الهدى 1225 نوفمبر 2020
ما أكثر الذين يحلمون بتحقيق أهداف معينة، لكنهم يفشلون في ذلك، وهم في الحقيقة يعيقون أنفسهم بأنفسهم. فالاستسلام لليأس والفشل دون أية مقاومة، هو أسلوب التفكير القاتل الخفي والحقيقي لكل طموحهم.
وما أكثر الذين يريدون أن يعيشوا حياة مسيحية حقيقية، ويبدأون الطريق مع المسيح، لكنهم لا يستطيعون الاستمرار، لأن إرادتهم ضعيفة. والذين يسعون إلى اكتساب فضيلة روحية، لكنهم يخسرونها سريعًا، لأن إرادتهم ضعيفة. والذين يسعون لترك خطية، لكنهم يرجعون إليها ثانية، لأن إرادتهم ضعيفة. لذلك شدد المسيح كثيرًا في تعاليمه على إرادة الإنسان: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى 16: 24)، «إن أردت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا» (متى 19: 17)، «من أراد أن يكون فيكم أولًا، فليكن لكم عبدًا» (متى 20: 27). وفي مثل الدعوة إلى العرس الملكي قال عن المدعوين: «وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين، فلم يريدوا أن يأتوا» (متى 22: 3). وقد سأل مريض بركة بيت حسدا: «أتريد أن تبرأ؟» (يوحنا 5: 6). كما يختم يوحنا سفر الرؤيا بالدعوة: «من يرد فليأخذ ماء حياة مجانًا» (رؤيا 22: 17). هذه مجرد نماذج قليلة لتشديد المسيح على إرادة الإنسان، ومسؤوليته حيالها.
خلق الله الإنسان على صورته، في الإرادة. فإرادة الله مطلقة، وإرادة الإنسان نسبية. فهذه إحدى صفات الله التي يحملها الإنسان. ويمكننا تعريف الإرادة بأنها: {شعور داخلي وقوة كامنة في كل إنسان، مصدرها الرغبة في التغيير والتقرير والتحرير. وهي الباعث الأساس لكل فعل وتحرك، بعد وجود الفكرة الأساس. هي إحساس رائع لا يختبره إلا الأقوياء}. لكن ليس جميع الناس يستطيعون تطبيق إرادتهم في الواقع. أما حرية الإرادة فهي: {القدرة الذاتية على اتخاذ القرارات اللازمة والاختيارات المناسبة، دون التأثر بأية ضغوط خارجية}. فلا يمكن وصف أي فعل بأنه فعل إرادة، إلا إذا كان تنفيذا لقرار ذاتي حر. أما قوة الإرادة فهي ليست منحة من الطبيعة، لكنها تأتي نتيجة التربية والتدريب.
لماذا تضعف الإرادة؟
طبيعة الشخصية سبب أساس، فالشخص الاعتمادي التواكلي، دائما ضعيف الإرادة.. الإصابة باضطرابات نفسية، خاصة الاكتئاب.. الحياة الخاملة وعدم ممارسة الرياضة.. الاستمرار والاستسلام والاستعباد للعادات، خاصة المضرة.. عدم وضوح الهدف.. عدم وجود خطة واضحة لتحقيق الأهداف.. عدم الاقتناع الكافي بالأمر.. البيئة المفشلة التي لا تساعد على الابتكار والإبداع، ولا تشجع على الاستمرارية في النمو والتقدم.. هناك نماذج سيئة من القادة تقف عثرة في طريق تحريك إرادتنا.. الخ.
كيف تنهض الإرادة؟
من يريد أن يعيش الحياة المسيحية بالكيفية الصحيحة، يجب أن يكون حازما مع نفسه، عالما أن الثبات في الفضائل المسيحية أمر صعب. وكلمة {التدريب} هي كلمة السر للانتصار في معركة الثبات، تدريب الإرادة. بذلك تصبح الفضيلة عادة طيبة، ثم تتحول العادة إلى طبع جديد، ومع إرادة الاستمرار يرسخ الطبع الجديد في أعماق النفس. فماذا يعني تدريب الإرادة؟
المسيحية ليست مجرد معلومات دينية ومعتقدات لاهوتية صحيحة، فهذه فقط لا تكفي. فماذا ينتفع الإنسان لو عرف كل المعلومات الكتابية الروحية، دون أن يسلك فيها ويعمل بها؟ نحن نسمع كثيرا، ونقرأ ونطلع ونعرف الكثير، ونمارس الكثير من الطقوس الشكلية، فما تأثير ذلك على حياتنا؟ هل تتحول تلك المعرفة إلى حياة؟ فكما أن أجسادنا لا تستفيد مما نأكله بل مما نهضمه، هكذا الأمر روحيا، لا نستفيد مما نسمعه ونقرأه، بل مما نترجمه في حياتنا. وتدريب الإرادة هو تحويل تلك المعرفة إلى ممارسة، وتحويل المعلومة إلى عمل.
هناك من يترددون على الكنائس، ويحرصون كل الحرص على المشاركة في كل مناسبة، وربما يخدمون أيضًا، لكن عندهم طباع ضعيفة ثابتة في شخصياتهم! لأنهم لم يضعوها موضع الاهتمام، ولم يدربوا أنفسهم على تغييرها أو تركها. وهناك من اكتشفوا ضعفاتهم واعترفوا بها لأنفسهم، ومع ذلك استمروا فيها من دون أي تغيير! لأنهم استسلموا لها، ولم يدربوا أنفسهم على تركها. من هنا تأتي أهمية تدريب الإرادة، دخول في مواجهة ومصارعة مع النفس لترك خطية ما، أو لاكتساب فضيلة ما. ذلك التدريب يتطلب مني أن أعرف بأمانة: {أخطائي وضعفاتي، وأسبابها ومصادرها، وعقبات الاستمرار فيها، وطرق الانتصار عليها}. هناك صعوبة في بداية هذا الطريق، لكنها صعوبة مرحلية، لأن عملية تدريب الإرادة عملية تدريجية، مثل مراحل نمو الطفل حتى يبلغ. يتعلم الجلوس قبل الوقوف، ويتعلم الوقوف قبل المشي، ويتعلم المشي قبل الجري. فلا توجد طرق مختصرة للسير في الحياة المسيحية، واقتناء فضائلها الروحية.
ليست الخطية في إرادة السوء، بقدر ما هي في إساءة الإرادة. فالخطية لا تنحصر في مجرد إرادة الشر، بل في الإرادة الشريرة. بمعنى أن هناك أفعالًا سيئة نفعلها، لكنها تصدر عن إرادة صالحة! وهناك أيضا أفعالًا صالحة، لكنها تصدر عن إرادة سيئة! فهناك أناس يحبوننا فعلًا وصدقًا، لكنهم لم يتعلموا كيف يعبرون عن محبتهم، وقد يسيئون التعبير، لكن إرادتهم في محبتنا إرادة خيرة صالحة. والعكس، هناك من يظهرون لنا الكثير من الود وكلمات الحب، لكن إرادتهم من نحونا إرادة سيئة شريرة. لذلك يمكننا القول بأن خطية الخطايا هي إساءة الإرادة، أكثر من إرادة السوء. أليس هذا ما وقع فيه الإنسان الأول، آدم وحواء؟ لقد أساءا استخدام الإرادة الحرة التي منحهما الله إياها. فخطيتهما ليست أنهما أرادا سوءً، بل أنهما أساءا استخدام الإرادة التي منحت لهما.
لنأخذ نماذج لحياة التدريب من عظماء في الإيمان: {موسى النبي} كان حليما أكثر من جميع الناس، فهل ولد حليمًا؟ كلا.. لقد بدأ حياته عنيفا قاسيا، حتى إنه قتل رجلًا مصريًا. لكن الله أخذه إلى البرية ودربه لمدة أربعين سنة على الرعاية واللطف والهدوء، حتى وصل إلى ما وصل إليه. {يوحنا الحبيب} الذي عرف برقته وتشديده على المحبة، هل بدأ حياته هكذا؟ كلا.. لقد بدأ مع يعقوب أخيه تلميذين ليوحنا المعمدان، الذي عرف بعنفه وشدته، وقد أطلق عليهما المسيح لقب «بوانرجس» أي ابني الرعد، وكانا قد عرضا على المسيح أن يطلبا نارا تنزل من السماء على أهل السامرة، لأنهم لم يقبلوا المسيح. لكن المسيح درب يوحنا على المحبة والهدوء، حتى تحول إلى شعلة حب ولطف. {بولس الرسول} هل بدأ حياته كارزًا مبشرًا؟ كلا.. فهو الإرهابي القاتل، الذي اضطهد المسيح والمسيحيين، فكيف أصبح رسولا للأمم؟ عندما واجهه المسيح وكسر إرادته، فصرخ إليه: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أعمال 9: 5-6). وقد درب نفسه على الاكتفاء والقناعة بما عنده، من خلال الاختبار والممارسة (فيلبي 4: 11-12)، حتى نصح تلميذه تيموثاوس «أما التقوى مع القناعة فهي تجارة رابحة». وغير هؤلاء، هناك نماذج كثيرة للتدريب.
{عبرانيين 5: 11-14}
هذا فصل من أهم الفصول الكتابية التي تعلم عن التدريب، ويجب أن نقرأه بدقة. فالكاتب هنا يوبخ أولئك الذين آمنوا بالمسيح بسبب طفولتهم الروحية. لأن الإيمان المسيحي له فترة رضاعة قصيرة، يبدأ بها المؤمن الانفتاح على الفضائل الروحية ومسؤولية الإيمان. وبعد ذلك يجب أن ينسلخ ويرتقي من فترة الرضاعة والطفولة إلى البلوغ والرجولة. لكن مع الأسف الشديد، هناك من بدأوا الإيمان الصحيح، لكنهم ظلوا أطفالا. تبلدت مشاعرهم الروحية ومداركهم الروحية، وتصاممت مسامعهم عن كلمة الله وفهمها. فصاروا مثل الطفل الكسيح المعاق، الذي فاتت مرحلة نضجه. مثل هذا الطفل، كلما حاولت أمه إطعامه لحمًا وطعامًا دسمًا، لا يثبت في معدته، فيتقيأه. هكذا يكون المعوقون في الإيمان، لا يستسيغون كلام الله العميق، ولا يدركون المعاني الكبيرة، ولا يريدون سماع إلا القصص والحكايات كأنهم أطفال صغار في مدرسة الأحد. لأنهم لا يقدرون على فهم واستيعاب ما تعلمه كلمة الله ووصاياه. هؤلاء هم الذين يوبخهم الرسول هنا بشدة: «كان ينبغي أن تكونوا معلمين بسبب طول الزمان.. صرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوي.. أما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر».
من يريد أن يحيا الحياة المسيحية الحقيقية، عليه أن يدرب حواسه الإيمانية على التمييز، ويدرب حياته على قيادة النعمة الإلهية، ويدرب إرادته على فعل الصواب. ويدرب عقله على التفكير الصحيح، ويدرب قلبه على الشعور والإحساس الروحي، ويدرب لسانه على الكلام المفيد الذي يبني، ويدرب وقته على الحضور والمثول أمام الرب مع شعبه، ويدرب ماله على المشاركة المناسبة في عمل الرب، ويدرب علاقاته على بناء الجسور.. إن حياته هي دائمًا حياة تدريب الإرادة. ومع تكرار التدريب على الفضائل، تصبح الفضيلة عادة، وتتحول العادة إلى طبع، فيرسخ الطبع في أعماق النفس، فتنمو وتتقدم الحياة المسيحية. وأي إنسان يستطيع تكوين وتثبيت عادة جديدة في حياته خلال ستة أسابيع، وتصبح من طباعه. في ثلاثة أسابيع يكون العادة الجديدة، وفي ثلاثة تالية يثبتها.
{رومية 7: 14-24}
هذا فصل من أصعب الفصول الكتابية، يعبر فيه بولس عن ذلك الارتباك الداخلي والصراع المرير، الذي يختبره كل مؤمن، خاصة في بداية حياته الإيمانية، عندما يفعل ما لا يريده، أو لا يستطيع أن يفعل ما يريده. الفكرة الرئيسية هنا هي الصراع بين معرفة ما هو صحيح، وإيجاد القدرة الأخلاقية على عمله وتطبيقه. فيصور «الأنا» منقسمة ومتورطة فيما يشبه الحرب الأهلية ضد ذاتها. فعلى الجبهة الأولى يقف الإنسان الباطن والذهن النقي، وعلى الجبهة الثانية يقف الجسد بميوله وأعضائه. ويقول بولس إن رغبته القوية في أن يفعل الحسنى دائما تكون مهزومة بسبب ذلك الانقسام الداخلي، لذلك فهو مرتبك جدا بسبب النتائج غير المقصودة الناتجة عن أعماله، لأن ما يعمله ليس هو ما يقصده (ع 15، 19، 21).
إنه يتحدث بلسان الشخص الذي اقتنع بخطيته، لكنه لم يتجدد بعد، فهو يعرف إرادة الله، لكنه لا يستطيع أن يتممها. يريد أن يحلق عاليًا، لكن الجاذبية الأرضية تشده إلى أسفل. هذه حالة الذين اقتنعوا بخطاياهم بواسطة الناموس، لكنهم لم يتجددوا بعد بواسطة الإنجيل. فالناموس يكشف الخطية، ويقنع الخاطئ بخطيته، لكنه عاجز، لا يستطيع أن ينتصر عليها. لكن بولس وجد عزاءه العظيم في يسوع المسيح. كان يتساءل في صراعه: «من ينقذني من جسد هذا الموت؟»، وإذ وجد الإجابة الصحيحة، توجه بالشكر لله من أجل الجواب، المسيح الذي يشفع لنا عند الآب، الذي يغفر لنا وينجينا، ويرفع عنا ثقل الخطية. وبذلك يحثنا على القيام بما نستطيع بحسب قوتنا، وأن نطلب المعونة من المسيح في إتمام كل ما يتخطى قدراتنا.
هذا ما كتبه للمؤمنين في فيلبي: «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة» (فيلبي 2: 12، 13). فالله هو الذي يعطي الطاقة للضعيف لتتقوى إرادته في ذلك الصراع ويختبر النصرة. وهو لا يعطيها إلا لمن يطلبها بجدية واستعداد، فالسماء لا تساعد إلا من يريد أن يساعد نفسه. ألا نخضع إرادتنا لإرادته، متمثلين بالمسيح حين أخضع إرادته الإنسانية لإرادة الآب السماوي «ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت» (متى 26: 39). فمتى تقول لنفسك {حان وقت التغيير والإصرار عليه}؟ فلنسمع سؤال المسيح مجددًا: «أتريد أن تبرأ؟»، هل أنت مخلص وأمين في طلب شفاء إرادتك وتحريرها، وإخضاعها لإرادتي؟ فلننشد مع المرنم:
لتكن إرادتي كما تشاء بين يديك
وليكن قلبي لك العرش المريح
وليكن حبي سكيب الطيب عند قدميك
ولتكن نفسي دوامًا للمسيح