دراساتمقالات

الروحانية والشخصية السوية

الهدى 1221                                                                                                                                     مايو 2020

قال العالم النفسي هنرك لنك، بعد دراساته لحالات عديدة من المترددين على عيادته النفسيَّة: «مهما بلغت المساوئ التي نلمسها في أماكن العبادة والاستماع إلى العظات الدينيَّة، فإنّ كل من يعتنق دينًا (الروحانيَّة) أو يتردد على الكنيسة يتمتع بشخصية أقوي وأفضل مما لا دين له».

فالاستماع للعظاتِ، والاشتراك في الصلاة والتسبيح لله، لهم القوة الدافعة لتكوين شخصيّات سَويّة. وياحبذا لو كانت الروحانيّة التي يختبرها المترددين والمتعبدين في الكنائس، روحانيّة صحيحة مبنية على مفهوم النعمة، والكنيسة تتسم بالمحبَّة والعلاقات الصحيّة، وتمثل مجتمعًا للنعمة بحق. لكن من الحقائق _المُحزنة_ التي نحتاج إلى إدراكها، هي عدم وجود اختلاف كبير بين روَّاد الكنائس وغير المترددين عليها، في السلوكيّات، والتصرّف، والأخلاقيات؛ نكاد نقول أننا ككنسيين اليوم نحيا في أزمة أخلاق. حيث يمكنك أن تجد في بيوت المسيحيين هذه الأيام العديد من العلاقات المكسورة، والمبتورة، والفاشلة؛ فكثير من شعب كنائسنا ثابت على مُستوى مُعينٍ من عدم النضج الروحيّ، والكثير يظهر بمظهر الناضج روحيًّا، لكن واقعيًّا مازالوا أطفال، ومراهقون عاطفيًّا، ووجدانيًّا، ولا يجيدون التعامل مع مشاعر الغضب أو الحزن أو الجروح. فتجد -إن جاز التعبير- الكنسيين كثيري النقد واللوم والشكوى، ويقاومون كل ما هو جديد. أنانيون يتوقعون اهتمام الآخرين بهم، لكنهم يتعاملون مع الناس كأنهم أدوات لسد حاجتهم.

وجذور هذه المشكلة نابعة من روحانيَّة مغلوطة ولاهوت خاطئ وغير كتابيّ، مُنتشر في كنائسنا هذه الأيام. روحانيّة تفصل بين الدينيّ والدنيويّ، وتفصل بين ماهو ماديّ، وما هو روحيّ. وتفصل بين كل ما هو روحانيّ، وما هو وجداني.
يؤكد اللّاهوتي الكبير كارل بارت، أنَّ المسيحَ يُقدم للبشريَّة الألوهة الحقة، وكذلك الإنسانيَّة الحقة، وأنَّ الإنسانيَّة كجوهرٍ موجودة في ذات الله، وهذا ما تؤكده عقيدة الخلق، بأنَّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله (تكوين 2: 27). ويقول بارت، إنَّ إنسانيَّة الله قد تم تجاهلها على حساب ألوهيته. فالكنيسة اليوم أصبحت تركز على لاهوت المسيح أكثر من إنسانيته، وربما هذا ما جعلها تُحَقِر من الجانب الإنسانيّ، على حساب الجانب الروحيّ وتفصل بينهما. وفي عقيدتيّ الخلق والتجسّد تأكيد واضح على مدى قيمة ذاك المخلوق البشريّ. لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وطبع فيه صورته التي تشمل العقل، والإرادة، والعاطفة. فإن كان الله «يفكر منطقيًّا، ويتخذ قراراته بحرية إرادته، ويعبر عن نفسه بعواطف مختلفة ضمن طبيعته، فهكذا الإنسان أيضًا.» إلا أن صورة الله في الإنسان قد تشوّهت بسقوط الإنسان في الخطيَّة واعتداده بذاته. لذلك الله في محبته أعطي الإنسان الوصايا الأدبيَّة لتكون نبراسًا له ولتدعم صورة الله الأخلاقيّة في داخله والتي شوهتها الخطية. ومع العهد الجديد نجد أنه «بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرّر أمامه. لأن بالناموس معرفة الخطيّة.» (رومية 20:3)، أي أن الشريعة تبين عجزنا وحاجتنا إلى نعمة المسيح التي تبرّرنا مجانًا. لذلك جاء المسيح (التجسد) ليكمل الناموس، أي ليتممه وليعمق فهمنا له، وليحارب السطحيّة، والأصوليّة، والإزدواجيّة في فهم الوصيّة، وليُعلي من شأن الإنسان، ويُعلن أنَّ الوصيّة لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل الوصيّة.

إنَّ إيماننا المسيحي يؤكد على أن الله مرتبط بالعالم والإنسان ولكنه يتميز عنهما. لقد خُلق الإنسان على صورة الله الثالوث، فنحن نؤمن بإله واحد ولا نؤمن بإله وحيد. نحن نؤمن بوحدانيَّة الله، ولا نؤمن بوحدته. وهكذا الإنسان مرتبط بالآب الذي خلقه وبالابن الذي خلّصه وبالروح القدس الذي يُقدسه، والصورة التي خُلق عليها الإنسان بنوع خاص هي صورة ابن الله الذي تدعوه الرسالة إلى العبرانيين «بَهَاءُ مَجْدهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3). فالإنسان إذاً حاضر منذ الأزل في فكر الله وكلمته وصورته. إنَّ أجمل خلائق الله هو الإنسان. لذلك فالروحانيّة الحقيقية تُبنى أساسًا على قيمة الإنسان لدى الله التي اقتضته أن يتجسّد ويدخل حيز الزمان من أجل أن يصالح الإنسان لنفسه، وتتم المصالحة الإلهيّة بفداء الإنسان على الصليب. كما أن وجود صفات إنسانيّة خاصة بالعلاقة، مبنية أساسًا على وجود هذه الصفات في الله لكن بصورة أزلية. ووجود هذه الصفات، مبنية أساسًا على حقيقة الثالوث.

لقد أكد الثالوث على أزليّة العلاقة، وأهميتها في استقرار الوجود. وقد وهب الثالوث الإنسان الفرصة ليستطيع أن يقيم علاقات ناجحة مع بني جنسه من البشر. وهذا هو جوهر الروحانية الحقة التأكيد على أهميّة العلاقات مع الله، ومع الآخرين ودورها في تكوين شخصيّة سويّة، فالشخص السويّ بحسب الفكر والروحانيّة المسيحيّة، هو شخص يحب الله والقريب. وإن قيمة الفرد هي في ذاته، واحترامه وتقديره للإنسانيته، وفي نفس الوقت هناك ضرورة ارتباط الفرد بالجماعة. بل أنه يمكننا أن نختزل دور الروحانيّة الحقيقية في أنها تساعد الإنسان أن يصنع تصالحًا بينه وبين الله، وبينه وبين أخيه الإنسان.

والشخصية السويّة تقدم لنا نموذجًا للعلاقات الصحيحة التي يجب أن تكون عليه علاقات الإنسان بأخيه الإنسان.
وهكذا كانت دعوة الله للإنسان كلها تدور حول العلاقات: « تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك» (لوقا 10: 25-27)، فالعلاقة مع الآخر المطلق والآخر الإنساني ضروريّة جدًا للاستمتاع بالحياة بكل عمقها. والكتاب المقدَّس يؤكد بأن الوصيّة الثانية هي نتيجة طبيعيّة للأولى فمحبة الآخر تنبع من محبة الله، «لأنَّ من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟ ولنا هذه الوصية منه: إنَّ من يحب الله يحب أخاه أيضًا». فالعلاقة بالآخر ليست فقط دليل على محبة الله (الروحانيّة)، لكنها أساسيّة في التكوين النفسيّ للإنسان.
فالعلاقات التي بها قدر كاف من الأمان والقبول في فترة الطفولة تشكل الشخصيّة السويّة. كما أنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنها ضروريّة للبقاء على قيد الحياة بيولوجيًا. والإنسان يصل إلى الصحة النفسيّة بقدر ما لديه من وعي بعلاقاته الحاليّة والسابقة وكيف يتعامل مع هذه العلاقات بصورة أكثر صحة. من العقائد والركائز الأساسيّة في الفكر المُصلح عقيدة النعمة، وهي ببساطة تعني، أنَّ الله يحبنا ويقبلنا كبشر قبول غير مشروط، وهذه الفكرة لا توجد في أي دين آخر ولهذا فإنَّ الإيمان المسيحيّ يتعامل مع الإحتياج الأعمق للإنسان نفسيًّا وروحيًّا، فجوع الإنسان الأساسيّ هو للقبول من الآخرين.

لقد سدد المسيح عمق احتياج الإنسان القبول والأمان، إذ مات من أجل الخطاة «لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح من أجلنا». والسبب الذي يجعل علاقات الفرد بالآخر غير صحيّة هو عدم قبوله لنفسه لأنه بعيد عن المصدر الأساسيّ لقبول الذات، ألا وهو القبول من الله. وهذا ما أكده اللاهوتي المصلح جون كالفن بأن معرفة الذات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمعرفة الله.
وهذا يتم إذا أدرك الإنسان ذاته الطبيعية بدون تعظيم أو تقليل منها. والمُشجع لنا هو أنه لا يوجد إنسان على سطح هذه الأرض يشعر بالرضي التام عن ذاته، ولو فعل لتوقفت حركة نضج الشخصية لديه، فإنَّ القليل من عدم الرضى عن الذات يدفع الفرد إلى التطلع نحو الأفضل والأرقى، وهذا بدوره يؤدي إلى النضج النفسي.

يعرض اللاهوتيّ والطبيب النفسي فرانك ليك النظريّة التي يتفق عليها قطاع كبير من علماء النفس والمشورة واللّاهوت الرعويّ، وهي أن الإنسان يستمد قدرته على الحب وقبول الذات، من الحب غير المشروط، هذا يجعله يقبل نفسه ويشعر بما يُسمي بالثقة الأساسية Basic Trust وهي الثقة غير المشروطة في النفس، وفي الحياة، وفي الآخرين. أي أنَّ القبول هو المادة الخام الأوليّة التي تبني في الإنسان علاقة صحيحة بالنفس وبالآخرين وبالحياة، وتجعل داخله واحة من الأمان يلجأ إليها من عواصف وأعاصير الحياة. وهذه الثقة الأساسية هي التي تمكن الإنسان من أن يعبر البوابة التالية التي يسميها فرانك بوابة النضوج، وهي البوابة التي يعبر منها من مرحلة الأخذ فقط في الطفولة، إلى مرحلة الأخذ والعطاء والتأثير في الحياة وهذا هو النضوج النفسيّ الذي بدوره يشكل شخصيات سويّة.

إن الشخص السوي هو الذي يعرف قدر نفسه، أي يستطيع أن يعيش حياة متزنة، ويعيش في تصالح مع نفسه، مستمدًا قيمته وأمانه من داخله، وليس من أمور خارجيّة مهما علا شأنها. لا يخجل من أن يطلب المشورة والمساعدة من الآخرين. يتحمل نتائج اختياراته وقرارته، يدرك جيدًا أن هناك الكثير من الأسئلة التي لا إجابات عليها، هو شخص قادر أن يعرف ضعفاته ونقاط قوته ويعمل على تطويرها دومًا، لكي يتوافق مع نفسه ومع الآخرين. فالنضوج النفسيّ رحلة حياة نختبرها يومًا بيوم وينتج عنها شخصيّة سويّة، وأن النتيجة الحتميّة للنمو الروحيّ هي نمو ونضوج نفسيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى