الخليقة الجديدة استرداد وتجديد
الهدى 1254-1255 مارس وأبريل 2024
مُقدِّمة
جميعنا على اختلاف انتماءاتنا الثقافيَّة، وقناعاتنا الدِّينيّة والسّياسيَّة والأيديولوچيَّة، نتّفق على تفاقم واشتعال العداوة بين البشر في كل أرجاء العالم. هذه العداوة التي تظهر على مُختلف الأصعدة، بداية من العداوات الفرديَّة المحدودة، وحتَّى التّحزبات العِرقيَّة والحروب والأعمال الإرهابيَّة المحليَّة والدَّوليَّة. تاريخ الأرض مليء بأنماط هذه العداوات، بل إنَّ بعضٌ يقول إنَّ تاريخ الأرض هو تاريخ الحروب والصِّراعات. وحتَّى على نطاق أصغر -ذلك الذي يُفترض فيه التوائم- تشتعل الصراعات البشريَّة بين أفراد المجتمع الواحد، والعِرق الواحد، بل وبين أفراد الأسرة الواحدة. لذلك، كان من المهم جدًا لنا أن نفكِّر لاهوتيًّا بعمق، في هذه الظاهرة المؤسفة، التي يضيع معها جهود دولٍ كبيرة، ومؤسسات دينيَّة وهيئات اجتماعيَّة، ومنظمات دوليَّة داعمة للسّلام. تاريخنا يذخر بآلافِ المحاولات الفاشلة لوأد العداوة بين البشر وإيقاف آلة القتل والدَّمار. لكن، لماذا هذه العداوة؟
تعال لنبدأ من البداية.
في البَدء، خُلِقنا على صورتهِ كشَبَههِ (تك 1: 24-27؛ 2: 5، 15، 19)
24 وَقَالَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ، وَدَبَّابَاتٍ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا». وَكَانَ كَذلِكَ. 25 فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. 26 وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». 27 فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. (تكوين 1: 24-27)
في مشهد الخليقة الكُلّيّ، خلق الله الحيوانات من جنس يميزها. لم يحدثنا الأصحاح الأوَّل من سفر التّكوين عن طبيعة هذا الجنس، لكنّ الله حين ابتدأ يخلق الإنسان، أصرّ أن يُعلن لنّا هذا التميز في جنس خلقته، حتّى لا نظن -مع التّقارب البيولوچي- أنّ جنسه كجنس الحيوان مثلًا. أعلن لنا الوحي الإلهيّ أن الله إذ أراد أن يصنع الإنسان صنعه على صورته كشبههِ، فما معنى أن نكون على صورة الله وشبهه؟
باختصار، يكون الشّيءُ على صورةِ الشّيءِ وشَبَههِ، متى كان من جنسه. فأنْ نكون على صورة الله، أي أنْ نحمل جوهر الله: صلاحه، محبّته، عنايته، رحمته، حكمته، عِلمه، سُلطانه، …إلخ -مع فارق القياس قطعًا. أعرف أنك ستسألني حتمًا: “ماذا عن عِلمه؟” وباختصار أيضًا أُجيبك، إنَّ تلك القُدرة الكامنة في عقل الإنسان لإدراك ناموس الله في الخليقة، والتي تمكِّنه من الاستنتاج، هي قبسٌ ووميضٌ من عِلم اللهِ في الإنسان.
وتدليلًا، يُكمل الوحي قائلًا: “فَيَتَسَلَّطُونَ…”، يُشير هذا الفعل بوضوح إلى السُلطان على الخليقة، ذلك الذي لم يكن إلّا لله وحده، حتى قرّر أن يُشرك الإنسان فيه، تطبيقًا لإرادته أن يكون الإنسان صورته وشبهه. تُحدثنا الآية الخامسة من الأصحاح الثّاني من سفر التّكوين، عن أن الله قبل أن يخلق آدم كان يُريد له أن يكون على هذا المستوى من الشّركة معه، فهذا الأمر لم يكن عرضيًا قط، تقول الآية: “…وَلاَ كَانَ إِنْسَانٌ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ.”، وهو ما عادت الآية الخامسة عشر والتّاسعة عشر لتؤكداه: “وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا…. وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا.“
الآن، هل تتخيل معي روعة هذا المخلوق، قياسًا على روعة خالقه؟ بل هل تتخيل معي مُستقبل البشر ومُستقبل هذه الأرض في عُهدة هذا المخلوق الجميل؟ حتمًا حتّى أضعف تخيلاتنا سترسم لأرضنا صورة أجمل وأروع بكثير مما نحن وهي عليه الآن. فماذا جرى؟ ومن أين تأصّلت تلك العداوة؟
ثُمَّ، سقطنا ومتنا وفسدنا كُليًّا (أفسس2: 2-3)
يوجِّهنا الوحي، لجذور تلك العداوة البشريَّة، إذ تُخبرنا كلمة الله في الكتاب المقدس عن نوعين متلازمين، من العداوة بين البشر، تعودان في بدايتهما، لواقعة تمرد آدم الأوّل، الذي منه انحدر جنسنا. ذلك التّمرد لم يتسبب في قطيعة تامّة بين بشريتنا وخالقها فحسب، بل كشف عن وجهه القبيح منذ فجر تاريخنا البشريّ، في عداوة قاتلة مُجرمة أطلقها قايين في قتله أخيه الأصغر هابيل. تتحدث رسالة أفسس عن قوة الشّر التي تعمل بجهد دؤوب، على ترسيخ عداوة لعينة دائمة بين البشر وخالقهم من جهة، وبين البشر وبعضهم من جهة أخرى. كانت فكرة الشيطان الرئيسة -وما زالت- كيف يقتنص الإنسان ويضمه إلى فريقه. لاحظ معي ما قطعه الله في أول عهد في الكتاب المقدّس، في الآية الخامسة عشر من الأصحاح الثالث في سفر التّكوين، إذ قال: “وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا.” بسقوط آدم انتقل تلقائيًا من فريق الله إلى فريق الحيّة، ولكي يسترده الله إلى فريقه ثانيّة، كانت هذه العداوة الإيجابيّة التي وضعتها نعمة الله بين المرأة ونسلها من جهة وبين الحيّة ونسلها من جهة، هي الضمان في وجه العداوة السلبيَّة التي أنشأها السُّقوط والعصيان. إذن، بدأت نعمة الله من اليوم الأوَّل!
ما زال الشيطان يُحشد كل قواته في العالم ليقتنص الإنسان ويضمّه إلى فريقه، تُخبرنا رسالة أفسس عن ذلك: “… رَئِيسَ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحَ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ” (أفسس ٢: ٢) وعمله هذا يؤثر في كل البشر، ويعُدَّ الكاتب نفسه مع جميع المؤمنين ضمن هذا التأثير، تقول الرسالة: “الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا” (أفسس ٢: ٣). يُشير حديث الرَّسول بولس المزدوج عن الجسد والأفكار، إلى طبيعتنا البشريّة السّاقطة.
صحيح أنّ آدم وحواء استمرا يحملان الصُّورة الإلهيّة. لم يصبحا حيوانين خاليين من المسؤولية الأخلاقية، بل بقيا بشريين بلا عُذر، ومُحاسَبين بالكامل. مع ذلك، تشوّهت صورة الله فيهما بالكامل. فقَدَ آدم ونحن، صورة الله وشبههِ. انفصلنا عن الله -بنفس فكرة اتصالنا السّابق به- وفقدنا حياتنا، أو حياته فينا، أو فعل إحيائه فينا وبنا، وانطبعت فينا طبيعة فاسدة تُعادي الله -في صلاحه، محبّته، عنايته، رحمته، حكمته، عِلمه، سُلطانه، …إلخ، وتجذَّر فينا فسادٌ كُلّيٌّ على مستوى الفكر والعمل، كما يخبرنا الأصحاح الثّاني من رسالة أفسس في كلمة ’’أمواتًا‘‘، فما عادت لنا القُدرة أو الإرادة أو الفكر أن نسعى إلى الله، وكان من الطّبيعي أن نُعبّر بكل الصور عن عداوتنا لله ولبعضنا وللأرض والخليقة أيضًا. يقول إقرار إيمان وستمنستر: “صرنا نافرين تمامًا من كلّ صلاح، وعاجزين عن فعله، ومقاومين له، وميّالين كليًّا نحو كلّ شرّ.“[1] عندما تأمّل جون جيرستنر في عقيدة الفساد الكامل في المبادئ الكالفينيّة، قال: “الفساد الكامل هو مُساهمتنا الأصليّة الوحيدة… نحن التربة القذرة التي يزرع فيها الله وردته، ومن قذارتنا ينتج شيئًا بجمال إلهي.” لكي نرى حاجتنا إلى نعمة فداء الله، علينا أوّلًا أنْ نتصالحَ مع ما يعلّمه الكتاب المقدّس عمَّ نحن عليه، أي أنّنا فسدة وأشرار بالكامل. لكن ماذا بعد، أليس هُناكَ مَفَرٌ؟
الله لأجل محبّته الكثيرة، أحيانا وأقامنا (أفسس 2: 4-10؛ تيطس 2: 11-14)
بلى، فتح الله لنا سبيلًا، دشّنه بدم ابنه وقدّمه بالنّعمة، فأحيانا من موتنا، وأقامنا من سقطتنا (أفسس 2: 4-10)، فلا يستمرّ المؤمنون بعد “ميّالين كُليًّا نحو كلّ شرّ“، بل يُجدد روح الله المؤمنين ليعملوا “مَا يُرْضِي أَمَامَهُ.” (عبرانيين 13: 21) يمكننا الآنَ أنْ نسلكَ “كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ” (كولوسي 1: 10) ويمكننا الآن أن “نُرضي الله” (1تسالونيكي 4: 1). أوضح الرَّسول بولس في رسالته إلى تيطس كيف تُمكِّن نعمة الله المفديّين من العيش باستقامة، إذ تقول: “لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ ٱللهِ ٱلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ ٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِٱلتَّعَقُّلِ وَٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى فِي ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ، مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ.” (تيطس 2: 11-14)
في حين أنّ هذه حقيقة مجيدة، لكن يستمرّ المؤمنون في مُحاربة الخطيّة السّاكنة فيهم بعد التّجديد كجزء من تقديسهم. وكما نصّ إقرار إيمان وستمنستر: “فسادُ الطبيعة هذا، خلال هذه الحياة، يبقى في الذين تجدّدوا؛ ومع كونه بالمسيح قد صُفح عنه وأميت، إلّا أنّ كلٌّ من الطبيعة نفسها، وكلّ نزواتها، هي فعلًا وحقًّا خطيّة.“[2] على حساب كفّارة المسيح وحدها، حسب الله كل برِّ المسيح لنا، وعلى أساس التَّبرير يمُكننا أن نُنكر الفجور والشهوات العالميّة، ونعيش بالتقوى في رحلة تقديسنا التي يقودنا فيها الرُّوح القدس، وتكشف لنا رسالة رومية من الإصحاح السّادس إلى الثّامن ديناميكيّة هذا التّقديس.
لا يقدِّم الإنجيل علاجا أخلاقيًّا سطحيًا لطبيعة العداوة الفاسدة والمُفسدة. لكنّه يقدِّم شخص المسيح وتدبير النّعمة التي قدِّمت لنا كفارةً وتبريرًا لا يتوقف على قدرتنا، ولا يتطلّب منّا عملًا. نعم، كان لزامًا أن يدخل الله في جنس بشريتنا فيكون رأس جنسنا الجديد، وكما سقطنا وانخرطنا في عداوة لله بعصيان رأس جنسنا القديم (آدم الأول)، فإنَّه بطاعة رأس جنسنا الجديد (آدم الأخير) قُتلت العداوة وعاد اتصال جنسنا بالله، لذلك تؤكد فيلبي 2: 8 على أنَّه: “وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.” فكما قامت العداوة بالعصيان، تسقط بالطّاعة. وهكذا كما سقطنا ومتنا في آدم الأوَّل، نحيا ونقوم في آدم الأخير، إذ يقول الوحي: “صَارَ آدَمُ، الإِنْسَانُ الأَوَّلُ، نَفْسًا حَيَّةً، وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحًا مُحْيِيًا.” إنْ كان آدم قد أدخل الموت إلى البشريّة من خلال عصيانه، فإنّ يسوع بموته أدخل الحياة: “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: ٱلْأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا” (2كورنثوس 5: 17)، وليس من سبيل لهذه الحياة إلّا من خلال ذلك الرّوح المُحيي. ماذا يجري إذن، في الخليقة الجديدة؟
الخليقة الجديدة استرداد وتجديد (1كورنثوس 15: 17؛ أفسس 2: 13 – 16)
تُعلّمنا كلمة الله أنّ الخليقة الجديدة مؤسسة بالكامل على قيامة المسيح، وقد قدَّم الرَّسول بولس قيامة المسيح بوصفها حجر الزاوية للإيمان المسيحيّ، فإن لم يَكُن المسيح قد قام من الأموات، لتصدّع كل البناء المسيحيّ، عقيدةً ونظامًا وعبادةً. «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ، …» بهذه الكلمات لخّص الرَّسول بولس مركزيَّة عقيدة القيامة لإيماننا المسيحيّ. في قلب الإيمان المسيحي مسيح حيٌّ! لقد كان خبر القيامة، كلمة الحياة لعالمٍ ميتٍ. في القيامة، خُتِمَ رجاء خلاصنا، وتجدَّدت خليقتنا، وتمّت نُصرتنا الأبديّة.
باختصار، يقول موريس يوسف في مقاله قيامة المسيح: رؤية مُصْلَحة:
يسقط أو يقوم كل لاهوت العهد الجديد على حادثة القيامة. دون القيامة، يقول موري هاريس: «يفقد العهد الجديد روحه، ويفقد الإيمان المسيحي الدُّعامة المركزيَّة، إذ إنَّ إيمان كنيسة العهد الجديد هو أولاً وأخيرًا إيمان القيامة.» يؤكد القديس أغسطينوس (٣٥٤م-٤٣٠م)، على عقيدة القيامة قائلاً: «إنَّه الإيمان بالقيامة، الذي يُمَيّزُ المسيحيّ، ويجعله مُتفردًا.» يؤمن الوثنيون بأن المسيح مات، وكذا يؤمن أيضًا اليهود بأن يسوع الناصريّ مات، وهم شهود على ذلك؛ لكن أنَّه قام من بين الأموات في اليوم الثّالث، فهذا أمر لا يعترف به الوثنيون أو اليهود. لذلك يمكننا القول أنَّ الإيمان بقيامة المسيح هو ما يُمَيّزُ المسيحيين عن غيرهم.[3]
القيامة هي بوابتنا إلى الخليقة الجديدة.
- استرداد الهُويّة (رومية 5: 18-19)
هل تذكر حديثنا في البداية عن خلق آدم وصورته التي كانت على صورة الله كشبهه، تلك التي فقدها بسقوطه؟ ما يجري في حياة القيامة هو استرداد تلك الهُوية المفقودة، وإعادة تشكيلها. ببساطة، تتشكل الهُويَّة بما تُعرَف به. يمكن أن تجد هويتك في عملك، أو في عِلمك ودراستك، أو في هواياتك، أو حتى في ملابسك. وبإيجاز، يمكنك أن تكتشف ما يُحدد هويتك عن طريق ملء الفراغ في جمل تبدأ بكلمة “أنا …..”، فماذا ستكتب؟ أحيانًا تكون هُوياتنا مُركَّبة، لكن بعض الجوانب تطغى أكثر وتحدّد هُوياتنا أكثر من غيرها. فإن لم تقدر على تخيُّل الحياة دون أمر ما، فهو يلعب بكل تأكيد دورًا أكبر من سواه في تحديد هويتك. لكن، حياة القيامة مختلفة، فبدلاً من أن تتحدد هُوياتنا بالأمور التي فعلناها قبلًا، فإن هُوياتنا تُحدَّد وتُعرف بعمل المسيح وبرّه. لم تعد هُوياتنا رهنًا بصعودنا وهبوطنا في منحنى النجاح والفشل. إذ إنّ هُوياتنا باتت تتحدد فقط بنجاح الله المطلق والفائق على فشلنا وخطيتنا، ويظهر في عطيته لنا، هبة الخليقة الجديدة.
تشرح رومية 18:5-19 هذا الأمر جيدًا إذ تقول: “فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً هَكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا“. وبسبب التّبرير يمكن لسّلام الله أن يسود على حياتنا.، قاتلًا العداوة بين جنسنا وبين الله، وبسبب التّبرير يمكن للمؤمنين أن يتيقنوا من خلاصهم. كما أن التّبرير يُتيح -إن جاز التّعبير- لله أن يبدأ عملية تقديسنا، حيث يجعل الله واقعنا مطابقًا للمكانة التي صرنا عليها. “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.” (رومية 1:5) وعليه، نسترد صورة خلقتنا الأولى ونعود لنُشارك الله صلاحه، محبّته، عنايته، رحمته، حكمته، عِلمه، سُلطانه، …إلخ، وسينعكس ذلك حتمًا -كما تشرح أفسس 2- على الخليقة والبشر في أعمالنا، فنعود نعمل ونحفظ خليقة الله في كل صورها.
- استرداد الشّركة (أفسس 2: 13-16؛ عبرانيين 10: 15- 23)
“وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ” (متى 28: 20)، توضّح كلمات يسوع الخِتاميّة السّابقة أنّنا لسنا وحدنا. الخليقة الجديدة في الحياة المُقَامة، هي علاقة تُسترَد بصورة دائمة مع الله، يستعيد فيها آدم قدرته على المثول بين يديّ الله، ومجاوبته، ومشاركته ثانية دون خوفٍ أو خِشيةٍ. ستعود هذه الشّركة والصّلة المقطوعة بين المخلوق وخالقه لِما كانت عليه، وتلتئم الهُوة التي سببها السّقوط وتزول العداوة، أوَّلًا بين الإنسان والله، وثانيًا بين الإنسان والإنسان. تشرح أفسس 2: 14 ذلك الأمر في صورة مجازيّة رائعة في الآيات من 13 – 16، قائلةً: “وَلكِن الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. 14 لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ 15 أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، 16 وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ.”
تقول عبرانيين 10: 15-23:
وَيَشْهَدُ لَنَا الرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضًا. لأَنَّهُ بَعْدَمَا قَالَ سَابِقًا: 16 «هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ 17 وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ» 18 وَإِنَّمَا حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهذِهِ لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ الْخَطِيَّةِ. 19 فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، 20 طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، 21 وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، 22 لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. 23 لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخًا، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ.
تَسترد الخليقة الجديدة شّركتنا مع الله، والوجود في حضرته، بل والابتهاج بذلك، مُستعيدة بذلك غرض الله لخليقته من البداية، والذي يمكن تتبعه في كلمة الله من التَّكوين إلى الرؤيا في العبارة المُتكررة: أن يكون الله لنا إلهًا ونكون له شعبًا. لتتأكد من ذلك ابحث عن هذه الكلمات في الكتاب المقدس، وسِر معها عبر أسفاره حتى تصل إلى صورة الاسترداد النِّهائيّة في رؤيا 21: 3 “هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ.”
بقي فقط أن أؤكد مع أفسس 2: 9، أنه: “لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.”
بيسوع المسيح وحده، بالنّعمة وحدها، ولمجد الله وحده!
- تجديد الحياة (رومية 12: 2؛ تيطس 2: 11-14)
الاستردادان السّابقان يستتبعهما بالضرورة تجديدان، أولهما هو تجديد الحياة، فكرًا وعملًا؛ أمّا فكرًا فهذا ما يشرحه بولس الرّسول في رومية 12: 2، إذ يطلب: “بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.” يضع بولس التّجديد الذّهني علامةً وقاعدة انطلاقٍ يؤسس عليها كل ما يليها من أعمال الخليقة الجديدة. فلا يمكن ألّا يُصاحب الخليقة الجديدة تجديد في الذِّهن، ذاك الذي كان مرفوضًا لا يثمر إلّا كل عداوة لله وخليقته، ما عاد مُمكنًا أن يبقى في ظلمته، لا بُد أن يتجدد بآخر يحيا في سلام مع الله، من خلاله يستطيع الإنسان الجديد أن يكون في سلام مع أخيه، بل ومع الخليقة كلها.
يُكمل بولس حديثه في رسالة تيطس عن ثانيهما، أي: التّجديد عملًا، فيقول: “لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ ٱللهِ ٱلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ ٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِٱلتَّعَقُّلِ وَٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى فِي ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ، مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ.” (تيطس 2: 11-14)
سأكرر عليك الآن سؤالي الأوّل، تخيل الآن معي ماذا يمكن أن تكون عليه الخليقة والعلاقات بين بشر يحيون بهذا المنهاج وهذا الرّجاء؟ حتمًا، بزوال العداوتان ستزول آلام الخليقة والأرض، وستنصلح العلاقات بين البشر، وتستقيم باستقامة أذهانهم وأعمالهم.
- تجديد الغرض (أفسس 2: 21؛ متى 28: 19-20)
أمّا عن التّجديد الثّاني، فهو تجديد الغرض والهدف والرِّسالة. في حديثه الختاميّ أيضًا في متى 28: 19-20، قدَّم يسوع نصًا تأسيسيًّا، نعرفه بـ الإرساليّة العُظمى قال فيه: “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. 20 وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.” في هذا النّص حدَّد يسوع الغرض والهدف والرِّسالة التي على المؤمنين في الخليقة الجديدة أن يحيوا لأجلها، أن يكرزوا بما عمله الرّب معهم، وبالبشرى السَّارة أنّه قد صار لنا سبيلًا به نُبطل عداوتنا مع الله ومع إخوتنا، فنعود إلى صورتنا الأولى، صورة الله وشبهه. هذا ما فهمته الكنيسة وصار أولويّة لها على مرِّ سفر الأعمال، حيث انطلقت الكرازة بالبشرى السَّارة تقشع ظلمات العالم، وتبدد برجائها يأس المُحطمين المجروحين ضحايا عداوة الله وعداوة أنفسهم. أصبحت الكرازة هي محور حياة الكنيسة، وهدفها الوحيد، الذي تصغُر أمامه كل الأهداف والمكاسب، بل صار المؤمنون هيكلًا لله بحسب أفسس 2: 21، ما يعني أنّهم تحولوا لمكان سُكنى الله بكل هيبته ووقاره وجماله أيضًا. تحولوا إلى مكان راحة للمتألم، ملجأً للغريب والمطرود. باختصار، تجديد الغرض في حياة أصحاب الخليقة الجديدة، يجعلهم محط سرور الله والنّاس، ويحوِّل حياتهم بكل تفاصيلها لأن تصبح لمجد الله وحده!
بادر الله فخلقنا على صورته لنُشاركه، لكنَّنا بتمردنا وعصيانا سقطنا في العداوة مع الله ومع خليقته، فعاد وأصلح -لأجل محبته الكثيرة- ما أتلفناه في أنفسنا، وجدَّد خليقتنا في المسيح يسوع، حاسبًا برَّه برَّنا، وواهبًا لنا بالنِّعمة وحدها برَّه، ليستردنا له فيعود لنا إلهًا ونعود له شعبًا.
الحواشي
[1] إقرار إيمان وستمنستر، الفصل السّادس، مادة 4.
[2] المرجع السابق، الفصل السادس، مادة 5.
[3] موريس يوسف، قيامة المسيح: رؤية مُصْلَحة، أغصان الكرمة، ع12 (المنيا، لجنة الإعلام والنشر في مجمع مشيخة المنيا الإنجيلي، 2022)، ص 61.