس الدين وتديين السياسة وجهان لعملة زائفة عاصرها التجاوز وتجاوزها العصر» ولدعاة الدولة الدينية ومن يبغون خلط الدين بالسياسة كان يقول «إن عليهم أن يجاهدوا في نفوسهم هوى السلطة وزينة مقاعد الحكم وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه وأن يُفكروا قبل أن يُكفروا وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم وهي أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين»
وفي تعليقه على الموقف السلبي والمتردي للمثقفين المصريين قال فوده «يتحمل المفكرون في عالمنا العربي مسئولية كبيرة فيما حدث من نمو متزايد للتيار السياسي الإسلامي، فهم من البداية قد حددوا مناطق محرمه للحوار أو النقاش، منها ما هو تاريخي مثل ما يتعلق بحوادث التاريخ الإسلامي، ومنها ما هو سياسي مثل واقع الحياة (السياسية) في الدول التي تطبق ما تدعى أنه النظام الإسلامي، ومنها ما هو فكري مثل قضايا الفصل بين الدين والسياسة وقضايا الوحدة الوطنية، وقد زاد حجم هذا التراجع مع نمو الاتجاه الإسلامي الثوري، تحسباً للمستقبل وإيثاراً للسلامة، خاصة وأن من حاول منهم مناقشة موضوعات (فرعية) مثل الحجاب وبعض قوانين الشريعة، أشبعه المتطرفون والمعتدلون تجريحاً وهجوماً بل وإهانه، وكل ذلك في تقديري لا يشفع لمفكرينا في انسحابهم من مساحات كبيرة من الحوارات تتسع يوماً بعد يوم بزيادة حجم تراجعهم، بل والاستطراد في الصمت أمام ما يعتقدون أنه صحيح أو في مواجهة ما يعتقدون أنه خطأ» وقال أيضاً «مصر في حاجة إلى عشرة كُتاب في الصحف القومية لديهم الشجاعة على قول لا وعلى التصدي بالمنطق والحجة وقبل ذلك بوضوح الفكر لمن يواجهون المستقبل بعقول مغلقة وجيوب مفتوحة وسيوف مشروعة مصر في حاجة إلى عشرة كُتاب يخافون على وطنهم أكثر مما يخافون على أنفسهم ساعتها سوف يتغير وجه مصر وقبلها لن يتغير أبداً»
وفي خاتمة كتابه «قبل السقوط» والذي ناقش فيه فرج فوده العديد من القضايا مثل مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية وهوية مصر ورفضه للدولة الدينية وللسيف والحكم قال فوده «أخيراً، فما سبق كله كان اجتهاداً قد يخطي، وقد يصيب، لكنه محاوله لتفسير ما أعتقد مبدئياً أنه مآزق تاريخي، وتوضيح لما يمكن أن يكون خافياً، دون اعتبار لما يترتب على ذلك من نقد أو هجوم أو عداوة، عن إيمان بأن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق، وأن الكلمة أحياناً قد تمنع رصاصة، لأنها بالطبع أقوى، وبالقطع أبقى».
وفي عملية خسيسة ودنيئة ونظراً لعدم قدرة المتطرفين على تفنيد حجج فرج فوده ومقارعته الرأي بالرأي والحجة بالحجة هاجموه وهو مجرد من أي سلاح إلا سلاح القلم، فواجهوا قلمه بوابل من رصاص بنادقهم، ومات فرج فوده وفارقنا بجسده ولكن فكره الثاقب ورؤيته المستنيرة لا يمكن أن تموت، لأنه كان مؤمناً أن الكلمة أقوى وأبقى من الرصاصة.
وهكذا سيظل الدكتور فرج فودة حياً بأفكاره وبثوريته وبرؤاه الثاقبة وبمبادئه التي رفض أن يتخلى عنها حتى أخر قطرة من قطرات دمه بل ودفع حياته ثمناً في سبيل الدفاع عن هذه المبادئ.
ألم تثبت الأيام صدق ما قاله هذا الرجل منذ ربع قرن من الزمان؟ أعتقد إننا لو كنا صدقناه لما وصل بنا الحال في مصر المحروسة إلى ما وصل إليه من تديين للحياة العامة وتعصب وتطرف.
وفي ظل محاولة البعض لطمس هوية مصر وتغيير شكل الدولة المصرية، هل نطمع أن يطلق اسم الراحل فرج فوده على أحد الميادين العامة أو حتى على أحد الشوارع تأكيداً للدولة المدنية وتخليداً لذكرى هذا المناضل الشجاع الذي اغتاله الجهلاء برصاص الغدر وقلمه في يده ؟!!
واليوم وبينما عالمنا العربي يواجه ارهاباً غاشماً يريد أن يقضي على الأخضر واليابس، هل لدينا مفكرين ومثقفين يتحلون بشجاعة وجرأة فرج فوده؟!!
لا إصلاح بدون دفع ثمن.