دراساتدراسات كتابيةمقالات

الالتزام مقابل الحنث

الهدى 1215-1216                                                                                                     نوفمبر وديسمبر 2019

نتابع معًأ سلسلة علامات أساسيّة في الحياة المسيحيّة، وقد تناولت بعض العلامات، وفي هذا العدد ندرس علامة أخرى بعنوان: الالتزام مُقابِل الحِنْث.
الالتزام هو «الانضباط» كلمة سلبية تعني (التوقف عن/ الامتناع عن)، و «الالتزام» كلمة إيجابية تعني (العمل على/ القيام ب).
الانضباط يرتبط بالمحاذير، أما الالتزام فيرتبط بالتحريض على أعمال معينة مرتبطة بالعهد والوعد والوفاء بهما. و{الالتزام} أيضا كلمة صعبة على مسامع الذين ينادون بالحرية والتحرر، ويفهمون أن الالتزام ضد حريتهم. أما الالتزام فهو أحد أهم سمات الشخصية الإيمانية الروحانية: {ملتزم بوعوده وعهوده، وبكل اتفاق يبرمه، وبكل كلمة يقولها، وبكل نظام وترتيب يعيش في ظله، وبالمبادئ والقيم الروحية التي يتعلمها من كلمة الله. يعيش على مستوى المسؤولية، لذلك يحترمه الجميع، لأن كلمته لها وزنها وأهميتها، فالكلمة عنده أقوى من الاتفاق المكتوب الموثق والموقع منه. يحترم ما يقرره، ويفرض على نفسه القيام به. يحترم الأنظمة المدنية والاجتماعية والكنسية، ووصايا الله ويلتزم بالحياة بموجبها}. ليست هناك كلمة يمكن أن تعبر عن الحياة المسيحية الإيجابية مثل كلمة {الالتزام}.
أمثلة
(إبراهيم) أبو المؤمنين، التزم بطاعة كلام الرب رغم صعوبة تنفيذه عليه كأب لابن وحيد حبيب، اسحق. (يوسف) الشاب التقي، التزم بالحياة النزيهة الطاهرة، وانتظار الرب رغم الضغوط والمتاعب التي كان يتعرض لها لسنوات. (بولس) الذي طالما أكد لتيموثاوس على قيمة الالتزام: «لاحظ نفسك والتعليم، لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضا» (1تيموثاوس 4: 16)، «تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني.. وأما أنت فاثبت على ما تعلمت وأيقنت، عارفا ممن تعلمت» (2تيموثاوس 1: 13/ 3: 14). وفي المقابل هناك نماذج عكسية، وقد ظهرت حياة عدم الالتزام منذ البدء. (ادم وحواء) لم يلتزما بوصية الرب، فطردهما من محضره، وسقطت البشرية بسببهما في ويلات كثيرة. فما أكثر الذين يحبون أن يعيشوا متحررين من كل رباط واتفاق وشرط ونظام، ولا يشعرون بالمسؤولية، ولا يحبون الجدية في الحياة. ويحاولون تبرير عدم التزامهم بتقديم الأعذار والحجج، ويدعون أن هناك عواقب وعوائق في سبيل التزامهم.
في (لوقا 14: 15-24) قدم المسيح مثلا بين فيه هذه النوعية من أسلوب الحياة، من خلال ثلاثة أشخاص قدموا أعذارا سخيفة لعدم التزامهم قبول دعوة السيد. وينطبق على أعذارهم القول {عذر أقبح من ذنب}. الأول أراد أن يستعفي بسبب الحقل، والثاني بسبب البقر، والثالث بسبب الزواج. نلاحظ أن هذه أسبابا مشروعة ولا خطية فيها، لكنها عندما تكون غطاء لعدم الالتزام، فإنها تصبح من أكبر الخطايا. عندما نعتذر بأن الأمر خارج نطاق قدرتنا وإرادتنا، وأن الظروف جاءت معاكسة، أو أنه سهي علينا، أو أننا لم نجد الوقت الكافي والمناسب لنلتزم بما علينا. هذه كلها أسبابا خارجية ظاهرية واهية وسخيفة، لأن السبب الحقيقي الجوهري كامن في طبيعة الشخص الغير الملتزم. لأنه لم يدرب نفسه على احترام الأنظمة والقواعد، ولا على احترام كلامه ووعوده. ربما لم يجد في عائلته أو مجتمعه نموذجا يتعلم منه الالتزام، أو أن هذه هي طبيعة البيئة الأكبر التي يعيش فيها بشكل عام.
الالتزام بالوعود والعهود
الوعد هو الالتزام لشخص أو أكثر بأمر يأمله ويحبه، سواء كان ماديا أو معنويا. مثل وعدي بأن أعطيك جائزة. والوعد شئ يتم حدوثه في المستقبل مرة واحدة. أما العهد فيكون الالتزام فيه مؤكدا، كالميثاق أمام الاخرين، وهو واجب التنفيذ باستمرار في المستقبل، وفيه تحمل للمسؤلية. وما أكثر الوعود والعهود في حياتنا اليومية. وأريد هنا أن نتوقف فقط أمام أهمها في حياتنا المسيحية:

  • (1) {صف الاشتراك} أول عهد نتعهده يكون عند انضمامنا إلى عضوية الكنيسة. قد نكون أطفالا عندما ننضم إلى صف الاشتراك، ونمارس فريضة العشاء الرباني لأول مرة. لكننا في مناسبات كثيرة تالية نتذكر تلك العهود والوعود التي قطعناها على أنفسنا وقتئذ. فعلى كل سؤال وجهه إلينا الراعي انذاك كنا نجيب: {نعم نؤمن، نعم نتعهد}. فهل مازلنا على التزامنا بتلك الوعود: {الإيمان بسلطة الكتاب المقدس، التعهد بالالتزام بالمواظبة على قراءته ودراسته، حضور اجتماعات الكنيسة والمشاركة في أنشطتها، وحياة الطاعة… الخ}. وكانت إجاباتنا بنعم، وبناء عليها تم قبولنا في عضوية الكنيسة.
  • (2) {عند الزواج} حيث يقف الزوجان في محضر الله أمام الكنيسة ويجيبان على الأسئلة بكلمة «نعم»، وسط تصفيق الحضور وفرحتهم بهذه النعم. هل تتذكران هذه الأسئلة: {هل تتعهدان وتلتزمان بحياة الطاعة للرب، متمثلين بعلاقة المسيح بالكنيسة في الحب والخضوع؟}. وكانت إجابتكما «نعم»، وبناء عليها تم عقد زواجكما وإعلانه.
  • (3) {عند ممارسة المعمودية لأولادنا} حيث نسأل: {هل تعد أن تربي أولادك في مخافة الرب، وأن تعلمهم الحقائق الإنجيلية عن الخلاص، وتكون مثالا لهم في حياة التكريس وحضور اجتماعات الكنيسة، والصلاة معهم ولأجلهم؟}. وتكون الإجابة: «نعم نؤمن، نعم نتعهد». وبناء عليها تتم ممارسة المعمودية للطفل.
  • (4) {عند الرسامة} بالنسبة للبعض، حين يرتسمون لوظائف في الخدمة الكنسية، حيث يسألون قبل رسامتهم لوظيفة قسيس أو شيخ أو شماس: {هل تتعهد بأن تقوم بجميع واجبات هذا المنصب بأمانة ومن دون تقصير؟ وتبذل قصارى جهدك في نهضة الكنيسة؟}. وتكون الإجابة «نعم»، وبناء عليها تتم الرسامة. ويضاف إلى ذلك العهود التي نقطعها على أنفسنا، والتي تتعلق ببعض الوظائف، مثل المحامي، والطبيب، والجندي.
  • (5) {في الصلاة} عندما نقف بين يدي الله ونتعهد بترك الخطايا، أو بالقيام ببعض الأعمال الصالحة والصحيحة، أو بالمواظبة على قراءة الكلمة والصلاة، أو ببدء حياة جديدة أكثر نشاطا وأمانة… الخ؟ ما أكثر وعودنا للرب في العديد من المناسبات، رأس السنة الجديدة، عيد ميلادي، أو عندما أقع في ضيقات وأزمات، فأنذر نذرا إذا نجاني الرب، بأني سأفعل كذا وكذا، وسأقدم كذا وكذا. وبعد انقضاء حاجتي، أنسى وأتناسى عهودي، ولا ألتزم بها.

فإلى أي مدى نلتزم بعهودنا ووعودنا للرب وللكنيسة وللناس؟ يقول الحكيم: «إذا نذرت نذرا لله، فلا تتأخر عن الوفاء به. لأنه لا يسر بالجهال. فأوف بما نذرته. أن لا تنذر خير من أن تنذر ولا تفي» (أمثال 5: 4-5). فأين ذهبت كل تلك الوعود والعهود؟ أم أننا نقوم بتمثيل بعض المشاهد الكنسية: العضوية، المعمودية، الزواج، الرسامة، الصلاة… الخ؟
نعم نعم، لا لا
علم المسيح في موعظة الجبل: {يجب أن يكون كلامكم صريحا واضحا ودقيقا، وغير مصحوب بالحلف أو القسم. فالإنسان الصالح لا يحتاج إلا لكلمته وشخصيته كالضمان الوحيد لصحة ما يقول. فليكن كلامكم نعم نعم، لا لا. أما ما يزيد على ذلك فهو من الإنسان الشرير}. فإذا أردت أن تؤكد صحة كلامك وعهودك ووعودك، فهناك قسم واحد مثالي، هو كلمتك التي تعبر عن شخصيتك. لا تقل ما هو أكثر من: {نعم سوف أفعل، أو لا لن أفعل}، وليس أكثر. فإذا كنت شخصا أمينا ومستقيما وملتزما، فلن يشكك أحد في كلامك ومصداقيتك ونيتك. فالحلف لا يجعل كلامك أكثر مصداقية، الحلف نوع من الضغط على مستمعك لتجبره أن يصدق ما تقول، ومصادرة لحقه في مراجعة كلامك وفحصه، ومصادرة لحقه في قبول أو رفض كلامك. الذي يحلف كثيرا مشكوك في صحة كلامه ونيته كثيرا. ومع ذلك، للأسف الشديد، نجد أن الحلف عادة من العادات السيئة المألوفة، مثل: (بشرفي، وحياة أولادي، ورحمة أمي… الخ).
الشخص الملتزم شخص يحترم نفسه وكلمته ووعوده، ويحترم علاقته مع الله والناس، لذلك فهو دائما موضع تقدير الناس وثقتهم. فأنت تشعر دائما بالراحة وأنت تتعامل مع شخص ملتزم دائما بكلمته. لأنك إذا اتفقت معه على شيء، تنام مستريح البال، لأنه سوف يفي بكلمته مهما كان. لأنه عندما يقول «نعم» فهو ملتزم بها، وعندما يقول «لا» فهو ملتزم أيضا بها. أما غير الملتزم فإنه «يحنث»، أي (يخلف الوعد، ويميل عن الحق، وهو الذنب العظيم). فالحانث يسلك على هواه، ولا يحترم كلمته، ولا يفي بوعوده، ويظن أن التحرر من الوعود والعهود والأنظمة والقوانن هو من البطولة والحرية. بينما الحرية في معناها الحقيقي هي التحرر من الرغبات والميول الفاسدة، والتحرر من العادات التي تستعبد الإنسان. وإذا لم يلتزم غير الملتزم، فإن المجتمع قد يضطره ويجبره على الالتزام، وذلك يكون إلزامًا وليس التزامًا.
لقد وضع المسيح بذلك قاعدة للنجاح ومصدرا للسعادة {الالتزام بما نقول}. إذ رأى أن الناس ينكثون وعودهم ويستخدمون عبارات مقدسة واسم الله في قطع تلك الوعود باستخفاف. مثل الذي يدعى لحضور الكنيسة فيقول: (إنشاء الله، إذا الله أراد)، بينما ليست لديه النية في الحضور. فهو بذلك يستخدم اسم الله وكأنه يبرر به عدم التزامه. فلا تقل: (إنشاء الله، إذا الله أراد)، إلا إذا كنت عازمًا بحق على الالتزام بما تقول، ومستعدا للتجاوب العملي مع إرادة الله ومشيئته. واستخدم كلمات بسيطة واضحة، ليس أكثر من (نعم، لا) وكأنك تنطق بها أمام الله.
ماذا أرد للرب على حسناته لي؟
هذا سؤال المرنم لنفسه في (مزمور 116)، الذي بحث فيه كيفية التعبير العميق والصحيح عن شكره للرب. وقد أجاب على سؤاله بثلاث خطوات: {أولا، أتناول كأس الخلاص شاكرا فرحا. ثانيا، أدعو باسم الرب وأذيع البشرى فرحا. ثالثا، ألتزم بالوفاء بوعودي ونذوري أمام الله والناس، فأحققها جهارا، وأكون قدوة وبركة للاخرين. هذه هي الكيفية العملية التي بها أشكر الرب على كل حسناته لي}. فالإنسان المسيحي الحقيقي يعيش حياة روحانية، عميقة، منضبطة، وملتزمة. فلنصل: {أعطني يا رب روح الالتزام، فأوفي بكل عهودي وتعهداتي، ولا أحنث بأي منها}.
قلبي اشتهى يا ربي عهدا لك أمين .. عهدا يضم قلبي لك كل السنين
زد ربي قربي منك في عهد لا أنساه .. حتى أذوب فيك ما دمت في الحياة
وحد قلبي في خوفك علمني يا الله .. ثبت عهدي في شخصك يا سامع الصلاة.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى