عظاتعظات وتأملات

هل أخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله

الهدى 1219                                                                                                                               مارس 2020

في الآية الثانية والعشرين نقرأ: «وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِماً أَمَامَ الرَّبِّ» (تكوين 18: 1-33).
انصرف الرجال من بلوطات ممرا، وذهبوا إلى سدوم، أما إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الرب.

الجزء الأخير هو ما نريد أن تتجه إليه أفكارنا «أما إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الرب».
انصرف الرجال وذهبوا إلى سدوم وهناك صار الملاكان، وهما الرجلان، ظهر أنهما ملاكان، كانوا ثلاثة رجالٍ وقفوا عند حر النهار لدى إبراهيم أمام عينيه، وكان إبراهيم جالسًا تحت بلوطات ممرا حيث كان ساكنًا مع كل من له، مع سارة زوجته ووِلْدان بيته، وكان إبراهيم جالسًا تحت ظل شجرة البلوط، وبينما هو جالسٌ وإذ به يرى ثلاثة رجال واقفين لديه، فأسرع إلى إضافة هؤلاء الغرباء كما رآهم، وهي الإضافة التي أشار إليها الرسول في رسالته إلى العبرانيين فيقول: «لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناسٌ ملائكةً وهم لا يدرون (يعرفون)»، وكان ملاك العهد، يهوه، الرب الإله أحد هؤلاء الرجال الثلاثة، بل كان زعيمهم وقائدهم وسيدهم، وقد رآه إبراهيم هكذا فدعاه، دعا سيده وهو لا يدري، وإذ أجابوا سؤال الإضافة أعدَّ لهم مائدةً شهيةً، فجلسوا وأكلوا وظهر الرب يهوه وبرز من بين الثلاثة وسأل سؤالًا عجيبًا: «أين سارة؟».
«أين سارة؟»، سؤالٌ عجيب لرجلٍ غريب يسأل عن سارة زوجة إبراهيم، أين سارة؟ فلعل إبراهيم اندهش من هذا السؤال، ولكنه أجاب: هي في الخيمة، وإذا بهذا السؤال العجيب يُعلِن عن سائله، وإذ بهذا السائل العجيب يعلن ذاته قائلًا: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابنٌ». عجيبٌ هذا الغريب، وقد ضحكت سارة في الخيمة، وأعلن هذا الضيف الغريب أنه يعلم الأسرار، وقد ضحكت سارة في باطنها، وهو يعلم البواطن والسرائر فقال: «لماذا ضحكت سارة … هل يستحيل على الرب شيء، في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابنٌ»، فأنكرت وقالت لم أضحك فقال لا بل ضحكت. وقد ولدت سارة، إسحق (وهي الكلمة العبريّة ضحكًا، يضحك) حسب الوعد.
عندئذٍ تحقق إبراهيم أنه أمام شخصٍ عجيب هو الرب نفسه، يهوه، وإذ انصرف الرجال وتطلعوا نحو سدوم، وهنا بيت القصيد، كان إبراهيم يشيعهم في الطريق، يسير معهم وقتًا وإذا بالرب يقول: «هل أُخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله»، حينئذٍ انصرف الملاكان إلى سدوم وبقيَ الرب، «أما إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الرب»، وحده مع الرب، وحده، شخصيتان عجيبتان واقفتان الواحد بجانب الآخر، إلى هذا المنظر أريد أن تتجه أفكارنا.
هما رجلان، نبيان، هما خليلان، رجلان في المنظر، فقد رأى الرب واحدًا من ثلاثة رجال، وهو رجل، رجلان الواحد أمام الآخر، إبراهيم رجلٌ أمام الرب في صورة رجلٍ، متجهًا الواحد نحو الآخر، يرى أحدهما الآخر، يتحدث أحدهما مع الآخر كرجلين. ولكن ما أعظم الفرق بين الرجلين أحدهما من الأرض ترابي، الآخر الرب من السماء، وهل تفرق هذه التعبيرات كما قال الرسول بولس لتعزية المؤمنين بالقيامة، عندما تكلم عن صورتين للجسد، صورة الجسد الحيواني وهو الجسد الذي كان فيه إبراهيم في ذلك الوقت، وصورة الجسد الروحاني الذي كان يتمثل ويتجلى في ذلك الوقت في الرب نفسه. اعتبر صورة الجسم الحيواني الإنسان الأول الترابي، وصورة الجسد الروحاني، الآب السماوي، وقال كما لبسنا الترابي سنلبس أيضًا الجسد الروحاني.
وهنا صورة القيامة العظيمة، آدم الأول وآدم الأخير، إنسانان، الأول من الأرض ترابي الثاني من السماء، هكذا يكون الفرق، وهذه هي الصورة التي سنتغير إليها تتمثل في الرجلين الواقفين الآن معًا. في إبراهيم الإنسان الترابي، وفي الرب الإنسان السماوي، أما هذا الإنسان السماوي فقد كان يتجلى قبل أن يتجسد، وظهر الإنسان المتجسد مُتجليًا قبل أن كان متجسدًا، وقد سمعناه ماشيًا في جنة عدن، وقد رأيناه على جبل سيناء «وتحت رجليه شبه صنعةٍ من العقيق الأزرق وكذات السماءِ في النقاوة» أمام ممثلي شعب إسرائيل وقد أعد لهم مائدةً فأكلوا ورأوا الله متجليًا وتحت رجليه شبه عقيقٍ أزرقٍ جميل، وجه ذات السماء في النقاوة، وأعد الرب المائدة لموسى وهرون وسبعين من شيوخ إسرائيل فأكلوا ورأوا الله.
وقد رآه منوح وسأله: «ما اسمك؟» فقال: «لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيبٌ»، وإذا به يعمل عملًا عجيبًا، ففي اللهيب، لهيب المحرقة التي قدمها منوح صعد هذا العجيب إلى السماء، فقال منوح: نموت لأننا رأينا الله، فقالت امرأته لو كان الله يقصد أن يميتنا لما أرانا ذلك ولما أعطانا الوعد، وقد تصارع يعقوب كل الليل معه وصرعه وكسر حُق فخذه وهنا باركه، «فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل قائلًا لأني نظرت الله وجهًا لوجهٍ ونُجيَت نفسي».
وقد رآه نبوخذ نصر في النار في الأتون المُحمى سبعة أضعاف، الذي قتل جبابرة البأس الكلدانيين، رآه مع الفتية الثلاثة يتمشى وسط النار، فقال عجيبٌ هذا المنظر، تعالوا وانظروا ألم نلق ثلاثة رجال مربوطين فقالوا نعم، قال أنا أرى أربعة يتمشون والرابع شبيهٌ بابن الآلهة. أما عجيبٌ أن يسد أفواه الأسود في جب الأسود عن دانيال وينقذه، ويفرح قلب دانيال، عجيبةٌ هذه المناظر.
هذا هو الذي كان قائمٌ الآن وأمامه إبراهيم وجهًا لوجه تتمثلان في الطبيعة الإلهية والإنسانية يتحدثان فمًا لفمٍ، وجهًا لوجهٍ، بعد أن تناول طعام الغداء عنده.
هما نبيان، يقول: «هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله»، وسر الرب لأنبيائه، وقد كان إبراهيم نبيًا، كما دعاه الله عندما قال لأبيمالك: رد المرأة إلى رجلها فيصلي لأجلك لأنه نبي، وكنبيٍّ دعاه أن يخرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه «لأنه ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»، فدعاه أن يخرج ويذهب إلى أرض الغربة فأطاع بالإيمان، “بالإيمان إبراهيم لما دُعيَ أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي”، فقد كان نبيًا، وهنا يعلن له الرب سرًا من الأسرار.
وما أعجب أن يعهد إلى هذا النبي تلك المأمورية العظمى أن يوصي بيته، بنيه وبني بنيه من بعده ليحفظوا طريق الرب ويصنعوا حقًا وعدلًا لكي يأتي الرب بما وعد به، إعدادٌ لإتمام المواعيد الإلهية، أعطاه أن يكون وصيًا على بيته وعلى بنيه من بعده لكي يتمم الرب أقواله، وبأية نبوة، وما هي الكلمة النبوية التي يتنبأ بها الأنبياء؟ هي شهادة هذا النبي الحقيقي الواقف أمام إبراهيم النبي، ليعلن هذا السر المقدس الذي أقامه واختاره ليعرّف بيته وبنيه من بعده، بناءً على تلك الشهادة التي قال عنها الملاك للرائي وعن شهادة يسوع التي هي روح النبوة: «فقال انظر لا تفعل أنا عبدٌ معك ومع إخوتك» الذين عندهم شهادة يسوع، اسجد لله فإن شهادة يسوع هي روح النبوة.
فالكلمة النبوية، هي شهادة يسوع في الأنبياء الذين تنبأوا عن الخلاص العجيب قديمًا وهم يبحثون ويفتشون “عن الوقت أو ما الوقت الذي يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، الذي سبق فشهد (فيهم) بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها”. فالكلمة النبوية شهادة للمسيح، شهادة المسيح عن آلامه وأمجاده، شهادة العهد العتيق الذي نريد أن نلقي به ونقول إنه عتيق وقديم.
هذه الكلمة النبوية التي تشهد للمسيح كما قال للفريسيين والكتبة: «فتشوا الكتب» التي بين أيديكم، موسى والأنبياء والمزامير التي يُلقى بها الآن بترانيمٍ لا قيمة لها ولا تفيد شيئًا تاركين الكلمة النبوية «فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة وهي التي تشهد لي».
ولكن من هو الذي شهد بهذه الشهادة؟ هو النبي القائم الآن أمام إبراهيم، هو النبي الحقيقي الآتي إلى العالم، النبي الحقيقي الذي قال عنه الرب بفم موسى: «أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه»، هذا هو الشاهد الوحيد الأمين، الصادق، الشاهد في الكتب المقدسة التي نريد أن نستغني عنها، وكل ما جاء في العهد الجديد أنما هو تفسيرٌ للعهد القديم ولا نقدر أن نفهم التفسير إن لم نفهم المتن، الحق، هي الكلمة التي قالها بولس لتيموثاوس عن الكتب المقدسة: «أنك منذ الطفولية تعرف الكتب القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع»، «الإيمان الذي فيك الذي سكن أولًا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي»، الذين عنهما تعلم الكتب المقدسة.
«وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم». شهادة يسوع المسيح نفسه عن نفسه، شهادة الروح عن النور: «عالمين هذا أولًا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسيرٍ خاصٍ لأنه لم تأت نبوةٌ قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله مسوقين من الروح القدس»، وما جاء في العهد الجديد إنما هو تفسيرٌ للكلمة النبوية، شهادة المسيح عن آلامه وأمجاده في موسى والأنبياء والمزامير.
نبيَّان، نبيٌّ يعطي سرًا، وهذا السر يعلمه، وهنا نصل إلى حقيقةٍ نورانيةِ، خليلان، خليلٌ يعطي سرًا لخليله، حبيبٌ يعطي سرًا لحبيبه، وقد قيل عن إبراهيم أنه خليل الله، وأول من نطق بهذه اللغة إشعياء، بعد أن تغنى سليمان بنشيده: «حبيبي لي» وانا له وقد أنشد إشعياء نشيدًا عن كرْمٍ، نشيد محبٍ لحبيبه، وقد دُعىَ إبراهيم خليل الله مرة ومرتين، واقتبس الرسول يعقوب في العهد الجديد من إشعياء مفسرًا إياه أن إبراهيم آمن بالله «فحُسب له برًا ودعيَ خليل الله».
هذان الخليلان من نقيضان لكنهما الأن أحدهما أمام الأخر، الخليل السماوي يعطي أسراره، ويُعلِم الخليل الآخر، يعلن لخليله إلى أين هو ذاهبٌ، ولماذا نزل من السماء؟ ولماذا هذه الساعة؟ ولماذا الرغبة على سدوم وعمورة؟ فيقول له يا خليلي، هنا سرٌ أقوله لك: «صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدًا»، وقد صعد صراخها إليّ فنزلت، هذا السر الذي لا يعلمه أحد يقوله هذا الخليل الأسمى لخليله في الأرض: «نزلت لأرى» نزلت لأحقق، نزلت للمحاكمة وللدينونة وإلا فأعلم بعد التحقيق والمحاكمة ماذا تكون النتيجة. إعلانٌ عجيبٌ من خليلٍ لخليله، سرٌّ لا يعلمه أحد «وسر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم».
وهل يعمل الرب عجبًا ولا يعلن أنبياؤه به؟ وكثيرًا ما يخفي عنهم أمورًا أعظم وأسرارًا فائقة، ولكن لإبراهيم خليله يعلن هذا السر ويتقدم إبراهيم الخليل إلى خليله هذا بجرأةٍ عجيبة شغوفًا ناظرًا إلى مجد خليله وكأنه يقول ما قاله موسى بعد ذلك لما أعلن الله لموسى غضبه على شعبه العابد العجل الذهبي: «اتركني ليحمى غضبي وأفنيهم (هذا الشعب)»، فقال له حاشاك يا سيد فيسمع المصريون ويقولون لم يقدر الرب أن يدخلهم الأرض التي وعدهم بها وأهلكهم في البرية «ارجع عن حمو غضبك واندم على الشر بشعبك».
انظر إلى مجدك، هكذا نظر خليل الله إلى مجد الله وصلي طالبًا أن يتمجد ولا يقبل أن يُهان أو أن يقال عنه كلمة، يغار على حقه وعلى مجده وعلى شرفه وقدرته، فيتجرأ ويقول: «أديان كل الأرض لا يصنع عدلًا»، هل يقال هكذا، هل يصح؟ أنت ديَّان كل الأرض، أنت عالمٌ فانظر حاشا أن تفعل مثل هذا الأمر «أن تميت البار مع الأثيم» فيكون البار كالأثيم، حاشا لك «أديَّان كل الأرض لا يصنع عدلًا».
ويتدرج إبراهيم في الكلام إلى أن وصل إلى العشرة وهنا يأتي الجواب: «فقال لا أهلك من أجل العشرة» ويستمع الرب الخليل إلى أحاسيس خليله من نحوه ومن نحو مجده، وفي ذاته القدسية يرى أحاسيس خليله إبراهيم ووجهه العابس، طالبٌ الرحمة ليرحم الشعب ليصفح وهذا ما يُرضي خليله، وما يحبه ذلك الخليل الأعظم، الحبيب الأعظم، إلى المحبة، هكذا أحس. فينطبق طلب إبراهيم مع قلب خليله، مع محبته، و «المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارجٍ»، «المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق»، «أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم»، صلوا من أجل العالم من أجل الخطاة والأثمة الذين تحت الغضب الإلهي ليرفع عنهم الغضب بالتوبة الصادقة والمحبة.
خليلان كل منهما مملوءٌ بالمحبة لك، تنطبق شفاعة إبراهيم مع قلب الآب قلب المحبة، يقول اصفح، لا أفعل، لا أهلك، ما أمجد هذه الصورة العجيبة بين الخليلين، كيف نقف أمام الرب كم من إنسانٍ يمد يده ويمسك بطرس، بيد إنسانٍ لإنسانٍ، تمسك به فلا يغرق ولا يهلك إذ خاف والشك ملأ قلبه والأمواج تبتلعه، أمسك بيده، يد إنسانٍ لإنسانٍ.
وما أسمى كلمته النبوية في الكنيسة المقدسة، العهد القديم يفسره في العهد الجديد.
«فتشوا الكتب» وما أجمل أن يكون قلبنا كقلبه نحو الخطاة طالبين أن يرحم الرب، وأن محبته لنا أولًا في قلوبنا ثم في قلوب الآخرين. له المجد آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى